وصف المدينة بأسواقها ومحلاتها
يمتد السوق الذي يستدير الى اليسار بزاوية حادة ليضم محلات البزازين باعة الأقمشة ويتفرع منه الى اليمين سوق الخياطين الى أن يصل الى نقطة الى اليمين منه فتجد سوقا صغيرأ للخرازين، أي من يتعاملون بالجلود، ويؤدي الى محلة البغادة فمن واستمراره الى الشمال يدخل منطقة باعة التبوغ ثم يؤدي الى دائرة البريد والى نهر الفرات. ومن هذا الفرع يخرج فرع الى اليسار منه يضم سوق الصاغة للذهب والفضة. وفي آخره بعض الحدادين ثم سوق القصابين. وينتهي السوق المسقوف بساحة واسعة مكشوفة هي الصفاة حيث يكون البقالون ومحلات بيع الخضراوات والفواكه في دكاكين غير ثابتة. فتجد القرويات يبعن منتجات الحليب من زبدة وروبة لبن وفي طرف الصفاة هذه وقفة واسعة للحيوانات. وأكثر هذه الحيوانات من الحمير أو الجمال أو الغنم والماعز و الدواجن وهي إما أن تكون معروضة للبيع أوأنها بإنتظار أصحابها للعودة بهم الى مناطقهم وفي الصفاة مقهيان واسعان أو ربما ثلاثة، أذكر أن أحدهما يملكه علي المظلوم والآخر طعمه بن مرداس، ويبدأ العمل بهما عصرا حين تكون أشعة الشمس قد بدأت تميل الى الغروب، فترص الكراويتات المقاعد ومعها كراسي الخيزران وترش الأرض المتربة بالماء تخفيفا للحرارة وتثبيتا للتربة. وكان كل ما تقدمه هذه المقاهي لزبائنها الشاي بالاستكان وهي أكواب صغيرة تميز أهل العراق باستخدامها لشرب الشاي . كما توفر الدومينو والطاولي النرد لمن يطلبها.
للمدينة ثلاثة مقاهي تفتح صباحاً لكونها تقع في الظل وهي مقهى الشكرجي و مقهى سلمان الداوود، وقد كان هناك مقهى كبير يملكه ويديره المرحوم ناصر الولي، كان يغني فيه أحيانآ المطرب الشعبي المشهور ناصر حكيم،وكزار تبينه حتى طرق سمعي ذات مرة كانت تبث من إذاعة بغداد أغنية لهذا المطرب كان يردد فيها القول آه يا ناصر الولي .واغلق هذا المقهى بعد ثورة السوق عام 1935م والى شمال الصفاة تقع مخازن الحبوب (السيف) بكسر السين. وأشهرها سيف الذرب وسيف الدهش. وإذا ما تركت السيف وراءك فستكون قد وصلت الى مرآب (كراج) المدينة حيث تقف سيارات الأجرة لنقل الركاب الى الناصرية و ربما الى ما بعدها. والى شمال ذلك بمحاذاة نهر الفرات توجد علوة الأسماك حيث تعرض الأسماك التي تم اصطيادها من النهر أو من هور الحمّار القريب من المدينة. تقع بعد هذه العلوة محلة النيايير (النجارين) الذين يصنعون البسيط من الأثاث من سعف وجريد النخيل كالكراسي وأسرة النوم ومهود الأطفال وأقفاص الطيور . الملاحظ أن سوق الشيوخ لم تكن مؤهلة لزيارة السياح سواء من العراقيين أو من غيرهم فهي تخلو من المطاعم والفنادق، عدا محلات الكباب ومسافر خانة استخدمت كمدرسة أولية لبعض الوقت وكان في المدينة خان العجم الذي يأوي عمالا ايرانيين وغيرهم من الحرفيين ،تمثل في وصول قوافل البدو القادمين من البادية للتبضع من سوق المدينة من الحبوب والتمر، وكنا نشتري منهم (المكل) بتضخيم الكاف، وهو حليب الناقة المجفف وهو غذاء جيد يتميز بحموضة مستساغة. وإضافة الى هذا فهم يحملون معهم الحطب الصحراوي الجاف من الغضا(جذوع الشجيرات ) والرمث” بكسر الراء و الميم “ وهي الفروع الرفيعة من تلك الشجيرات الصحراوية و تكون سريعة الإشتعال. وكانت القافلة تستقر في منطقة البدعي الى أن ترحل بإبلها المثقلة بما اشترت من خام وطعام خصوصا الحبوب والتمور كما أن المثقف هو من يدرك ويعرف متى يكون حيث هو من سير الزمن، ماضيه وحاضره ومستقبله ، بمثل ما يدرك ذلك الحدث أو الظاهرة التي يبحث عن الحقيقة فيها ، فذلك لعمري هو التاريخ, فبهذا المفهوم للمنهج العلمي، نرى أن تاريخ مدينة سوق الشيوخ يقدر بأكثر من مائتين وخمسين عاما “1761م” حين أعلنت عن وجودها كمركز حضري يعتمد عليه.
مدينة صغيرة
لا أدري سبب انتعاش الحركة الثقافية في مدينة صغيرة منعزلة نوعا ما كسوق الشيوخ ،علماً بأن فيها أول مكتبة أنشأت خلال الحرب العالمية الثانية. فلقد كثر فيها المثقفون من دبلوماسيين وأطباء و رجال قانون ومربين وفنانين وأدباء وشعراء ، بل وحتى رواد حركات سياسية . فأنت تجد فيهم القومي والشيوعي وفيما بعد البعثي. ربما كان لبساطة الحياة وجمال الطبيعة حولها أثر بالغ في ذلك. لقد كان عبد الرقيب اليوسف وحمدي الحمدي ومجيد النجار وسلمان عبدالرحمن ومعن العجلي و إبراهيم عثمان و شاكر حيدر ومصطفى جمال الدين وغيرهم أدباء و شعراء و خطباء كنت ترى لفيفا من هؤلاء الطيبين يجوبون محيط المدينة عصرا يتطارحون الشعر أو يلجون أبواب السياسة و الفلسفة ، فما أشبههم بالمشائين من الفلاسفة اليونان أتباع أرسطو، وهم يقرؤون كل ما تقع عليه اليد من نتاج أدبي عربي أو عالمي وبالأخص من الأدب المصري كمجلة الرسالة و تراجم المنفلوطي لعيون الأدب الأوروبي الرومانسي كروايات ماجدولين و سيرانو دوبرجراك و ألام فرتر ولقد أعطت مدينة سوق الشيوخ للعراق فنانين مثل الملحن عازف القانون الماهر سالم حسين والمطرب ناصر حكيم من منطقة الثامرية واصدقائهم من الشطرة حضيري ابو عزيز وداخل حسن وهم رواد الأغنية الريفية. و لفن التصوير باسم محمد عارف . ليس هذا فحسب فقد كنا ونحن صبية نستمع إلى برامج الموسيقى الكلاسيكية من إذاعة لندن التي تبث باللغة العربية ، وكنا نسميها الموسيقى الغربية، فكنا منجذبين اليها دون فهم ، وكان فريق من أقراننا يسخرون منا وينعتوننا (بالمتفرنجين) وإعتقادي أن السبب هو تخلفهم عن تذوق هذا الفن العالمي الذي هو ملك للبشرية عبر المكان و الزمان كما أن إذاعة بغداد كانت فيما بعد تذيع أمسيات يعزف فيها كل من ساندو ألبو على الكمان وجوليان هرتز على البيانو ،وهما فنانان هنغاريان انتدبا للتدريس في معهد الفنون الجميلة الذي كان يديره الشريف محي الدين حيدر، ومن هناك خرجت الفرقة السمفونية العراقية للوجود وأنجبت موسيقيين كبارا في مقدمتهم بياتريس أوهانسيان وغيرها. نعود لحالنا نحن الصبية ، فقد كنا الى جانب ما تقدم نحفظ ونقلد أغاني محمد عبد الوهاب حين كنا نمضي أمسيات الصيف جالسين على الجسر تتدلى أرجلنا في مياه الفرات المنعشة ونحن نتبارى بأغنية ( عندما يأتي المساء) وغيرها يشهد علينا القمر من عليائه مضيئا صفحة النهر، ألا سقى الله تلك الأيام الجميلة التي مرت كحلم صيف ومن اصدقاء الصبية سامي عزيز صفوك وخضير عوض هلال وناظم عبد حسن مشري وعبد الحسين ابو تيجان وسعد الحربية وفاضل جبار وانعام البطاط (والي) وشعبان عبد الله عاتي ومجيد مبدر ياسين.
في مقهى كاظم يوسف ومقهى جاسم دبه
كان لمقهى جاسم دبة وكاظم يوسف في الستينيات الأثر الكبير والبالغ في تنمية الحركة الادبية، فكان من حضور تلك المقاهي الجيل الثاني من رواد الشعر ومنهم محمد جواد حيدر و وسلمان عبد الرحمن ومعن العجلي ومجيد النجار وعبد الكريم محمد علي ويعقوب الحمداني وعبد المنعم حسين القطان وخضر سلمان الحسيني و حسن خيون ال شهاب وعكاب سالم الطاهر وجعفر علي العيد وآخرين. وهذه الحركة الادبية ظهرت بعد ثورة 14 تموز 1958 م عندما انفتح العراق الى العالم اكثر من قبل وانتشار وسائل الاعلام كالراديو والتلفزيون ولو ان اهل القرى لم تصل اليهم الكهرباء الا في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. مرت الايام والليالي والسنين ولم نر احدا من هؤلاء لافي شوارع المدينة ولا في المقاهي ، ولكن بعد البحث وردتني اخبار عن بعضهم اذكر الشاعر محمد جواد حيدر وعبد المنعم حسين القطان وجعفر العيد وخضر السلمان وعبد الكريم محمد علي ويعقوب الحمداني في ذمة الخلود واما حسن خيون و عكاب سالم الطاهرفهم في الغربة وغيرهم، ومن بعض المقاهي التي اشتهرت آنذاك وظلت شاخصة حتى مطلع الثمانينيات هي :
مقهى الحاج عبد /داخل السوق
مقهى غضبان/ عمارة الحميضي
مقهى سعدون/ عمارة الحميضي
مقهى الحاج لطيف/ شارع الكورنيش
مقهى عظيم /شارع لطفي
مقهى كاظم يوسف/ الشارع الرئيسي
مقهى شوني /الشارع العام
اما المقاهي هذه فقد اندثرت ولم يبق منها الا القليل ,واما المضايف فهي ايضا في طريقها الى الاندثار لتحل محلها البرانيات او الديوانيات على لهجة اهل الجنوب، وظهرت مجالس للمساجلات وللمناظرات الشعرية هي الاندية ايام السبعينيات او المراكز الثقافية التي تم انشاؤها وتسميتها بالمراكز الثقافية في الوقت الحاضر.
الفن في سوق الشيوخ
برز من مدينة سوق الشيوخ العديد من الفنانين كبقية اقضية ومدن الجنوب العراقي بسبب الحيف الذي مرت به بلدانهم، آهات الزمن المر والحكومات المتعاقبة التي لم تعط للجنوب حقه، وكان نصيب مدينة سوق الشيوخ هو كنصيب المدن الاخرى من البلاد الجنوبية للعراق ومن هؤلاء النخبة الاولى من فنانين بالغناء والتمثيل والموسيقى والرسم:
سالم حسين
حسون الشنون
جميل الماهود
ستار دلي
جواد الدلي
انعام البطاط
سناء عبد الرحمن
حمدي خيون
نعيم كنو
قيصر محسن
سالم ياسر
ناظم مزهر
محمد عيسى القماش