وجوه

أعماله تميزت بتقلّبات حالات المرأة جبر علوان القادم من بابل .. ليس مجرد رسام

خضير الزيدي 

 

بدا ذلك الطفل منشدا باتجاه الطين فشقّ لنفسه طريقا مختلفا قياسا بأقرانه. ساعدته الظروف في أن يذهب إلى بغداد ويدرس في معهد الفنون الجميلة قسم النحت. كان ذلك مطلع سبعينيات القرن الماضي، ولكن ميله الفطري وهوسه بأجساد أنثوية تغازل الطبيعة وتلهث وراء الجمال جعله منتجا لخطاب جمالي تعبيري خاصّ جدا، فاتجه إلى الرسم التعبيري وعرف عنه بأنه المصوّر البارع في التلوين والخبير في أساسيات اللون وتناقضاته.

 ولأن ميوله الأيديولوجي كان يومها ماركسيا فقد وفّر لعلوان أن يهاجر من العراق عام 1972 موليّا وجهته باتجاه روما مدينة الأعمال النحتية التاريخية الكبرى. ومن هناك عزّز تعليمه ثانية وواكب أهم الأسماء الفنية، فدرس اللون وعرف الأسس التي يتفرع منها عمل النحت، ليتخرج أواسط السبعينيات من القرن الماضي من أكاديمية روما للفنون الجميلة.

كل تلك الدروس الأولية وفّرت له طاقة مع فرصة للعمل، فبدا لنا هذا الفنان مختلفا في طرحه الأسلوبي والجمالي. ومع هذا لم نجده متأثرا بشخصية معيّنة بل بمدارس وحركات. يقول علوان حين نسأله عن تأثيرات الآخرين عليه “تأثرت بمجمل الحركة الفنية الأوروبية، وتابعت الفن الكلاسيكي في عصر النهضة والباروك، بعدها ذهبت إلى متاحف أوروبا وشاهدت الفن الحديث الانطباعي والتجريدي. مجمل هذه التصوّرات هي المحفّز والمؤثر فيّ ولكن قد تستفزني ثورة بيكاسو، أو قد تثيرني ثورة أخرى جميعها أردتُ الاستفادة منها”.

أما عراقيّا، فكان الأساتذة الذين لهم عليه فضل، كما يقول، رسول علوان وكان “متابعا لنا، وكان باحثا في اللون كحالة، وليس كشكل وهذا ما يحسب له. وكذلك أثر فيّ محمد مهرالدين في بداياته، مع إنني كنت في صراع وخلاف معه، ومحمد علي شاكر. وقبلهم أستاذنا جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد. هؤلاء كانوا حاضرين معي في التأثير في حياتي الفنية”.

علوان الغاضب من حياة العراقيات

أقام علوان العشرات من المعارض الشخصية في سوريا والأردن وتونس والكويت والبحرين ولبنان، إضافة إلى معارضه الكثيرة في أوروبا. وتميّزت أعماله بتقلّبات حالات المرأة في تعبيرية صارخة يعلوها اللون الأحمر كدلالة على التقلبات الطبيعية.

ولطالما تمنيت أن أطرح عليه تساؤلا حيال هذا الأمر، وما إن حانت فرصة لقائي به حتى أخذنا الكلام عميقا نحو تلك التحوّلات التي يشير إليها، ومساهمتها في بلورة أفكاره وتقديم منجزه الفني.

يجيبني عن رسمه للمرأة قائلا “قدّمت لي المرأة منجزا فنيا حاولت دائما أن أكون قريبا منها وأساهم في حريتها، واقترب منها، وأكون بالقرب من وعيها. فأنا لم أمنحها الحرية ولكن حاولت أن أكون إلى جانبها في أخذ الحرية لأنها تؤخذ ولا تمنح. واجتماعيّا أيضا كان لي تكيّف معها وما ساءني هنا في العراق هو ارتداد المرأة للعباءة والحجاب وطريقة الزواج والعلاقة وهذه الطقوس البدائية التي تؤجّج في داخلي الحسرة والألم على بث هكذا وعي وأفكار جاهلية”.

نفهم من هذا الخطاب بأن للمرأة وضعا خاصا وفقا لرؤية علوان، فربما يعدّها الكنز الروحي والميراث الحقيقي لإنسانيته وطريقته التعبيرية. ولهذا لا غرابة أن أعرف آراءه حينما أشير إليه كيف يفهم المرأة؟ فيجبني بلغة العارف الصوفي “هي خزيني الإنساني، فلقد منحتني أشياء كثيرة من الحب والحنان إلى الشيء الذي جعلتني أفكر فيه وحولتني من مفهومي الشرقي إلى معنى آخر، المرأة التي لعبت الدور وليس الرجل وبالتالي أنا أرسمها بعدّة حالات قد تكون صعبة قراءتها في اللوحة”.

صور المدينة القديمة

حين جاء إلى مدينته بعد انقطاع طويل امتد لأربعين عاما. جمعني معه لقاء حميمي في منزل الفنان فاخر محمد. تأملت ما فعله الشيب برأسه. وكنت أنظر إلى تجاعيده وصعوبة السير بخطوات ثقيلة، لم يدُر في خلده أننا ولدنا معا في مدينة المحاويل.

 سألته: ما الذي تبقّى من ذكرياته في هذه المدينة؟ فقال “بقي هذا النهر الذي يجري أمامنا وتلك المقهى القديمة وثمة شارع هنا أتذكره جيدا يبدو أن ملامح مدينتي تغيّرت كثيرا أو ذاكرتي أصابها الخلل وما إن توقف متأملا ملامح المدينة، حتى رأيت أن أغيّر من وجهته وحنينه لأتساءل عن سر اهتمامه باللون الأحمر في أعماله الفنية، يقول علوان هذا التواجد في الأحمر إنما جاء للجمالية فقط وحاولت أن أستفيد منه كضوء وكحالة للمرأة في الحيض، ومن هنا رسمتها بالأحمر كاملة”.

 الفلسفات اللونية المختلفة قد تكون صحيحة، كما يقول علوان الذي يضيف “إن أهم ما يميزني الاهتمام باللون ومنه الأحمر، وما ميّزني عن زملائي التشكيليين الأوروبيين والاستفادة في نفس الوقت منهم هو البحث في اللون وبالنسبة لي هذا أمر مهم وفعّال، فأهم شيء أراه في لوحتي هو اللون. لقد كنت دائما ميالا لكثافة اللون. أردت أن أضيف إلماما إلى تجربتي يعمق الاهتمام النفسي والمادي بقيمة اللون ومنها ألوان الشرق وأردت أن أضيف ما اكتسبته عينيّ من ألوان الشرق إلى اللوحة الأوروبية وأحد النقاد التشكيليين الإيطاليين قال عني (جبر جذوره في العراق وأوراقه تنمو في إيطاليا)”.

بمواجهة القماشة البيضاء

كتب الروائي الراحل عبدالرحمن منيف أن في لوحات علوان ثمّة مركزا، وهو الذي يشكِّل الثقل الأساسي فيها، أما الأجزاء الأخرى، فتماثِل الفراغ بالنسبة للعمل النحتي، أي تتوزع وتتناغم لتخدم المركز، ومن أجل أن يكون في أقوى وأجلى حالاته، فالكتلة التي تبرز، لا بد أن تكون في الموقع المناسب،

أن توضع في المكان الذي يلائمها، وهذا ما يجعل النظر يتركَّز في لوحة جبر على البؤرة أولاً ثم ينسحب تدريجياً إلى الجوانب، لكي يربط الأجزاء ببعضها، وليكشف الصلة بين هذه الأجزاء، وبالتالي مدى ترابطها وانسجامها.

وحين يباشر علوان العمل مواجها القماشة البيضاء يبدأ دون مخطاطاتٍ سابقة، دون دفتر يوميات، وبعض الأحيان دون فكرةٍ، أو دون فكرةٍ واضحةٍ، لما يجب أن يرسم، لكن ما إن يبدأ اشتباكه مع الألوان، والعادة أن يفرش منها مقادير كبيرة، وينظر إلى بياض اللوحة، حتى يُصاب بحالةٍ من الانفعال أقرب إلى الهياج، إذا صح التعبير، ويشرع في الرحلة.

إنه يعمل، في المرحلة الأولى، بسرعةٍ كبيرة، بتدفُّقٍ لا يقوى السيطرة عليه، وكأنه الحمى. لكن ما تكاد الأشكال – الكتل تأخذ مكانها، تبيّن معالمها، حتى تهدأ وتيرة الانفعال، تتراجع، لتبدأ الحرفة والخبرة الطويلة، وهنا يظهر الحذق ويسيطر الهدوء، وتأخذ الأشكال والألوان والأجزاء بحوار من أجل أن تتناغم، أن تتكامل وتترابط، لتصل اللوحة إلى الهارموني الذي أشرنا إليه من قبل. ويختم منيف قائلا “إن الرحلة مع ألوان جبر بمقدار ما تولّد متعةً بصريةً، فإنها تطرح أسئلة بالغة الأهمية، لأنها تجعلنا نعيد النظر بالألوان التي حولنا، أو تجعلنا نراها بشكل مختلف عمّا تعوّدنا رؤيتها”.

لقد عرف جبر علوان، حقا، أنه رسول العراقيين إلى المرأة في العالم كله، فنقل إليه رسائلهم المليئة بالحب والشفافية والخيال.

قد يهمك أيضاً