من الماضي

عبدالأمير الحصيري أسطورة الشاعر الشريد في ذكرى رحيله الأربعين

الحقيقة – وكالات

 

رحل وهو في السادسة والثلاثين، كما رحل من قبله بدر شاكر السيّاب في الثامنة والثلاثين، وحين يموت الشاعر لا يعود ينشغل بغيابه أحد في مدننا الموغلة بالتراجع والفقدان والوجع والغياب، ولا يعود للشاعر مكانة في سجلات الموت الجماعي اليومي في حروب الأخوة الأعداء، والخسائر الفاجعة بأثمان غير إنسانية وغير مشرّفة تحت يافطة مسرحية داعش المتنقلة بعروضها بين عواصمنا ومدننا، بذريعة محاربة الإرهاب وزراعة الديمقراطية في ربوعنا القاحلة.

والشعر في العراق حصرا ليس سببا للترف أوالتمظهر، إنما دافع إلى البقاء وحافز على العناد، البقاء المميت والعناد المميز لكل موهبة على حدة. عبدالأمير الحصيري ورقة ميلادية محفوفة بالغرائب والمخاطر، وملف هجري استعاري استبدل به النجف ببغداد وعروة بن الورد ببدوي الجبل، دخل العاصمة يافعا متوهجا مشاكسا، وعاد منها إلى مسقط ولعه محمولا في تابوت بعد أن عثر صدفة على جثته في فندق الكوثر الشعبي في الكرخ، تاركا خلفه مبعثرات قصائده وبنطالا أسود أثريا وقميصا باليا وخمسة فلوس عدا ونقدا وجدت في أحد جيوبه، تلك كانت كل ثروة الشاعر الحصيري المنقولة وغير المنقولة.

 

طريق النجف – بغداد

 

حدث أن ولد الحصيري في مدينة النجف عام 1942، أكمل الابتدائية فيها، لكنه لم يستطع إكمال المتوسطة إذ أدمن مجالس الأدباء والشعراء والقراءة والبحث، وهذا هو الإدمان الأول له قبل أي إدمان آخر، في المدرسة كان يعترض على مقولات الأساتذة حول مفاهيمهم التقليدية للشعر العربي وللبلاغة والنحو.

وفي مجالس شعراء النجف، كان الحصيري يتهكّم على نظمهم الكلاسيكي لشكل العمود الشعري، فلم يعد يطيق حضوره أحد، لا أساتذة اللغة والأدب في المدرسة ولا نجوم المجالس الأدبية المحافظة في مدينة النجف فقرر مغادرة الدراسة ومجالس الشعراء ومغادرة عائلته البسيطة التي كان يعيلها أب يعمل في نسج العباءات الشرقية.

ورغم هذا النفور والطرد اللذين كان يعانيهما في المدرسة وفي مجالس الشعراء في مدينته، لكنهم جميعا توقّعوا له شأنا معرفيا وشعريا مميزا، فدخل بغداد عام 1958 وهي تموج بمتغيرات سياسية وثورة شعرية أسس لها السياب ولميعة عباس عمارة، وفي المناخ العربي مجلة شعر في بيروت وقصائد نزار قباني في دمشق وغيرها.

لكن الحصيري، وخلال أشهر معدودة من قدومه إلى بغداد، بات حديث المقاهي والحانات والمجالس الأدبية، وقد قدمه الشاعر الكبير الجواهري لروّاد اتحاد الأدباء في العراق بالشكل التالي “إنه ابن كوفتي الحمراء التي قدّمت إلى الدنيا متنبّيها، وأرجو أن لا تعدو عليه بغداد كما عدت علينا عقوقا وغدرا”.

عمل الحصيري في صحيفة “الوطن” البغدادية، ومن ثم في القسم الثقافي في مجلة “وعي العمال”، وموظفا في دائرة الإذاعة والتلفزيون، لكنه سرعان ما كان يغادر تلك الوظائف وسواها ويعود إلى صعلكته المفضوحة وتشرّده في الحانات والمقاهي ومجالس الحوارات الصاخبة. وقد كان مشاكسا صداميا باعتراضاته وآرائه، وغالبا ما كان يطرد من تلك الأمكنة، كما طرد من المدرسة سابقا ومن مجالس أدباء النجف، وفي اليوم التالي يجدونه نائما في بناية مهجورة أو عند بوابة اتحاد الأدباء العراقي وفي أفضل الأحوال في غرفة بائسة في فندق رخيص.

سحرته بغداد وافتتن بها وكتب فيها معلّقته الشهيرة “معلّقة بغداد” التي يقول فيها: بغداد يا قمر الشموس ويا ضحى الأص/ باحِ ، هل يغشاك ليل شاسب؟/ بغداد يا بلد الكفاح، شدا لكِ المأ/ هول، وابتسم الطريق اللاحب/ وتكسّرت أظفار ذئب كاسر/ لما نضت عنها الجلود ثعالب/ يا مرسح الشعراء والفكر الذي/ لم تبرح الدنيا به تتجاذب/ سكران من صهباء بسمتك التي/ سكر الخلود بها وجُن الشارب / شاء القضاء بأن يشل سوامقا / يبس، وتسقي الأزدهار طحالب / من كان يحسب أن ذلك ينطفئ/ وتشب من أعمى الرماد لواهب/ أمسٌ على بيبان سورك هشمت/ للفرسِ والروم الغزاة مطالب”.

شيخ الصعاليك

 

من أسماء الشاعر الحصيري التي شاعت عنه “شيخ الصعاليك”، “الشاعر الشريد”، “الشاعر المتمرّد”، “خليفة الجواهري”، “صعلوك الشعراء” وغيرها الكثير. وفي الحقيقة لو نال الشاعر شيئا من الاهتمام والرعاية في توفير حياة رضيّة هانئة، بحيث لا تذله الحاجة ويطارده العوز والألم والفقدان، لكان من عبقريات التجارب الشعرية، ولكان قد أعطى زادا وفيرا للأجيال اللاحقة، لكن حياته القصيرة الموجزة قد تناهبتها المقاهي والحانات والأرصفة، وقوبلت بالنفور والطرد والأهمال.

يقول “أجائع؟ أي شيء ثم ياقلق؟/ أمن حطامي هذا يمطر العبق؟/ إن كنت تحلم في قلبي، فإنّ دمي/ من جوعه بات فيه الجوع يحترق/ قلبي الجحيم، أثيمات الشرور به/ معذبات، فما أذنبت ياقلق؟/ مازلت طفلا غريرا، كيف تقربني؟/ أنا التشرّد والحرمان والأرق/ أنا الشريد، لماذا الناس تذعر من/ وجهي، وتهرب من أقدامي الطرق؟”.

 

هذا النفور والذعر اللذان قوبل بهما الشاعر، أصاب حتى دائرة دار الشؤون الثقافية العامة التي طبعت له مجموعة شعرية، لكنها لم تكن تذكر اسمه ولا مطبوعته من ضمن نشاطاتها السنوية التي كانت تعلن عنها نهاية كل عام، فأمعن أكثر فأكثر في انتمائه للصعلكة والتشرّد والخسائر المتتالية “وكنت أفزع للحانات تشربني/ واليوم لو لمحت عيني، تختنق/ قد بت أمضغ أعراقي وأوردتي/ وأرتوي من جراحاتي وأنسحق/ أنا الإله وندماني ملائكة/ والحانة الكون، والجلّاس من خلقوا”.

تسلل الحصيري بطرق التهريب البري إلى الكويت عام 1964، كأبطال قصص الراحل غسّان كنفاني، بقي فيها فترة قليلة وصدر له فيها ديوان شعري كبير، ولكن باسم شخص آخر هناك، كان قد منحه بعض الدريهمات مقابل ذلك، عاد بعدها إلى بغداد ليغني “بغداد قلبي في يديك فعذبي/ إن شئت أو إن شئت شل العاطب/ أنا ابنك المغوار مسقط دجلة/ ذا القلب والسعف الأهاب الشاحب / حسبي بأن أطأ النجوم وسلّمي / حسد وبغض وإنتقاص كاذب / وتكاد تعثر أرجلي، فأزمّها / ملء الطريق ضفادع وجنادب”.

وفي المقهى كما في الحانة، كان يتناهب قصائده وقصاصاته أشباه الشعراء، ويجمعونها مع بعض الإضافات والتحوير ويطبعونها بأسمائهم، كما كان يزوره لذات الغرض معجبون بشعره من بلدان عربية مختلفة، يأخذون القصائد لتطبع لاحقا بأسمائهم، ويوغل هو بالمزيد من الإسراف بانتهاك حياته في التشرد والحرمان والألم. حتى صار يكرر تحيته الوحيدة الشائعة عنه عند التقائه برفاق الحانة “فيضي دنان الخمر فيضي”، ومع حياته القصيرة المشتتة تلك فقد صدرت له المجاميع الشعرية التالية بعناوين منسجمة مع انتماءاته المختلفة “أزهار الدماء” عام 1963، “معلّقة بغداد” عام 1964، “سبات النار” عام 1969، “أنا الشريد” عام 1970، “مذكرات عروة بن الورد” عام 1973، “تموز يبتكر الشمس عام 1976. ومن بعد رحيله أواسط عام 1978 صدرت بقيّة أعماله الشعرية باهتمام بالغ ونوعي من قبل الأستاذ الراحل عزيز السيد جاسم.

 

انطباعات وخسائر

 

لا تشبه قصائد الحصيري الملتزم بالعمود الشعري، قصائد المتنبي أو الجواهري رغم تعلّقه بهما، كما لا تشبه نصوصه قصائد عروة بن الورد رغم تمسكه بصعلكة بن الورد، وهو في شعره أقرب ما يكون إلى قصائد عمر أبي ريشة وبدوي الجبل منه إلى أي تجربة أخرى، وفي سعيه لتمييز تجربته حاول تخليص مفهوم العمود الشعري المتوارث من تقريريته ومن الحشو النظمي الحماسي الخطابي إلى جهة ابتكار الصور الشعرية بصياغات نفسية وفلسفية معاصرة، مشحونة بالتمرد على الأساليب السابقة، وتستبدل وتستعير كل شيء باستقلالية الصورة الشعرية بعيدا عن السرد والحشو والتراكمية، برؤية درامية لنمط الصور الشعرية فقط وبلاغتها.

قصيدة الحصيري تعمل من أجل توسيع وتجديد مدياتها الدلالية مستندة على تجربة الإنسان في علاقته بالحياة، لتبلغ أقصى توحدها وتفاعلها الكوني، حتى وإن كانت تلك التجربة بأشد مشاهدها الواقعية ألما وتشردا وحرمانا وعوزا.

وهنا يتخلّص الحصيري عن عمد وسابق إصرار من السردية ومن استخدام الأسطورة والرمز. لقد عبث بالأساليب الشعرية المتعارف عليها كما عبث بحياته بإصرار العارف المنتمي إلى الحياة والطبيعة بنهج الصعلكة كموقف وبتجربة التشرّد إلى أبعد نقطة قادته إلى ميتة مختلفة أيضا.

لقد كانت دقائق الصحو عنده أكثر إيلاما من ساعات السكر والتشرّد، ففيها، كما يقول هو، ينتبه إلى وحشة المكان والوجوه وبؤس الحالة، فيهرب إلى أقرب سوق شعبي في الحيدرخانه ليبيع البنطلون الأسود الذي أهداه له أحد الأصدقاء مقابل ثمن ربعيّة، ليسترد البنطلون في اليوم التالي، ليعود يبيعه في اليوم الثالث وهكذا.

هذا الإصرار على مواصلة حياة الصعلكة في الحياة وفي الشعر مغامرة فريدة غير مفتعلة، جعلت منه ظاهرة استثنائية بكل شيء، بالأخص حين يرافقها الغرور والاعتداد بالنفس والمشاكسة والاعتراض على ما يراه باطلا، لذا لم يتقبّل الأكاديمي محمد حسين لغة مئات المقالات وعشرات الدراسات العليا التي صدرت عن شعر الحصيري لاحقا، والتي يتناولون فيها فقط إدمانه على الخمرة ونومه في الحدائق والبنايات المهجورة، ولم يتحدثوا فيها عن إدمانه للكتاب والبحث والتقصي منذ نعومة أظفاره، التي صنعت منه مثقفا نوعيا كبيرا أدمن التجديد والتمرد على كل ما سبقه كإدمانه على الخمرة لاحقا لأسباب أخرى، فلماذا يسلطون الضوء على تجربة الحصيري من باب أنه من بيئة ومدينة النجف، مدينة العمائم والحوزات الدينية ورجال الدين، وليس من باب موهبته الشعرية وفرادته وتميّزه، بمعنى أن تلك الصعلكة وهذا التمرّد لو كانا قد حصلا من فتى من أهالي الموصل أو بغداد أو البصرة، لكان الأمر لا يثير العجب ولا يلفت الانتباه.

أربعون عاما مضت على رحيل الفتى النجفي، ومازال التجاهل والإهمال ساريي المفعول إزاء أشعاره وحياته، وسيمر وقت طويل حتى تنتبه مدننا وعواصمنا ومؤسساتنا الثقافية الموغلة بالنسيان وسجلات الموت المجاني الجماعي إلى تجارب فذّة كتجربة الشاعر الحصيري.

قد يهمك أيضاً