محيي الدين محمد يونس
لقد قامت الحكومة بتقسيم المدينة إلى قطاعات، وإذا لم تخني ذاكرتي فقد اصبحت المدينة تسعين قطاعاً , والقطاع الواحد كان فيه ألف دار , وبذلك أصبحت هذه المدينة أكبر تجمع سكاني في بغداد وما زالت , وكان هذا العمل من قبل ( عبد الكريم قاسم) مثار سخط بعض القوى السياسية وانتقادهم له ليومنا هذا , ويعتبرونه خطأً استراتيجيا لكونه أدى الى تغيير التركيبة والواقع السكاني لمدينة بغداد , ولكون جميع سكان هذه المدينة كانوا قد جاؤوا أصلاً من المدن في جنوب العراق (العمارة – الناصرية) بالدرجة الأولى ومدن الجنوب الأخرى وسكنوا في تجمعات سكنية هامشية في منطقة خلف السدة والشاكرية والمواقع الكثيرة المتفرقة الأخرى المنتشرة بين البيوت في بغداد, وكانت هذه الهجرة الكثيفة للسكان إلى بغداد نتيجة تشريع قانون الاصلاح الزراعي من قبل حكومة ( عبد الكريم قاسم ) لغرض الحد من سلطة الاقطاعيين وتوزيع الاراضي على الفلاحين , وكان لتطبيق هذا القانون تأثير سلبي على الواقع الزراعي في العراق , لتشريعه بشكل متسرع والنظر لمردوده من الناحية السياسية وتناسي المردود الاقتصادي والواقع الاجتماعي المتخلف للمجتمع العراقي في المناطق المذكورة آنذاك .
كما نود أن نذكر بأن برامج مشاريع الاسكان في عهد حكومة (عبد الكريم قاسم) لم تقتصر على بناء مدينة الثورة والتي تم تبديل اسمها إلى حي الرافدين بعد انقلاب 8 شباط 1963 , والى مدينة صدام بعد انقلاب 17 تموز 1968 , وإلى مدينة الصدر بعد الغزو الأمريكي للعراق وإنهاء نظام صدام حسين في عام 2003 ، بل تم انشاء مشروع اسكان غربي بغداد في جانب الكرخ ومشروع الألف دار في جانب الرصافة بالإضافة إلى المشاريع الأخرى في جميع محافظات العراق.
كنت في الصف الثالث متوسط في متوسطة الكفاح والتي كانت تقع في ساحة الطيران مقابل كنيسة الأرمن في ذلك الوقت , وكنت اتوجه إليها لعدم وجود مدارس متوسطة في مدينة الثورة بمرحلتي , وتعود ذاكرتي إلى صباح يوم الجمعة 14 رمضان المصادف يوم 8 شباط 1963 , حيث نهضنا صباحاً على صوت المذياع يصرخ بأصوات الانقلابيين وهو يذيع البيانات والأناشيد الحماسية (الله أكبر فوق كيد المعتدي) والاعلان عن الثورة على حكم ( عبد الكريم قاسم) وتصفه بالدكتاتور والشعوبي والعائق امام قيام الوحدة العربية والتي لم تتحقق ولم نرها حتى بعد استلام جميع المنادين بها لمقاليد السلطة والحكم في العراق , وبعد القضاء على (عبد الكريم قاسم) ومجيء فترة حكم (عبد السلام محمد عارف وشقيقه عبد الرحمن) والى فترة حكم ( أحمد حسن البكر وصدام حسين) تبين بأن هذه الشعارات كانت للوصول إلى سدة الحكم في العراق لاغير .
أنباء الانقلاب أحدثت هزة عنيفة في مشاعر جماهير، في مدينة الثورة والذين أخذوا بالتجمع في مناطقهم حائرين ومرتبكين وتصرفاتهم كانت عشوائية يدورون في حلقة مفرغة , وفي عصر ذلك اليوم توجهت جموع الشباب إلى شارع القناة وكنت معهم وشاهدنا من بعيد طلائع رتل الدبابات وهي قادمة من جهة منطقة المشتل (ساحة السباق القديم للفروسية) وكانت مقراً لكتيبة دبابات خالد , وكانت الجماهير على يقين بأن هذه الدبابات متجهة إلى وزارة الدفاع ولكنها لم تكن تعلم هل هي مع الزعيم (عبد الكريم قاسم ) وذاهبة للدفاع وفك الحصار عنه أم ذاهبة لدعم الانقلابيين , على كل حال وعند اقتراب طلائع ارتال الدبابات من الجماهير وكان آمرها برتبة عقيد ركن يستقل سيارة جيب قيادة عسكرية , نهض المذكور ووقف داخل السيارة فتجمعت حوله الجماهير الغفيرة المحتشدة وكان يعلم بأن هذه الجموع مؤيدة للزعيم ( عبد الكريم قاسم) من خلال الهتافات والشعارات والأعلام والصور المرفوعة من قبلهم بالإضافة إلى كونهم من منطقة معروفة الولاء له , بدأ آمر الكتيبة يلقي ما يشبه الخطاب والجماهير صامتة ليقول (( السلام عليكم. أخواني أحبائي جماهير مدينة الثورة أعرف بأنكم تحبون الزعيم مثل ما إحنا نحبه وإحنا رايحين للدفاع عنه والقضاء على المتآمرين ونريدكم ترجعون إلى بيوتكم حتى نستطيع أن نقوم بواجبنا بشكل صحيح وسريع , اطمئنوا راح تسمعون خوش أخبار )) وعند انتهائه من الكلام جلس في السيارة وأمر الرتل بمتابعة المسير , بينما انسحبت الجماهير إلى داخل المدينة وهي تصفق وتردد الأهازيج والهتافات بحياة الزعيم وعلى وقعها استمرت ارتال الدبابات في اكمال اندفاعها نحو وزارة الدفاع لتشدد الخناق على الزعيم ( عبد الكريم قاسم) وتنهي مقاومته في ظهر اليوم التالي 9 شباط 1963 ، ليستسلم للانقلابيين وتتم محاكمته محاكمة صورية وينفذ فيه وبجماعته حكم الإعدام في قاعة الاستوديو الكبير في دار الإذاعة في الصالحية بجانب الكرخ , ظهر يوم 9 شباط الساعة الواحدة والنصف من قبل الملازم( نعمه فارس المحياوي) والملازم ( محمد ظاهر الراوي) وبإشراف النقيب المظلي( منعم حميد) وللتأكيد على نهاية عبد الكريم قاسم وحكمه عرض التلفزيون العراقي مساء نفس اليوم شريطاً سينمائياً مصوراً يظهر ( الزعيم) ورفاقه العقيد (فاضل عباس المهداوي) والعميد الركن ( طه الشيخ أحمد ) والملازم ( كنعان حداد) وهم جثث هامدة تغمرهم الدماء لغرض قطع الشك باليقين لدى الجماهير التي كانت لا تزال تؤمن ببقاء ( الزعيم) على قيد الحياة .
والمنظر الأكثر إيلاماً في هذا الشريط والذي يعبر عن مدى استهتار الانقلابيين بكل معايير القيم والأخلاق هو رفع رئيس العرفاء ( عبد الوهاب ) لرأس( الزعيم) من شعر رأسه وبصقه في وجهه , هذه الصورة بقيت راسخة في أذهان الناس ومحل استنكارهم , لكن عبد الوهاب كان قد لقي مصرعه بعد ذلك في حادث غامض.
الجدير ذكره هو ان حركة 8 شباط 1963 قامت بها جماعة صغيرة لم يتجاوز عدد المساهمين الفعليين فيها في البداية الثلاثين ضابطاً وعدد المسلحين لا يتجاوز الثلاثمائة مدني يحملون أسلحة شخصية خفيفة وموزعين على مفارق الطرق الرئيسية.
مايؤخذ على الزعيم عبد الكريم قاسم الخطأ القاتل وهو انه عند سماعه بالمحاولة الانقلابية توجه من مسكنه في العلوية قرب الجندي المجهول القديم إلى وزارة الدفاع بالرغم من توجيه النصح له بالتوجه إلى معسكر الرشيد والقيام بمقاومة الانقلابيين من هناك , إلا أنه أصر على رأيه واستخف بالقائمين بالانقلاب ,
وكان عند مروره بشارع الجمهورية والجماهير المؤيدة له تملأ الشوارع وتهتف باسمه، كان الزعيم يخرج رأسه من شباك السيارة ويرفع اصبعيه إلى الاعلى وهو يصيح (( بعد ساعتين أقضي عليهم )) وبمرور الوقت أخذت القوات المناوئة له بالتجمع حول بناية وزارة الدفاع وحصلت معركة شرسة بينهم وبين المقاومين داخل البناية , ولا بد أن نذكر بأنه في صباح يوم الانقلاب تجمعت الجماهير أمام وزارة الدفاع وهي تهتف بحياة الزعيم وتطلب تزويدها بالسلاح إلا أنه رفض هذه الفكرة وطلب منهم الانصراف إلى اعمالهم مستخفاً بالوضع وبأنه كفيل بإنهاء هذه الحركة ومتوعدا القائمين بها بالقصاص الصارم ,وبأنه لا يريد سفك الدماء وما أكثرها حين سالت بعد ذلك .
لقد كان الزعيم ( عبد الكريم قاسم) يعتقد بأن القوات الموالية له ستنجده ولم يكن يدري بأن الغالبية من القواد العسكريين غيروا ولاءهم بوضوح كفة المنتصر , ومن أخطاء الزعيم ايضا هو عدم قيامه بتنظيم الجماهير المؤيدة له في شكل من أشكال التنظيم والتوحيد للاستفادة منها في تنفيذ المبادئ والشعارات التي كان ينادي بها , إلا أنه أصر على البقاء في رفع شعاره بأنه فوق الميول والاتجاهات في زمن كان يعج بأنواع الميول والاتجاهات القومية , الماركسية , الدينية بالإضافة إلى تأثيرات الدول الأجنبية والدول العربية السائرة في ركابها وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية والتي ساعدت الانقلابيين على نجاح انقلابهم في 8 شباط , لقد توقفت الدراسة في جميع الكليات والمعاهد والمدارس بسبب الوضع الامني في البلد وانشغال الانقلابيين في ملاحقة الشيوعيين واستمر هذا التوقف لمدة اسبوعين بعد صدور بيان يطلب من جميع الطلبة المباشرة بالدوام في 23/2/1963 , وعند مباشرتي وفي أول حصة دراسية حضر مدرس اللغة العربية الاستاذ ( كامل) وكان من القوميين العرب الشوفينيين المتعصبين , حيث كان حتى قبل الانقلاب يلمح لنا خلال الدرس بميوله المؤيدة للرئيس المصري( جمال عبد الناصر) وعدم الرضا عن الزعيم ( عبد الكريم قاسم) والشيوعيين وكان شخصا بديناً عبوساً إلا انه في ذلك اليوم كان بملامح ووجه مبتسم والفرح باد على محياه , بدأ الدرس بالإشادة بالثورة ورجالها والتخلص من مساوئ النظام السابق الشوفيني الدكتاتوري الشعوبي حسب قوله وبعد ذلك طلب منا أن نتحدث عن تفاصيل ما جرى يوم الثورة وبعدها كل حسب الرقعة الجغرافية لمنطقة سكناه وكان أول المتحدثين الطالب ( جاسم عذيب ) والذي كانت عائلته لا تزال تسكن خلف السدة حيث نهض وهو يشرح قائلاً (( استاذ احنا فرحنا بالثورة وخرجنا في مظاهرات تأييد للثورة ورافعين شعارات ولافتات مؤيدة لقادة الثورة واستمرينا في هذه النشاطات لعدة أيام )).
رد عليه الأستاذ كامل (( زين انتو شلون سويتوا مظاهرات, لعد الثورة مو اعلنت منع التجول)) احتار الطالب بماذا يجيب فاصفر وجهه وهو يجيب متلعثماً ((أستاذ احنا سوينا مظاهرات ببيوتنا)).
الاستاذ ( كامل ) مخاطباً (جاسم): (( أنت شيوعي )) إلا أن (جاسم) أخذ يحلف بأغلظ الايمان بأنه ليس شيوعياً.
أدار الاستاذ (كامل) وجهه نحونا نحن الطلاب في الشعبة وهو يصرخ (( شنو جاسم)) أجاب الطلاب جميعا وبصوت مرتفع وموحد (( شيوعي)) وكرر الأستاذ ((شنو جاسم …. )) , أجاب الطلاب (( شيوعي )) وثالثة (( شنو جاسم … )) الطلاب ((شيوعي )) فالتفت (جاسم ) نحونا وهو يصرخ بانفعال ويقول (( ولكم غضب الله على رأسكم شنو تريدون تعدموني بيش طالبيني)) .
وبما إننا نتحدث عن انقلاب 8 شباط 1963 فإن ذاكرتي تعود بي إلى اليوم الذي تم فيه إعدام رئيس العرفاء (حسن سريع ) قائد حركة معسكر الرشيد في 3 تموز 1963 وعدد من رفاقه من المراتب المنتشرين داخل المعسكر, حيث قررت حكومة الانقلاب بعد فشل الحركة المذكورة أن تقوم بعمل يستهدف اثارة الرعب في النفوس تمثل بإعدام المساهمين في الحركة وتعليق جثث مجموعة منتخبة منهم في مواقع مختلفة من أحياء ومعسكرات بغداد خصوصاً الأحياء والمواقع التي انطلقت منها ليكون ذلك عبرة لكل من يفكر مستقبلاً القيام بتمرد عسكري أو عمل مضاد للحكومة , وقد قامت الحكومة بتعليق جثة قائد الحركة (حسن سريع) في مدخل مدينة الثورة مع عدد من رفاقه في فجر يوم 31 تموز 1963 , وبقيت جثثهم معلقة الى الساعة الثانية عشرة ظهراً .
وأخيراً نقول هكذا انتهت حياة هذا الرجل ( اللواء الركن عبد الكريم قاسم ) رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة للفترة من 14 تموز 1958 ولغاية 8 شباط 1963 والذي كان يعتقد بأنه باستطاعته إدارة دفة الحكم في العراق دون الأخذ بنظر الاعتبار ظروف وملابسات تشكيل هذه الدولة في عام 1921, حيث أقر الملك ( فيصل الأول) عند تنصيبه ملكاً على العراق بصعوبة إدارة هذا البلد الذي يتكون من أقوام ومذاهب واديان عديدة غير متجانسة , أثرت على مسيرته وما زالت اثارها شاخصة ليومنا هذا , ونحن نستغرب من القائلين بأنه لم تكن هناك في ظل نظام ( أحمد حسن البكر – صدام حسين ) قضية ومشكلة باسم العرب والأكراد والشيعة والسنة , للتأكيد على اثبات وجود ذلك , فخير دليل هو الرجوع الى سجلات المعدومين والمحكومين في سجون النظام البائد لأسباب سياسية من الأكراد والشيعة والذين تقدر اعدادهم بالآلاف , وأخيرا لا يفوتني أن أذكر بأنه وبعد أيام من الانقلاب كان مذيع تلفزيون بغداد يلفت عناية المشاهدين بأن دولة الكويت قد أهدت العراق وشعبه هدية , وبعد الانتظار لساعات أعلن المذيع عن الهدية وكان شريط فيديو لحفلة للمطرب العراقي (ناظم الغزالي) في الكويت وحصول تقارب بين الدولتين بعد القطيعة التي كان سببها ادعاء ( عبد الكريم قاسم ) بعائدية الكويت للعراق , حيث قامت الحكومة العراقية بإلغاء كافة القرارات المتعلقة بالكويت والصادرة من حكومة ( عبد الكريم قاسم) واعترافها به كدولة مستقلة , ومن المفارقات هو قيام نفس الجماعة ( حزب البعث ) بإلغاء الاعتراف المذكور وقيامها باحتلال الكويت عسكرياً بتاريخ 2/8/1990 ومحاولة ضمها للعراق باعتبارها جزءا من الأصل حسب ادعاء الرئيس العراقي البائد ( صدام حسين).
لقد كانت نهاية ( الزعيم) مأساوية حيث تم رمي جثته في نهر دجلة بالقرب من جسر ديالى وأصبح طعاماً للأسماك , وخرج من هذه الدنيا بلا مال ولا بنين ولا قبر.