وجوه

كاظم نوير.. يجدد في لوحاته الخطاب الفني لا يتطفل على التاريخ ولا على اليومي في لوحاته بل يدون بالرسم حقائق تمثيل الواقع

علينا، ونحن نشاهد آثار نوير الفنية أن نتوقف حيث بلاغة الصورة وحمولاتها المعرفية والأسلوبية، وبما أن آليات الفن عنده تقتضي مقاربة الإشارة ورسالتها، فنحن أمام عدةِ نظم صورية لها حضور رمزيّ تحمله الوحدات وتتمثل في علامة كليّة تميل إلى التمثيل الشعوري، وهذه العلامات اللافتة تتسع وظائفها لتمثيل الحدث اليوميّ برعبه وأسراره، ومن هنا ثمة اعتماد بصريّ وزّعه نوير بطريقة هندسية جعلت وحدة الأرقام، وبمهارة تخطيطية، بؤرة لمدلول العمل الفنيّ.

وروابط هذا الأداء المباشر لم تتخذ من مخزون مظاهر الرسم مغامرة في البنائية التي تعتمد الاختلاف، إنما نتابع اتجاها خاصا يريد له هذا الفنانُ أن يعيد التذكير بالحوادث الدموية من خلال أرقام العجلات المفخخة، وتواريخ الوقائع والأيام والأشهر والسنوات، وهي محاولات جادة من قبله لتبجيل الذاكرة الجمعية، وأيضا هي ضرب من الالتزام بحساسية أبعاده الدالة في لوحاته.

وهذا الطراز الشكلي يتمتع بحسية وباعث نفسي أمام تلقي العمل مع أن كشوفات السطح التصويري تجتاحها موجة من الألوان البرّاقة، وهو تعامل مبني على قناعة بتكامل المُكوّن الوجداني، فأي توزيع جمالي يريده هذا الفنان عبر طاقة السيمياء في قشرة الشكل ومحتواه الدلالي؟

يستثمر كاظم نوير فعل الذاكرة وربط محتوياتها المأساوية وفق شعور ذهني يتعين علينا النظر لتطبيقات خطابه الشكلي ومرجعياته الموظفة في متن التراكيب الصورية، فهل هي بنية حواس منفردة تتعامل بعلاقات وأواصر مكونة من خطوط وسطوح وألوان ومواد مختلفة؟ أم ثمة خصائص لاتجاه يتبنى النسق الواقعي مع تعامل هندسي قابع في السطح التصويري؟

هذا التساؤل يوفّر لنا منطق الأسباب التي دعته ليركّز على الأرقام ويحدد لها أشكالا مختلفة تتزامن بتمثيل واضح في متن الأعمال الفنية.

هنا يجب أن نذكّر بأن عنصر الإحساس بالجمال الشكلي سبقه تأسيس مرجعية استحضار المكان وحدثه، وهو ما فعلته الفنانة الكولومبية دوريس سالسيدو وهي تبدع في منحوتاتها المصنوعة من أثاث ينتمي إلى أفراد خاضوا الحرب الأهلية في موطنها، فالإشارة قصديّة بمظهر بصري مرئي وما يجعل استعمالها وفقا لنظام رمزي يكمن في قدرتها الإيصاليّة، وهذا ما يجعل مرجعيتها صورة للواقع ويومياته.

وتسهم التكوينات التجريدية التي تحمل مزيجا من التقنيات والمواد في تصعيد فكرة تجديد العمل الفني لدى نوير، وتجلب للذاكرة مرجعيات الفكرة المستوحاة في تحول رسوماته، ما يغني المتابع عن مكاشفة الواقع واستعراضه، والمهم هنا أن وجهة العلامة لم تختلط بعناصر من نسيج الخيال ولم تصور فواجع التاريخ بعيدا عن تدوينها، مما جعله يعير الوقت دالا إيحائيا.

ويبدو كاظم نوير شديد الحساسية تجاه شفراته ونمط تركيبها البنائي، ولهذا يوفر المزيد من الميل لأدق التفاصيل، فلوحاته أقرب إلى العلامة الإرادية التي تترك سيلا من السرد في تتابع كشوفاتها، وهي محاولة جادة وحقيقية وصادقة مقارنةً بغيره من الفنانين.

ويقارب نوير العمل وتحوله بمعزل عن المقارنة، ولذا يتحقق عنده نصيب من الامتزاج الموضوعي الحاد أمام المتلقي (لوحة تنبئنا بقيمتها الدلالية ومؤشرها السيميائيّ).

والتشكيلي العراقي لا يتطفل على التاريخ ولا على اليومي، بل إنه يدوّن بالرسم حقائق تمثيل الواقع، فكيف تنجح إشارته في نقل دلالاتها المغلقة لتصبح مفتوحة حيث شعور المتلقي؟

الأمر عائد هنا إلى وضوح الفكرة وإمكانيته التقنية في التعامل مع السطح التصويري وطرائق التفكير بالعمل وتغييره، مثلما حدث مع إحدى لوحاته التي التقطها في إيطاليا واشتغل فوقها بعد طبعها على الكانفاس، ليبيّن مظاهر ما يتعلّق بالحياة وما يتربّص به الموت من فعل.

هناك أمر آخر تتبناه روابط لوحته وقوامها البنائي، فلا نجد انفعالا حادا جراء الشعور بالقدر في وضع بلد مثل العراق، فمساحة اللوحة التجريدية منفتحة على تأمل واستعارات توحي بنظام شكلي يدعو إلى مفاهيم الحداثة وخطابها التجديدي.

والمزج بين تجديد اللوحة ومدلولها التعبيري وحمولاته يجعل غريزة الرسم عند نوير تجلب مرجعيات واقعها المرّ والمأساوي، وهو خليط متجانس وعلى دراية بمسح الشوائب التي تلحق بالرسم وإشاراته الدلالية.

كاظم نوير عالج ذات يوم في أعماله التسعينية وقائع الفرح والألم معا في مدينته الجنوبية الديوانية، وحمّل الرسم تبعات الإدراك الجمالي للشعور النفسي، ولكنه اليوم يجعل من قيمة الحدث تمثيلا لحكايات ستكون ذات يوم مرجعا يلازم العلاقة بين المتخيل والواقعي معا، وهو انسجام منطقي يرتبط بتحليل اللوحة وأسس تكوينها وأنساقها، حتى وهي تحمل سيلا من صرخات الاحتجاج والانفعال الوجداني. 

قد يهمك أيضاً