أمير العمري
يبدو المخرج البريطاني ستيفن فريرز مولعا بشكل خاص بملكات بريطانيا، فبعد فيلمه الشهير “الملك” (the Queen) الذي قامت فيه هيلين ميرين بدور الملكة إليزابيث الثانية، وشاهدناه في دورة 2006 من مهرجان فينيسيا، يعود فريرز مجددا بفيلم جديد يعرض خارج المسابقة، عن أشهر ملكات بريطانيا الملكة فيكتوريا التي حكمت البلاد لمدة 64 عاما إلى أن توفيت عام 1901 عن 82 عاما.
لا يطمح ستيفن فريرز من خلال سيناريو فيلمه الجديد “فيكتوريا وعبدول” Victoria & Abdul الذي كتبه لي هول، لأن يروي سيرة الملكة فيكتوريا، ولم يكن هدفه الولوج إلى عصر السيطرة الاستعمارية البريطانية على الهند من خلال دراما تاريخية تلقي الأضواء على العلاقة المعقدة بين بريطانيا وشبه القارة الهندية. لا شك أنه يلمس تلك العلاقة على نحو ما، كما يصور ولو على استحياء المشاعر المعادية للوجود البريطاني في الهند التي عرفت بـ”جوهرة التاج”.
لكن موضوعه الأساسي موضوع أكثر حميمية وخصوصية، فهو يحاول فهم تلك العلاقة الملتبسة الغريبة التي جمعت بين الملكة فيكتوريا بكل عظمتها ومجدها، وشاب هندي مسلم، بسيط الحال، يدعى عبدالكريم (أو عبدول) يجد نفسه ذات يوم مطلوبا منه السفر على وجه السرعة إلى لندن لكي يقدم للملكة قطعة من العملة الذهبية التذكارية الجديدة تحمل صورتها.
يسافر عبدول مع رفيقه محمد الساخط على البريطانيين، ويتم تدريبه مع رفيقه على قواعد البروتوكول الملكية. ورغم تحذيره مرارا من التطلع إلى وجه الملكة وهو يقدم لها الهدية، يخالف عبدول التعليمات، وعندما تلتقي نظراته بنظرات الملكة تبدأ علاقة انجذاب غريبة غامضة من جانب الملكة إلى ذلك الشاب الوسيم الفارع الطول ذي العينين الواسعتين.
فيكتوريا تشعر بالسأم والوحدة وترتد إلى نوع من المراهقة المتأخرة. تستدعي عبدول لتسأله عن الهند. يحدثها عن عظمة تاج محل وعن الطعام الهندي والسجاد الهندي وكيف دخل البلاد على أيدي ملوك الفرس، وعن مذاق ثمرة المانغو، وعن الشعراء العظام ويقرأ لها أيضا بعض الأشعار.
لقد عثرت أخيرا على من يخرجها من حالة الملل والعزلة والكآبة التي تعيشها داخل أسوار القصر، وينقذها من نساء الحاشية المتعجرفات ورجال البلاط الذين يحاصرونها ويحصون عليها حركاتها وسكناتها.
تطلب الملكة من عبدول أن يعلمها لغة الأورد، وتبدأ بالفعل في كتابة بعض العبارات، ثم تطلب منه أن يصبح معلمها أو مرشدها الروحي (مونشي). تمضي السنون، ويعود ابن الملكة أمير ويلز الذي بلغ السابعة والخمسين من عمره ومازال يتطلع صامتا إلى وراثة العرش، لكن فيكتوريا مازالت تعامله كصبي صغير وتناديه بـ”بيرتي” وترفض تدخله في شؤون القصر، كما تستنكر محاولته إفساد علاقتها بعبدول.
يكشف عبدول للملكة أنه متزوج، فتطلب منه السفر فورا والعودة بزوجته، فيعود ومعه زوجته وابنه ووالدة زوجته. ترتدي المرأتان العباءات السوداء والبرقع الأفغاني الذي نعرفه اليوم، والذي لم يكن له غالبا، وجود بين مسلمات الهند في ذلك الزمان.
لكنها الصورة النمطية الاكزوتية التي أراد ستيفن فريرز إبرازها لتجسيد التناقض بين عالمين. يستنكر رجال البلاط، خاصة طبيب الملكة، وجود عبدول. فكيف تستمع الملكة إلى هذا الصعلوك الهندي. يسعون للعثور من زميله محمد الذي يعاني تدهورا في صحته، على أي معلومات من ماضي عبدول يمكن استخدامها ضده. وعندما ترغب الملكة في منحه لقب الفروسية، يعترض رجال البلاط فكيف لرجل مسلم وملون أن يحظى بهذا الشرف الذي لا يناله سوى النبلاء.
يلمس الفيلم في مشاهد عديدة العنصرية البريطانية ويسخر منها بشدة، كما يعري بسخريته السوداء ومن خلال شكل صياغة المشاهد والحوار، النظرة الفوقية المتعالية إلى “الآخر”، ويهجو فكرة السمو الملكي بل والنظام البريطاني الطبقي كله. لكنه في الوقت نفسه، يجعل الملكة فيكتوريا شخصية متمردة على التقاليد العتيقة البالية، وأقرب إلى الروح “الثورية” المتمردة.
فغياب معرفتها بالهند ناتج عن منعها من الذهاب إلى هناك خشية على حياتها من الاغتيال، لكنها تريد أن تعرف وأن تتعلم، وهي تستهجن وترفض ما يتذرع به رجال القصر من حجج خاصة عندما يشيرون إلى ديانة بدول فتسأله عن الإسلام وعن القرآن، وتبدو وقد انبهرت بما يقوله لها عن عظمة الإسلام وتصر على تقريبه منها وترفع الكلفة بينهما، وتطلعه على مكنون نفسها. هنا يضيق كثيرا الفرق بين الإعجاب والانجذاب إلى الآخر، بشرقيته وملامحه الخاصة ومعارفه الواسعة المدهشة بالعالم، وبين الحب بالمعنى العاطفي.
هل وقعت فيكتوريا في حب عبدول؟ هل كان عبدول يستغل ذلك الانجذاب الملكي لصالحه ولخدمة أهداف خفية؟ كيف وهو الهندي القادم من بلد خاضع للاستعمار البريطاني، لا يعرب في أي موقف عن رفضه أو احتجاجه على سلوك البريطانيين، بل يعتبر عطف فيكتوريا عليه شرفا عظيما؟ إنه يبدأ بتقبيل قدم الملكة في حفل العشاء دون أن يُطلب منه ذلك، ثم يتمسك بدور الخادم الأمين مناديا إياها بـ”مليكتي”. وعندما تعلم أنه متزوج يقول لها إنه يعتبرها أغلى وأعز من زوجته؟
يخبرنا الفيلم في بدايته من خلال عبارة تظهر في الشاشة أنه “يعتمد على وقائع حقيقية… تقريبا”، ثم يخبرنا في نهايته أن ما شاهدناه يعتمد على ما جاء في كتاب هندي صدر في 2010 كشف الكثير عن تلك العلاقة من خلال مذكرات عبدول نفسه.
هذه دراما سينمائية مصنوعة بالدقة البريطانية الشهيرة من خلال بناء كلاسيكي يسير في اتجاه واحد ولكن من دون عقدة، ومن دون منحنيات في سياق السرد. إن تركيزه الأساسي على “الملكة” بكل تفاصيل حياتها داخل القصر، ملابسها وطريقتها الفجة في التهام الطعام، ثم وهي تغفو بعد أن تكون قد أفرطت في التهام الحلوى.
هناك براعة مدهشة أيضا في تصميم الملابس، واختيار مواقع التصوير داخل القلاع والقصور والحدائق، مع موسيقى تمزج بين الكلاسيكية الرصينة والموسيقى الهندية الشعبية. ولكن يبقى أكثر العناصر الفنية بروزا ذلك الأداء البديع من جانب جودي دنش في دور فيكتوريا.
إن دنش البالغة من العمر 82 عاما، حاضرة الذهن، تتمتع كعادتها بالقدرة على التقمص والتماهي مع الشخصية، تعرف متى وأين تتوقف عن الحديث وتنصت، تتسع عيناها في دهشة شبيهة بدهشة الأطفال أمام ما يرويه عبدول، تنتفض دفاعا عن عرشها أمام مؤامرة الحاشية التي أرادت عزلها بدعوى أنها أصيبت بالجنون ما لم تطرد عبدول، تتصدى لهم، وتتحول إلى نمرة هائجة، تثور في وجوههم، تسرد عليهم تاريخها منذ أن تربعت على العرش وما حققته من مجد لبلادها.
تمضي السنون، أربعة عشر عاما على تلك العلاقة الغريبة، يموت محمد رفيق عبدول، تتدهور صحة الملكة وتصبح مشرفة على النهاية، ترقد واهنة في فراشها يحيط بها رجال البلاط، تطلب أن ترى عبدول وأن تنفرد به للمرة الأخيرة. ويتأهب الأمير لوراثة العرش والفتك بعبدول.
قد لا يكون الفيلم قد نجح في سبر أغوار العلاقة القديمة بين بريطانيا والهند. وربما يكون قد عبر أيضا عن نوع من الحنين إلى ذلك العهد، لكنه في نقده للعنجهية والعنصرية البريطانيّتَيْن خاصة النظر إلى الشعوب المستعمرة والموقف
المتشكك التقليدي من المسلمين (هناك اتهامات في الفيلم بأنهم كانوا وراء تمرد قسم من القوات الهندية الخاصة للإنكليز وأنهم قتلوا أكثر من ألفي جندي بريطاني) قدم إسقاطات تجعل للفيلم أيضا أصداء معاصرة. لكن يبقى جوهر الاستمتاع بالفيلم في ذلك الخيال الفني البديع، والتعبير الإنساني عن ذلك التلاقي الروحي الغامض بين شخصيتين متناقضتين تماما، ولا يصلح بالتالي تقييمه من زاوية “تاريخية” الأحداث والوقائع. فالأفضل أن يبقى محصورا في عالم الخيال.