صالح البيضاني
الحضرمي الطموح
بدأت أولى مراحل بلفقيه في منتصف خمسينيات القرن الماضي، عندما كان عمر ذلك الشاب الحضرمي المتطلع والشغوف لا يتجاوز العشرين سنة. غير أن انبثاق صوته الفريد وأسلوبه المختلف في الأداء واتكاءه الواعي منذ البداية على التراث الحضرمي العريق جعل له مساحة لا ينافسه فيها غيره في مدينة عدن التي كانت وقتذاك في أوج ازدهارها الفني والأدبي، كحاضرة ملهمة تزاحم القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق وطنجة وتونس، ومدينة متعددة تتجاور فيها الثقافات والجنسيات والأعراق وينعكس ذلك على ثقافة المجتمع وفنونه.
في تلك الأجواء تفتقت عبقرية بلفقيه الذي جاء للتو من خلفية صوفية عميقة الجذور تحتضن الإنشاد الصوفي بمآتيه العميقة، وتتمازج فيه أصالة الفن اليمني الحضرمي بالروافد الهندية الثرية.
أثث لتطلعاته أثرياء حضرموت في السعودية والخليج. كانوا دعائم قوية للانطلاق إلى الفضاء العربي الواسع، وكانت فرقته الموسيقية من أوائل الفرق في اليمن والخليج في جدة التي وجد فيها حاضنة قوية له. كما كانت بيروت والقاهرة مدناً شهدت مراحل التحولات الفنية في حياته الحافلة. ما مكنه من استغوار الصوت الحضرمي والتنويع عليه ألحانا وأداء واستحضارا للعادات والتقاليد المرتبطة بهذا الصوت، فتعززت التجربة وبلغت طورا آخر من أطوار التميز من خلال الثنائية الفريدة التي جمعته بالشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار الذي رافقه في جزء مهم من مسيرته الفنية ليصبح سندا قويا له في رحلته المثمرة، وقد جمع بينه وبين قرينه الفني المحضار عشق “الدان الحضرمي” الذي أسفر عن سيل من الأعمال المشتركة استمر لأكثر من ثلاثة عقود ولم يتوقف إلا برحيل المحضار في العام 2000.
روح تريم العريقة
ولد بلفقيه في مدينة “تريم” بمحافظة حضرموت أقصى شرق اليمن في 17 مارس 1939 في مدينة صوفية تعج بالشعراء والمنشدين. وفي هذه الأجواء الروحية تكشفت ميوله الإبداعية التي بدأت حتى قبل أن يحترف الفن من خلال عمله مدرسا للغة العربية في مسقط رأسه بعد تخرجه من معهد إعداد المعلمين واشتهاره بأداء الأناشيد والموشحات الدينية وكتابة الشعر.
رحل إلى مدينة عدن وفيها واصل عمله في التدريس، قبل أن تنطلق رحلته الفنية بشكل رسمي في العام 1956، شاعرا ومغنيا وملحنا في انسجام تام بين ملكاته الإبداعية التي كرسها في خدمة مشروعه الفني الذي وضعه في مصاف كبار مطربي الوطن العربي.
مثّل انتقاله إلى عدن في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي مرحلة جديدة في حياته، حيث وجد نفسه في بيئة حافلة بالفنانين والشعراء من أمثال الشاعر لطفي جعفر أمان والفنان أحمد بن أحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله ومحمد مرشد ناجي. وهناك استطاع تقديم موهبته الأصيلة بشكل جيد من خلال حرصه على المشاركة في الحفلات الموسمية التي كانت تُقام في عدن آنذاك وبخامة صوته الأصيلة لفت الأنظار إليه، وأصبح أحد نجوم تلفزيون وإذاعة عدن، التي احتفلت بأولى أغانيه “يا ورد ما حلى جمالك” التي كتب كلماتها بنفسه، وهو لا يزال في سن السابعة عشرة من عمرة، وقد جمع بلفقيه، لاحقاً، معظم كلمات أغانيه التي كتبها بنفسه في ديوان حمل عنوان “ديوان شاعر قبل الطرب”.
كانت لنا أيام
كانت من أشهر الأغاني التي قدمها بلفقيه في الفترة العدنية أغنية “لما ألاقي الحبيب”، و”خاف ربك”، و “يا حبيبي يا خفيف الروح”، و”سهران ليلي طويل”. كما لحّن وغنى عددًا من القصائد الفصحى مثل “اسكني يا جراح” للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، و”ليلة شعّت لنا بالنور”، و”أقبلت تمشي رويدًا”.
وفي تلك المرحلة المبكرة من مسيرته الفنية، أتقن العزف على آلة العود، وغنى “وصفوا لي الحب”، و”كانت لنا أيام”، و”أعيش لك”، و”ليلة في الطويل”، و”خذ من الهاشمي”، و”تمنيت للحب”، كما غنى كذلك عددًا من أغاني محمد عبده غانم مثل “قولوا له”، و”قال لي باتوب”، و “من علمك يا كحيل العين”.
بعد عامين من إقامته في عدن، شعر بلفقيه أنه قد أثرى المشهد الغنائي العدني بما فيه الكفاية. لم تستطع المدينة أن تشبع طموحه في الانتشار العربي وتجاوز جغرافيا اليمن الفنية، فقرر السفر
إلى العاصمة اللبنانية بيروت في العام 1958 حيث مكث هناك لفترة طويلة وسجل الكثير من أشهر أغانيه وتحول إلى فنان ذائع الصيت على المستوى العربي.
طموح بلفقيه كان أكبر من البقاء في المكان. لذلك فقد تطلع إلى السفر والعيش في الأماكن التي يزدهر فيها الفن أكثر، ولم يكن أمامه أفضل من بيروت في ذلك الزمن.
سافر إلى لبنان عام 1958، وفيها صقلت شخصيته الفنية، وأطلق روائعه الغنائية التي أحبها الناس مثل أغنيته “24 ساعة” و”متى أنا أشوفك” من لحنه وكلماته.
وعن الحياة في بيروت يقول بلفقيه “كان يراودني الحلم بأن أغني الأغنية الحضرمية وخلفي الأوركسترا، وأن أخرجها من النطاق الضيق، الغناء بالعود، والإيقاع فقط، ونجحت في ذلك بين عامي 1960 – 1961.
“يا ورد محلا جمالك بين الورود” تعد أولى أغانيه، كتب كلماتها وهو لا يزال في سن السابعة عشرة من عمرة. وقد جمع بلفقيه، لاحقا، معظم كلمات أغانيه التي كتبها بنفسه في ديوان حمل عنوان {ديوان شاعر قبل الطرب}.
تعاون في تلك المرحلة مع عدد من أهل الطرب اللبنانيين مثل نجاح سلام في أغنية “من نظرتك يازين” وتعاون كذلك مع هيام يونس.
لكن الحرب الأهلية اللبنانية أجبرت بلفقيه على السفر، فاختار أن يقترب من وطنه أكثر، فسافر إلى مدينة جدة، وعاش فيها ليحصل على الجنسية السعودية، ويقدم عدداً من أهم الأغاني الوطنية التي كان من أشهرها “يا بلادي واصلي”، “يا مسافر على الطايف” وبعدها استقر في العاصمة الرياض.
وعلـى مدى عقود حياته، حقق بلفقيه شهرة كبيرة في عالم الفن، ونال الكثير من التقدير على المستوى الرسمي والشعبي، حيث حاز على الكاسيت الذهبي من إحدى شركات التوزيع الألمانية عن أغنية “24 ساعة” لتوزيعها أكثر من مليون نسخة، ونال جائزة الأسطوانة الذهبية من أثينا من شركة الإنتاج اليونانية في العام 1968 لبيع أكثر من 4 ملايين نسخة من ألبوم “امتى أنا أشوفك”.
أما منظمة “اليونسكو” فمنحت بلفقيه جائزة ثاني أحسن صوت في العالم، وفي العام 1978 حصل أيضا على جائزة أفضل صوت في العالم من حيث طبقات الصوت عن أغنيته “أقوله إيه”. وفي العام 1983 غنى أبوبكر سالم في قاعة ألبرت هول في لندن التي تعد أكبر مسارح العالم الفنية، إضافة إلى حصوله على أكثر من عشرين جائزة محلية ودولية، كان أبرزها منحه الدكتوراه الفخرية في الآداب والفنون من جامعة حضرموت، وجائزة الأوسكار في الأغنية العربية في عام 2002.
وغيرهم.
البصمة الساحرة
منجزه الغنائي الحميم الذي تركه كإرث عظيم يحفر في وجدان الناس، ينقسم إلى ثلاث مراحل، تبدأ المرحلة الأولى منذ اللحظة التي غنى فيها الأغنية العدنية التي تمددت على صفحات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتلاها ما يمكن أن يطلق عليها مرحلة البصمة الخاصة التي تبلورت في السبعينيات والثمانينيات، وقدم خلالها بلفقيه مجموعة كبيرة من الأغاني التي مثلت علامته الفارقة الحقيقية مثل أغنية “يا سهران” و”أنا سبب نفسي بنفسي” و”رسولي قوم” والعديد من الأغاني المنتمية للمدرسة الصنعانية التي أضفى عليها طابعه الخاص في اللحن والأداء مثل “وامغرد”، و”رسولي قوم”، و”أحبة ربى صنعاء”.
أما المرحلة الثالثة في حياة بلفقيه الفنية فهي مرحلة التوثيق التي شملت الفترة الأخيرة الممتدة من أوائل تسعينات القرن الماضي حتى وفاته. وعبر تلك المرحلة احتضن العديد من الأصوات اليمنية والخليجية، على رأسها عبدالله الرويشد ونبيل شعيل وهود العيدروس ونجله أصيل أبوبكر وغيرهم.
تبقى طبقات صوت أبوبكر سالم بلفقيه فاتنة للمستمعين من كل الأجيال، ولعبه الواعي والاحترافي على السلم الموسيقي أثناء غنائه يعتبر في كل مرة منهاجاً جديداً يدرّس. كيف لا وهو صاحب الأغنية الشهيرة التي كتب كلماتها ولحنها المحضار “سرّ حبّي فيك غامض/ سرّ حبّي ما انكشف/ إيش خلاني اعشق فيك/ والعشقه تلـف/أيش اوقعني في اشباكك/ وانا عيني تشـوف/ لا تعذبني وإلا سرت وتركت المكلا لك/ إذا ما فيك معروف”، التي جعلت من صاحبها واحداً من الذين نقلوا صورة اليمن الحضارية في العصر الحديث، مثل عبدالعزيز المقالح وقبله عبدالله البردوني من الأدباء والمفكرين، ومع الموسيقيين مثل عبدالرب إدريس ابن المكلا وطلال مداح الحضرمي أيضاً وآخرين صنعوا الظاهرة التي عرفت باسم “الأغنية الخليجية”، وقدموا للعرب ذخيرة حضارية يجدر بهم أن يلاقوها رصيداً لهم في أيام اليمن الصعبة هذه.