وجوه

عقدة "جودر"و قتل الام … تحليل حكاية "ما هي الحقيقة ؟" لتوفيق الحكيم

داود سلمان الشويلي

 

في هذه الدراسة، سنقدم تحليلا لحكاية”ما هي الحقيقة؟”التي وردت في كتاب”حديث مع الكواكب ص49″للكاتب توفيق الحكيم مع عقدة”جودر”لنعرف مدى تطابق البطلين وهما يتخلصان من سيطرة الام،نفسياً واجتماعياً،ولكي نقرأ الاسباب التي دعت البطل لقتل الام حقيقة لا قتل شبحها،اذ يتنوع القتل في الروايات حسب توجه وذائقة الكاتب.

ان قتل الأم في حكاية الليالي”عقدة جودر”يأتي بشكل مجازي،وليس على الحقيقة، كما بينا ذلك في دراستنا لها،اذ انه في حكاية الليالي يقتل”جودر”شبح امه الذي يلاقيه تحت ماء النهر خلف الباب السابع،وعند مقتلها”ضربها بالسيف”ينفتح امامه مكان الكنز الذي من خلاله يصبح ثريا،ويتزوج من ابنة الملك.

في أسطورة”جودر”يقول التاجر المغربي لجودر:((اعلم أنني متى عزمت ألقيت البخور نشف الماء من النهر وبان لك باب من الذهب قدر باب المدينة بحلقتين من المعدن فانزل إلى الباب واطرقه، فإنك تسمع قائلاً يقول:من يطرق باب الكنوز وهو لم يعرف أن يحل الرموز؟فقل أنا جودر الصياد ابن عمر فيفتح لك الباب ويخرج لك شخص بيده سيف ويقول لك:إن كنت ذلك الرجل فمد عنقك حتى ارمي رأسك،فمد له عنقك ولا تخف فإنه متى رفع يده بالسيف وضربك وقع بين يديك وبعد مدة تراه شخصاً من غير روح وأنت لا تتألم من الضربة ولا يجري عليك شيء.وأما إذا خالفته فإنه يقتلك.ثم إنك إذا أبطلت رصده بالامتثال.فادخل حتى ترى باباً آخر فاطرقه يخرج لك فارس راكب فرسا وعلى كتفه رمح فيقول:أي شيء أوصلك إلى هذا المكان الذي لا يدخله أحد من الإنس ولا من الجان؟ويهز عليك الرمح،فافتح له صدرك فيضربك ويقع في الحال فتراه جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك،ثم ادخل الباب الثالث يخرج لك آدمي وفي يده قوس ونشاب ويرميك بالقوس فافتح له صدرك ليضربك ويقع قدامك جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك ثم ادخل الباب الرابع واطرقه يفتح لك،ويخرج لك سبع عظيم الخلقة ويهجم عليك ويفتح فمه ويريك أنه يقصد أكلك فلا تخف ولا تهرب منه،فإن وصل إليك فاعطه يدك فمتى عض يدك فإنه يقع في الحال ولا يصيبك شيء، ثم اطرق الباب الخامس يخرج لك عبد أسود ويقول لك من أنت، قل له أنا جودر فيقول لك إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس،فتقدم إلى الباب وقل له:يا عيسى قل لموسى يفتح الباب،فادخل تجد ثعبانين أحدهما على الشمال والآخر على اليمين،وكل واحد يفتح فاه ويهجمان عليك في الحال،فمد إليهما يديك فيعض كل واحد منهما في يد وإن خالفت قتلاك ثم ادخل الباب السابع واطرقه تخرج لك أمك وتقول لك مرحباً يا بني، أقدم حتى أسلم عليك فقل لها خليك بعيدة،اخلعي ثيابك.فتقول يا ابني أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية،كيف تعريني؟فقل لها إن لم تخلعي ثيابك قتلتك.وانظر جهة يمينك تجد سيفاً معلقاً،فخذه واسحبه عليها وقل لها اخلعي فتصير تخادعك وتتواضع إليك فلا تشفق عليها حتى تخلع لك ما عليها وتسقط،وحينئذ تكون قد حللت الرمز وأبطلت الأرصاد،وقد أمنت على نفسك،فادخل تجد الذهب)).(الف ليلة وليلة ص975-حكاية”جودر الصياد   ابن عمر وأخويه”).

وملخص حكاية”ما هي الحقيقة؟”هو:ام مزواجة تعيش مع ولديها،احدهما طبيب يعيش بعيدا عنها،والاخر وكيل نيابة يعيش معها،بعد موت الزوج تتزوج من شخص ثان،وبعد فترة تطلقه هي.وكان عند الابن وكيل النيابة موظف شاب يأتي بالملفات له في بيته،تتعرف عليه الام وتغريه،ثم تقنعه بالزواج منها،ويتزوجان.يترك ابنها البيت ويسكن في الفندق(تبادل ادوار).بعد فترة يخبره زوج امه الشاب انها قد ماتت،ويأتي هو واخوه الطبيب الى بيتهما،فيعرف الطبيب ان امهما ماتت مخنوقة،(مقتولة)فيحاول الابن الطبيب ان يخبر الشرطة،الا ان الابن وكيل النيابة لايوافقه،لان في ذلك فضيحة لهما.بعد فترة تصل رسالة من الزوج الى الابن وكيل النيابة تخبره انه هو الذي قتلها،يقول في هذه الرسالة:((انا منذ كنت مرؤوسا لك كنت اشعر بضآلتي وتفاهة قدري الى جانبك…هذا الشعور بالمهانة والضعف هو الذي جعلني استجيب الى نظرات والدتك(…)وتوثقت العلاقة بيننا(…)وتصورت في تلك اللحظة ارتفاع قدري في نظر نفسي ونظرك ونظر زملائي يوم اصبح زوجا لوالدتك.كان هذا طبيعيا.فما اظنك كنت تطيق ان ترى بعينيك كيف استطعت السيطرة بقوة شبابي وفتوتي على امك التي عليك احترامها وتقديسها..وكنت اعرف ان اليوم الذي تتراخى فيه قوتي البدنية هو اليوم الذي تتراخى فيه قبضتي على امك.وكانت هي تعرف ذلك(…)الى ان جاء اليوم الذي خشيته.فقد افرطت في استنزاف قوتي ولم استطع ان اشبع رغبتها،فانهالت علي تقريعا،وصارت تقول لي كل ليلة:”يا خيبتك يا خيبتك” فما تمالكت وصحت بها”اخرسي اخرسي”وعاد لي الشعور بالمهانة،وكاد مقامي في البيت يهبط الى مقام الخدم،وتعاطيت بعض الوصفات،ثم حاولت معها محاولة اخيرة باءت ايضا بالفشل.وضحكت هي ضحكتها المستهزئة..وانفجرت بالسباب الفاحش والطعن في رجولتي.فطار صوابي ووضعت كفي على فمها لاسكت صوتها الذي يرن في اذني بأفضع ما يذل الرجل،وعضت هي بأسنانها اصبعي،فأطبقت بكل قوتي على ذلك الفم الذي لا يريد السكوت،الى ان سكتت فعلا،ووقفت معه كل حركة في جسمها(…)تزوجت ثانية وانجبت بنتا وولدين،(…)تخرجت البنت طبيبة تعمل في احد المستشفيات وتزوجت طبيبا،اما الولدان فاحدهما اليوم مهندس يعمل في احدى الشركات والاخر،يا للمصادفة،وكيل نيابة!(…)انها سعادة ما كنت لاستحقها)). ص85 – 91

هذا ملخص قصير للحكاية التي يرويها الحكيم،ومن خلال دراستها على ضوء عقدة “جودر”سيتضح لنا كيف تنهض هذه العقدة في تصور الدوافع التي ادت الى قتل الام،والتخلص من سيطرتها،والفوز بالحياة والسعادة.

الدراسة والتحليل:

الحكاية هذه تنهض على شخوص ثلاثة،هم:الام.الابن.الزوج الشاب.

الام هي محور الحكاية وشخصيتها الرئيسية،تتزوج من رجلين بسبب رغبتها القوية في الجنس،وهذا امر مهم.اما الرجل الثالث،الموظف الشاب الذي يعمل عند ولدها وكيل النيابة،فهي توقعه في حبائلها،لما رأت فيه من قوة شبابية ستغنيها عما تبحث عنه.وبالمقابل نجد هذا الشاب وجد في هذه الزيجة الراحة الاقتصادية، والاجتماعية،والمكانة العليا التي ستخرجه من مكانته الدنيا التي كان يعيشها.فها هو يقول في رسالته لابنها وكيل النيابة:((كنت احس في نفسي الرضا والراحة والتلذذ ان استطعت غزو قلب هذه السيدة العظيمة والدة رئيسي.(…)وتصورت في تلك اللحظة ارتفاع قدري في نظر نفسي ونظرك ونظر زملائي ومعارفي يوم اصبح زوجا لوالدتك.وتم لي ذلك،ودخلت بيتك زوجا وسيدا مطاعا)).ص87 

.ولكي تبعد الحكاية عن نفسها امرا يعتبره الاسلام محرماً،وهو الزنا بالمحارم، جعل الراوي الشاب من خارج العائلة،فتبادل الابن مع الشاب الادوار.

أخذ هذا المرؤوس(المجرم كما وقع رسالته)دور الابن في علاقته مع الام/الزوجة،لفارق العمر بينها وبينه،وكذلك العيش في كنفها،لان ابنها الحقيقي ترك الدار الى الفندق،فظل الشاب/الزوج والمرأة فقط،كما كانت سابقا تعيش هي وابنها وكيل النيابة.

الا ان الامور لم تجرِ كما كان يحب،اذ خبت قوته الجنسية فيما هي تريد المزيد، فتصل الحال بها الى ان تعيّره،يخنقها،فتموت.

اذن اصبح الزوج في الحكاية كالابن،والام/الزوجة التي تصيح به(يا خيبتك يا خيبتك)،ولكي يتخلص من هذا العار الذي لحقه بانحلال قواه الجنسية،عليه قتلها،لكي يعود منتصرا الى الحياة،ويعيش بسعادة.وهكذا يتخلص منها بقتلها.وتعود له السعادة،فيتزوج،وينجب ولدين وبنتا يعملون في وظائف مرموقة،انه التخلص من سلبيات الحياة،واكتساب ايجابياتها.

رواية(السراب)تعود الى مصدرها الاساسي وهو الواقع الديني والعرفي العربي في ان تبعد الابن من زنا المحارم،فتجعله يتزوج من فتاة تشبه امه في الخلقة والاخلاق،فلا يستطع ممارسة الجنس معها،وبالمقابل يمارس الجنس مع مومس مسنة وقبيحة بالعكس من امه،الا انها تطابقها في السن،فينجح في ذلك،على العكس من فشله ليلة الدخلة مع زوجته التي تشبه امه،أي تنقسم الام عند”كامل”الى قسمين احدهما القسم النضر والجميل وتمثله”رباب”زوجته،والثاني تمثلة المومس المسنة”عنايات”.

عندما تموت الزوجة جراء عملية غير موفقة،يقول لامه كلاماً جارحاً وقاسياً،فتطلب منه أن يرحمها من هذا القول القاسي،فيما كان هو يؤكد مع نفسه قائلاً:(ولكني لم أرحمها)ص353،وقبل أن يتركها يخبرها بقراره الأخير:(اشمتي ماشاءت لك الشماتة، ولكن إياك أن تتصوري أننا سنعيش معاً.انتهى الماضي بخيره وشره ولن أعود إليه ماحييت).ص354،يهجرها لتموت.

اما في الحكاية التي قدمها الحكيم،فإن الابن هو الذي يجسد شخصيتين فيها،هي شخصية الابن،وشخصية الزوج،تماهي الزوج الشاب بالابن للاسباب التي ذكرناها،كما اخذت الام في السراب شخصيتين،احداهما شخصية الزوجة الجميلة،والاخرى شخصية”عنايات”المومس،وكل هذا التجسيد هو بالتماهي بين الزوج والابن في حكاية الحكيم،وبين الام والزوجة والمومس في رواية محفوظ.

ان ترحيل الابن،وكيل النيابة،الى ان يكون هو الزوج الشاب،مرده هوهذا الفيتو الاسلامي على العلاقات الجنسية غير الشرعية،وهذا مزروع في لاوعي الكاتب “الحكيم” نفسه،كما في لا وعي جميع كتاب الرواية العرب المسلمين.

ان هذا التماهي(اوالترحيل بين الشخصيات)ليس المقصود منه هروب الدارس في هذه السطور من عدم توافق الشخصية الرئيسية مع”جودر”،بقدر ما هو نوع من المخاتلة التي يمليها علينا الواقع الاسلامي،الاجتماعي والعرفي،هذا التماهي الذي يوصل عقدة”جودر”الى ان تكون في الرواية والحكاية خاضعة للتطبيق،وهذا الاجراء خاص بمنهج الدراسة،وليس له علاقة بنص الرواية او الحكاية.

ان ما تريد ان تصل اليه الدراسة هو ان الحكايات العربية كما في”الف ليلة وليلة” ،التي اغلبها اساطير،قد انتجت شيئاً مثل ما انتجته الاساطير الاغريقية من عقد الى الان تستخدم في مجالات اجتماعية ونفسية وادبية،وهذا الامر ليس بسبب عقدة الخواجة التي يتهم بها البعض من الدارسين حين الحديث عن امر عربي موجود في الحضارات اخرى،وانما هو موجود فعلا في حضارتنا التي انتجت الاساطير والحكايات. 

ان عقدة”جودر”تقابلها عند الاغريق عقدة قتل الام المسماة عقدة اليكترا اواورست،اما في الثقافة العربية فإن هذه العقدة ستكون في متناول الدارسين والمعنيين فاطالبهم ان يستخدموها في مجال علم النفس،و مجال الادب خاصة،ليكون هناك تلاقح بين الحضارات.

قد يهمك أيضاً