وجوه

كارليس بوغديمنت .. صحافي يحمل الحلم الكاتالوني بالاستقلال

الحقيقة – وكالات

 

اهتمام بوغديمنت بكاتالونيا وتاريخها ومعاناتها بدأ مبكرا منذ العام 1988 عندما دأب على جمع المراجع التي تحدثت عنها الصحافة العالمية، ولكن يبدو أن ذلك لم يكن كافياً له، وليرضي شغفه قضى معظم فترة التسعينيات من القرن الماضي في التنقل بين الدول الأوروبية لتطبيق التكنولوجيا الحديثة في جمع المعلومات وتوثيقها، وضمن نفس السياق كان يهتم بنقل المسألة الكاتالونية لخارج الحدود عندما أسس مجلة “كاتالونيا اليوم” باللغة الإنكليزية.

وفي العاشر من يناير عام 2016 انتخب رئيساً لكتالونيا، وسجل موقفاً لافتاً عندما أصبح أول رئيس كاتالوني يرفض أن يقسم يمين الولاء للدستور الإسباني وللملك الحالي فيليبي السادس، فأحست مدريد بأنها ستواجه رجلاً مختلفاً عن سابقيه وأحداثاً جديدة وبالفعل تحولت الهواجس المدريدية إلى واقع صعب تعيشه الحكومة الإسبانية المركزية.

 

أسئلة المستقبل

 

في برشلونة طرح بوغديمنت سؤالاً مستقبلياً على الكتالونيين: هل تريدون أن تكون كتالونيا دولة مستقلة على شكل جمهورية؟ فكان هذا السؤال بداية لتعميق الاستفتاء غير الملزم الذي نظمته كتالونيا في عام 2014 أثناء حكم الرئيس السابق أرتور ماس، اختار فيه أكثر من 80 بالمئة من المشاركين في الاقتراع الاستقلال، علما بأن 2.3 مليون شخص فقط من أصل 6.3 ملايين ممن يحق لهم الاقتراع شاركوا في التصويت،ورغم رمزية الاستفتاء إلا أنه كان مطمئنا للانفصاليين خصوصاً بعد فشل أسكتلندا بحسم التصويت للانفصال عن بريطانيا في نفس العام.

جاء التحدي الجديد لمدريد من بوغديمنت الذي أعلن الأول من أكتوبر موعداً للاستفتاء على الاستقلال، وفيما ينقسم الكتالونيون حول ذلك إذ يعارض 48.5 بالمئة منهم الاستقلال مقابل 44.3 بالمئة من المؤيدين بحسب آخر استطلاعات الرأي التي أجرتها حكومة الإقليم، يؤيد نحو ثلاثة أرباعهم إجراء الاستفتاء، إلا أن بوغديمنت لا يزال يرغب في تنظيم الاستفتاء الذي يريده أن يكون ملزما هذه المرة رغم أن مدريد تعهدت أن يكون صعبا كالمرة السابقة.

ارتكبت الحكومة المركزية في مدريد خطأ جسيماً عندما عاقبت الرئيس السابق لكاتالونيا ماس ونائبه ووزير التعليم في حكومته بمنعهم من تولي مسؤوليات عليا لمدة تصل إلى سنتين، وغرامات ماليّة تصل إلى أكثر من 36 ألف يورو. لكن الإجراءات العقابيّة زادت الطين بلة، إذ خدمت لمصلحة التحالف السياسيّ الانفصاليّ الذي فاز في الانتخابات الإقليميّة عام 2015 بأكثر من نصف مقاعد البرلمان.

سمح ذلك الفوز بالقفز خطوة أخرى إلى الأمام وطرح مسألة الانفصال على نحو أكثر جديّة بناءً على زخم وغضب شعبيّ أشد، فما كان من رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي إلا محاولة امتصاص الغضب وإرضاء الانفصاليين بأيّ ثمن. لكن يبدو أنه صحا متأخراً فقوبلت إغراءاته الاقتصادية بالرفض، وقرر الكاتالونيون المضي قدماً في الاستفتاء معلنين أنهم سيعلنون الاستقلال في ظرف 48 ساعة من نتائج الاستفتاء (إن كانت نتيجة إيجابيّة)، خرج راخوي ليعتبر أنّ تلك التصريحات محض “أوهام سلطويّة” وأنّ الانفصاليّين لن ينجحوا قطّ في تفكيك الدولة الإسبانيّة.

لكن بوغديمنت يتهم الحكومة الإسبانية بالعبث بأمن كاتالونيا وبأنها تغامر به، مما نتج عنه سلسلة الاعتداءات التي ضربت برشلونة مؤخراً، وهو يقول إن “مدريد تلعب لعبة سياسية مع أمن الشعب الكاتالوني بسبب نقص تمويل قوات الشرطة المحلية المستقلة، إضافة إلى تقييد تدفق المال والمعلومات، مما خلق ثغرات أمنية تسلل منها منفذو هجمات برشلونة، طلبنا من مدريد عدم خلط السياسة بالأمن ورفع الحظر عن توظيف ضباط شرطة كاتالونيين جدد هذا العام لكن لسوء الحظ كانت لدى الحكومة الإسبانية أولويات أخرى”.

صحيفة “إل بايس” التي تتخذ من مدريد مقرا لها ردت بأن الهجمات يجب أن تكون “دعوة للاستيقاظ” للسياسة الكاتالونية “للعودة إلى الواقع” والبدء في إقامة علاقات أفضل مع مدريد من أجل المصلحة الوطنية.

ورغم كل التهديدات من الحكومة الإسبانية بمحاكمة القيمين على الاستفتاء إلا أن الإصرار الكاتالوني هذه المرة يبدو كبيراً ومختلفاً، إذ أعلن بوغديمنت أنه على استعداد للذهاب إلى السجن إذا كان ذلك يعني إعطاء الشعب الكاتالوني فرصة للتصويت على الاستقلال. وأضاف “لا أريد الذهاب إلى السجن. ولكن ليس هناك ما يستطيعون القيام به بالنسبة إليّ من شأنه أن يجعلني أوقف هذا الاستفتاء. لدينا أكثر من 6 آلاف صندوق اقتراع بالفعل. لا أرى كيف يمكن للدولة أن توقفه”.

وفي قصر يعود للقرون الوسطى حيث مقر الرئاسة الكاتالونية الذي زخز بالأعمال الفنية الكاتالونية المذهلة، يقف بوغديمنت ويعلن بثقة “الجميع مقتنعون أنها اللحظة المناسبة لاتخاذ قرار بشأن الاستقلال. أنا على ثقة بأننا سنظهر للعالم ماذا تعني إرادة الشعب الكاتالوني”.

 

مناخات الفوضى

 

“الفوضى الاستراتيجية” سمة صبغت النظام الدولي في السنوات الأخيرة، وبات تفكك الدول وانهيارها هدفاً ومبتغى، وعلى وقع تنامي عدد الدول في القرن العشرين حيث وصل إلى 195 دولة مع نهاية الحرب الباردة نجد الآن كثرة في عدد الدول الرمادية (اللادولة) نتيجة واقع سياسي وقومي رجراج أصبح فيه مفهوم الدولة في خطر.

وضمن هذا السياق يأتي الاستفتاء على انفصال كتالونيا في لحظة تاريخية ينشغل فيها البريطانيون، وهم المشهورون بخلق الدول وصناعتها وتفكيكها، بمشاكل خروجهم من الاتحاد الأوروبي، لذا وجد الأميركيون أن الساحة قد خلت لهم، لذا كان العمل على خلق جيوب قلاقل يستعيضون بها من وجودهم على الأرض. فكان استقلال كتالونيا مصدر إقلاق لألمانيا وفرنسا على وجه الخصوص ولأوروبا على وجه العموم.

ولكن كتالونيا تبدو كبالون اختبار أميركي موجه للأوروبيين قبل التوجه نحو الهدف الأهم وهو إستونيا ومنطقة البلقان وأوكرانيا التي تعتبر خاصرة أوروبية وروسية ضعيفة، وفي الوقت ذاته وفي تزامن مريب تغلي منطقة الشرق الأوسط بالدعوة للاستفتاء على استقلال كردستان العراق، حيث جاءت التصريحات الأميركية القلقة من استفتاء كردستان على عكس دعمها الخفي لهذا الأمر، لتتشجع أكثر فأكثر الأصوات المطالبة بالتقسيم ثم تقسيم المقسم وتفتيت المفتت في الشرق الأوسط الذي يمر بمرحلة استثنائية بل كارثية سادت فيها فوضى الخرائط والأعلام، وتنامت أحلام الانفصال لدى القوميات الصغيرة منها والكبيرة، فأصداء ما يحدث في كتالونيا يُسمع بوضوح في دغدغة الأحلام الانفصالية في الشرق الأوسط.

كل ذلك يأتي بعد الإخفاق في جرّ الروس للمعركة الأوكرانية، لذا لا بد من استنزافهم في منطقة البلقان وإستونيا، وخلق جيوب ضعيفة تنخر في الاستقرار الأوروبي ليبقى الاتحاد الأوروبي أسيرا لأميركا، وإحداث شرخ في جدار المحاولات الروسية والصينية للفوز بالصراع الاستراتيجي بالسيطرة على مراكز عالمية في قارتي آسيا وأوروبا وسحب البساط من تحت الأميركان الذين يدركون أن فرصتهم في النجاح بالحروب الكونية السياسية تتضاءل، لذا كان البديل خلق القلاقل وفتح جيوب رخوة وخوض حروب بالوكالة عنهم، فكان إحياء المسألة الكاتالونية رسالة شديدة اللهجة للأوروبيين والروس، وإيماءة خفية لطموحات الحالمين والطامحين في أماكن أخرى من العالم وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط.

 

خسارات

 

يقع إقليم كاتالونيا في شمال شرق إسبانيا، وتبلغ مساحة الإقليم حوالي 32106 كيلومتر مربع ويعتبر سادس أكبر منطقة من حيث المساحة في إسبانيا وعاصمة الإقليم هي مدينة برشلونة التي يزيد عدد سكانها عن الخمسة ملايين نسمة.

كاتالونيا مزدهرة في كل شيء، وهي المنطقة الاقتصادية الرائدة في إسبانيا مع ما يقرب من 20 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي لهذه المنطقة التي تشكل 6 بالمئة فقط من مساحة اليابسة في إسبانيا و15 بالمئة من السكان، لكن سكان كاتالونيا يشعرون بالإحباط فهم يزعمون أن كاتالونيا تقوم بتحويل 20 مليار يورو إلى الحكومة المركزية، وأن هذه التحويلات أدت إلى إفلاس المنطقة ما أجبر حكومة كاتالونيا الى وضع خطة إنقاذ ففرضت سياسة تقشف وهذا ما أدى إلى تدنّ في الرعاية الصحية والتعليم وغيرها من الخدمات.

لذا فإن إسبانيا ستخسر الكثير في حال استقلت كاتالونيا، فستخسر 8 بالمئة من إجمالي مساحتها و14 بالمئة من إجمالي سكان البلاد وستحرم من قوة اقتصادية كبيرة ومن مصدر حيوي للضرائب، فكاتالونيا هي المقر الرئيسي للعديد من المجموعات والشركات العملاقة والمعاهد الكبيرة، وستخسر إسبانيا أيضاً حوالي 19 بالمئة من إجمالي ناتجها القومي وحوالي 26 بالمئة من صادراتها التي كانت تتم نتيجة مواد مصنعة في إقليم كاتالونيا، هذا بالإضافة إلى أن كاتالونيا تتحكم في 70 بالمئة من حركة النقل والمواصلات الخاصة بالتجارة الخارجية لإسبانيا، لأنها تنتج أيضًا 45 بالمئة من إجمالي المواد التكنولوجية المصدرة مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية.

 

تاريخ من الانتظار

 

تعود بدايات التشكل الحديثة للمسألة الكاتالونيّة إلى القرن السابع عشر. حينها كانت كاتالونيا منطقة تتمتع بما يشبه الحكم الذاتيّ في ظلّ المملكة الإسبانيّة، حيث كانت تدار بمؤسسات سياسيّة محليّة وأعراف محليّة. انتهى هذا الوضع في نهاية حرب الخلافة الإسبانيّة واستسلام برشلونة في الـ11 من سبتمبر عام 1714 بعد حصار دام 14 شهراً، ولا يزال يوم الـ11 من سبتمبر اليوم الوطنيّ لكاتالونيا إلى الآن. وبسقوط برشلونة سنّت قوانين جديدة جعلت الحكم في إسبانيا أكثر مركزيّة.

وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأ ما يعرف بالنهضة الكاتالونيّة التي جاءت في شكل حركة ثقافيّة أدبيّة تنادي بإحياء لغة المنطقة وتجديدها. ترافقت النهضة الثقافيّة مع تحوّل اقتصاد المنطقة من الزراعة إلى التصنيع بوتيرة أسرع مما كانت عليه في بقيّة المناطق الإسبانيّة. من هناك بدأت النزعة القوميّة في اكتساب شكل سياسيّ أخذ يتطوّر تدريجياً إلى حين تشكيل حزب الدولة الكاتالونيّة في عام 1922 وهو أوّل حزب سياسيّ ينادي بالاستقلال قبل أن يندمج عام 1931 مع الحزب الجمهوريّ الكاتالونيّ ويشكلا حزب اليسار الجمهوريّ الكاتالونيّ.

فاز الحزب الجديد فوزاً كبيراً في الانتخابات البلديّة في السنة نفسها وتزامن ذلك مع إعلان قيام الجمهوريّة الإسبانيّة الثانية، وفي المحصّلة أدت المفاوضات بين الحكم المركزيّ الجديد والحركة الانفصالية إلى إقرار حكم ذاتيّ في كاتالونيا.

لم تتواصل الإدارة الذاتيّة للإقليم كثيراً فبمجرد وصوله إلى الحكم في أعقاب الحرب الأهليّة تراجع الجنرال فرانكو عن الإجراءات السابقة وأعاد المركزيّة التي تواصلت إلى حين وفاته عام 1975.

وأُقِر دستورٌ جديدٌ سمح بقيام حكم ذاتيّ في المناطق التي تسكنها قوميّات مختلفة لكنه شدد في نفس الوقت على “وحدة الأمة الإسبانيّة غير القابلة للتقسيم”. ورغم معارضة القوى السياسيّة الانفصاليّة لمحتواه المناقض لبرنامجها، وافق أكثر من 90 بالمئة من المشاركين في الاستفتاء في كاتالونيا على الدستور.

وقادت الموافقة على الدستور إلى إصدار قانون الحكم الذاتي لمنطقة كاتالونيا في عام 1979، وهو وإن لم يرضِ الفعاليات الانفصاليّة إلّا أنّه حظي بتأييد أغلب المشاركين في الاستفتاء عليه. نتيجة ذلك برزت حركة مسلّحة تهدف إلى فرض استقلال الإقليم وقامت بسلسلة أعمال مسلحة قبل أن تنحل في منتصف التسعينيات من القرن العشرين.

في الألفية الثالثة، قادت الاحتجاجات إلى إصدار نسخة معدلة من قانون الحكم الذاتيّ عام 2006، وهي نسخة لم تحظَ كذلك بموافقة الانفصاليّين بعد تعديل البرلمان المركزيّ وفسخه لعدة بنود أقرها برلمان الإقليم. وتشمل البنود الخلافيّة مسائل ماليّة وتدخّل السلطة المركزيّة في شؤون سلطة الإقليم، إضافة إلى بنود حول اللغة وتعريف كاتالونيا كأمّة.

قد يهمك أيضاً