وجوه

تراث وحداثة فن العمارة في العراق

   مازن لطيف

 

يمكن أن نؤرخ للحداثة المعمارية في العراق بشكل ملموس في السنين التي سبقت الحرب العالمية الأولى متمثلة بتأثيرات مشروع سكة حديد برلين-بغداد الذي فتح الباب في ولوج  بعض وسائل التقنية  الغربية في البناء وكذلك الإطلاع على مفردات معمارية وخامات جديدة غير متعارف عليها كما هو الحديد (مقطع الذي أمسى حلاً سحرياً لغايات العقادة المنسجم مع سجية الطابوق والجص العراقي واستمر مهيمنا على طرائق البناء نصف قرن حتى ازاحته الخرسانة المسلحة. وتسللت خلال تلك المستجدات أفكار معمارية شكلت البادرة الأولى لها في العراق وحرك جدلية(التراث-الحداثة) في العمارة الذي كان سجالها قائما في ثقافات الغرب نفسه في ذلك الحين، واحتاج إلى حرب عالمية ثانية كي يجد طريقه للغلبة والرسوخ).

 ومع بداية الحملة الانكليزية وربط العراق ثقافيا ببريطانيا بعد الحرب  فتح الباب إلى مشاركة بعض المعماريين الإنكليز في المشروع النهضوي الذي نوى المرحوم فيصل الأول إرساءه. وكان  لهم  تأثير واضح في تطوير العمارة العراقية بالاعتماد على (اسطوات) الحرفة من البناءين المحليين ،و منهم ج.م. ولسن الذي اصبح مدير الأشغال العامة سنة 1921 وكذا هـ.سي.ميسن الذي تولى رئاسة مهندسي المباني  في مديرية الأشغال العامة ونفر آخر من المعماريين الانكليز.وكان أداتهم(اسطوات) العراق مثل حمودي العزاوي الذي بنى المقبرة الملكية وجامعة اهل في بغداد.

بيد أن المدرسة العراقية وبكونها ولادة كما سجّيت، فقد ادى فتح أبواب التواصل والتلاقح الحضاري إلى حصول بعض العراقيين على فرصة الاقتباس من الإنكليز أولا ثم من مدارس معمارية عالمية بعد ذلك والذي نقل العمارة العراقية من طور إلى طور. فكان جيل جعفر علاوي(م:1915) ومدحت علي مظلوم (1913-1973) ومحمد صالح مكية (م: 1914) الذين شكلوا رعيلا اقترن بوشائج  التلاقح والتوائم بين العمارتين العراقية والإنكليزية،ولاسيما ما تعلموه في مدرسة ليفربول التي أتسمت بطابعها المحافظ ،وكونها منطقة تعم فيها طبقة العمال.

ثم ظهر جيلان من بعدهم وكان الدكتور رفعت الجادرجي(م:1926)  أحد أعمدة الجيل الثالث  الذي أنهى دراسته في مدرسة العمارة في همارسميث في لندن التي مثلت الحداثة وتلاقح الصنائع المعمارية مقتفية أثر(باوهاوس) الألمانية التي قوضها هتلر عام 1933 .و ذاعت شهرة الجادرجي في العالم العربي  والإسلامي والغربي  الذي تأثرت بأعماله المعمارية التي أقتفت تيار(مابعد الحداثة) الذي شاع في حينها ، بيد أنه أضاف له نكهة عراقية ومنمنمات إسلامية.

ولد رفعت الجادرجي في مدينة بغداد عام  1926 ،  وسافر إلى لندن عام 1946 ليدرس العمارة وعاد بعد ذلك إلى بغداد ليعمل مهندساً في مجلس الإعمار  وبعدها  رئيساً للهندسة  في مديرية الأوقاف العامة ومديرا عاماً لهيئة الاسكان في وزارة الأعمار ورئيسا لهيئة التخطيط في وزارة الإسكان وبعد ذلك مستشاراً لأمانة العاصمة (1980_1982). و بعد ثورة 14 تموز عام 1958 قامت امانة بغداد بتكليف رفعت الجادرجي بوضع عدد من التصاميم منها لنصب الجندي المجهول، ونصب 14 تموز ونصب الحرية وقد اهتم الجادرجي بتنفيذ العمل واشرف على انجازه، لكن سلطة البعث ومن أجل محو أثر المرحوم عبدالكريم قاسم قوضته في العام 1982 أمام ناظره وحسرته. ثم عانى من ويلات السلطة حينما  لفقت له تهمة وأودع السجن لسنتين، و  بعدها ترك العراق ليذهب إلى لندن لاجراء بحوث في التنظير المعماري بجامعة هارفارد . حاز رفعت على جوائز عديدة منها جائزة الاغاخان للهندسة الاسلامية ورفعت الجادرجي حاول جاهدا أن يربط التراث بالحداثة كما فهمها هو ورعيله، والعمارة التقليدية يسميها “التحدارية” محاولا نقلها إلى المستوى الشكلي التجريدي، فأصبح ينظر اليها كمنحوتة فنية لها خصائص تقليدية مجردة ، لكنه لم يتعامل مع الفراغ المعماري بتلك النظرة “التحدارية” أو بتلك الخلفية التقليدية، فعندما نشاهد مساقطه الأفقية نجد أنها في كثير من الأحيان مستوحاة من الحداثة.   يقول رفعت الجادرجي عن توجهه في فن العمارة: “كان اهتمامي منصباً على إيجاد اسلوب ملائم لمعمار عربي معاصر، وكانت نقطة الانطلاق في ذلك هي اعتماد النقاش المستمر بين المعماريين والرسامين والنحاتين والمفكرين العرب”.

يمكن أن يعد الجادرجي من القلائل الذين كتبوا أفكارهم، من المعماريين ونشروا البحوث القيمة وحاول أن يجد له بعض الاصطلاحات الخاصة “الغرائبية” في بعض الأحيان لكنها مكثت حبيسة درج مؤلفاته في غياب مبرم لحوارات أهل الشأن من أجل إرساء وتوحيد المصطلح المعماري والفني.وقد  اصدر رفعت الجادرجي العديد من المؤلفات منها شارع طه وهامر سميث (1985) صورة أب _(1985  ) الاخيضر والقصر البلوري 1991 حوار في بنيوية الفن والعمارة العام 1995 مقام الجلوس في بيت عارف اغا وهي دراسة انثربولوجية  وكتب مقدمة لمذكرات والده كامل الجادرجي  عام 2002 واصدر بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة كتاب “جداربين ظلمتين ” وهي عبارة عن سيرة واقعية لمرحلة  العشرين شهرا التي قضاها في الحبس .  

وحاول في مؤلفاته الربط بين جوانب الثقافة(أبستمولوجيا) من خلال طرق التركيبة الاجتماعية – العمرانية في العالم العربي. وقد اثار تصميم رفعت الجادرجي للعلم العراقي الجديد بعد سقوط النظام موجة واسعة من السجال داخل العراق وخارجه. 

وهنا أنقل رصدا لبيباً من صديقي الدكتور علي ثويني بشأن هذا الرعيل، بأن جل أبناء الطبقة السياسية السابقة قد ولدوا جيلا من المعماريين المرموقين  فها هي عائلة المدفعي المتمثلة بهشام(مهندس مدني) وقحطان المعمار، وكذلك عائلة نوري سعيد الذي ظهر حفيده عصام صباح نوري السعيد (1939-1988)الذي أنشغل بالبحث ومات شابا في لندن ،وكذا محمد حديد الذي خلف الفذة وفخر العراق زها حديد وأخيرا وليس آخرا الدكتور رفعت الجادرجي ابن السياسي كامل الجادرجي، بالمقارنة مع جيل أبناء الحقبة الشمولية وما يحصل اليوم حينما يندى جبين العراق خجلا من سوء تصرفهم. ويبدو أن أجيال المعماريين يمكثون ويمثلون حالة البناء و يشكلون دائما أزمنة الخير والصعود ورسوخ القيم .

قد يهمك أيضاً