فنون

الحلقة الاولى الباحث الاكاديمي الدكتور عقيل الناصري: عامر عبد الله – مثقف عضوي

حاورته: غادة عبد الرزاق 

 

* دكتورنا الفاضل … متى كان اول لقاء جمعك بالاستاذ عامر عبد الله كيف تنظر إليه ؟ وماهو انطباعك عنه سلبا او ايجابا ؟

– من المعروف ان الراحل عامر عبد الله.. كان من الشخصيات المهمة في تاريخ الحركة السياسية عامة والشيوعية على وجه الخصوص.. وقد ذاع صيته منذ امد بعيد ويمكن رصد ذلك تاريخيا منذ نهاية الاربعينيات ومن ثم اشتهر اكثر فاكثر في مطلع الخمسينيات ، وخاصة بعد توحد الكتل الأرأسية في عام 1955: وهي الحزب الام وكتلة راية الشغيلة ومن ثم وحدة الشيوعيين برئاسة عزيز شريف، حيث كان عامر عبد الله احد اقطابها. ليس هذا فحسب، بل انه برز بكونه احد المثقفين العضويين في الحركة الوطنية المعارضة للنظام الملكي.. نظرا لما كان يكتبه ويمارس من فعل التغيير المادي للحياة، في الاربعينيات وما قبلها.

وبالتالي كبحت ظروف الحزب السرية من حركة عامر في الحياة الثقافية والسياسية و الاجتماعية.. حيث اخذ يتنقل بين البيوت الحزبية السرية منذ مطلع الخمسينيات.. اما بعد الثورة فقد انشغل في الصراع السياسي بدرجة كبيرة.. وتضخمت لديه الأنا بصورة أكبر. وهذا الدور مستنبط من جماهيرية الحركة الشيوعية من جهة ونضالها الدؤوب من اجل التغير الغائي من جهة ثانية وللعلاقة الشخصية التي ربطت عامر عبد الله بالزعيم عبد الكريم قاسم والتي تمتد إلى مطلع الخمسينيات، حيث تم التعارف بينهما من خلال شلة المثقفين العضويين من امثال مصطفى علي وناظم الزهاوي وجواد على وغيرهم… كان ذو هيبة وكارزما عاليتين. لا يتمنطق قدر تعبيره عن جوهر السؤال أو الظاهرة بصورة مكثفة.. وبلغة عالية من حيث المضمون.. وكان ذا معرفة موسوعية في حركة التحرر العربية بصورة عامة.. حتى انه كان يلقي محاضرات في المدرسة الحزبية السوفيتية عن هذا الموضوع وغيره ما يخص العالم الثالث.

وبالامكان القول ان الجلوس معه يشعرك برهبة معرفية.. خاصة ونحن كنا في مرحلة الدراسة العليا وننظر له بروح عالية قبيل الالتقاء به.. لما لعبه من دور كبير في نجاحات واخفاقات الحركة الشيوعية بالعراق. ومن ثم التقيت به في دمشق في جلسة حميمية تخللها الكثير من النقاش الجدي سواءً بطابعها الفلسفي أو السياسي.. لكن الاهم عندما كنت التقيته في عام 1998 في ستوكهولم وجلست معه 3 جلسات حوارية وعامة.. اتضح من خلالها مدى التغيير الذي طرأ على فكره الفلسفي وفي تجلياته السياسية والاجتصادية.. حتى اننا دخلنا في نقاش حول القانون الماركسي { نفي النفي} الذي حسب تصوره انه لا يعتبره من قوانين المادية الديالكتيكية (الجدلية) لذا رفضه. والدلالة الثانية لهذا التحول هو النقد الموضوعي لتجرية الاتحاد السوفيتي من خلال كتابه{ مقوضات النظام الاشتراكي} حيث نظر لماهيات هذا الموضوع بعد سقوط الاتحاد السوفيتي .. ونظر للموضوع بروحية جديدة. سبرت غور تاريخية الاتحاد السوفيتي ضمن قراءة لم تكن مألوفة في الوسط الثقافي العراقي اليساري..اشبهها ( بالصدمة) المعرفية التي تؤثر في جملة المفاهيم والسنن المعرفية الشكلية التي لم ترتقي لذات المضامين والماهيات الماركسية. ومن ثم تلاه كتابه { السوق الشرق اوسطية}وهي رؤية أخرى غير معتاد العقل العراقي عامة قبولها، بغض النظر عن اتفاقنا أو عدمه مع ما يطرحه عامر عبد الله في هذه الدراسات.

كما قلت تمتع الراحل بنوع من الرهبة الاجتماعية التي تفرض نفسها على الجميع حيث يسودهم الصمت وتختلج في نفوسهم جملة الاستفهامات المعرفية النظرية او العملية، كما كان متواضعا في طرحه، جدلياً في تفكيره.. مما يستحوذ على عقول وافئدة الجالسون حوله.. كانت ( الاستاذية) ملازمة له.. لم يفرضها في الكثير من الاحيان.. بل كانت تفرض نفسها سيكولوجيا من خلال معرفته الموسوعية من جهة ومن تحليلاتها العامة المهتدية بالقضايا المعرفية للمنهج الماركسي.. فيحدد الأرأس من الرئيسي والثانوي من هذا الاخير، كما يشرح للمستمع الفرق بين الضرورة والصدفة وما تؤديه التغيرات الكمية على ماهية الظاهرة من الناحية النوعية. انه فكر متجول بين ثنايا المعرفة يحلل اصعب الاشكاليات السياسية رابطاً اياها مع الواقع الاجتماعي.. كما انه شجاع معرفيا.. لا يناور في هذا المجال مطلقاً.. منها على سبيل المثال .. عندما وقف بحدة بوجه الاراء البسيطة التي كانت تدعو الى حرق المراحل بالنسبة لثورة تموز والانتقال بها الى (الطفولية) الاشتراكية.. فقد كان يرفض بشدة عجيبة مستنداً في تحليله على المنطق والمنهج الماركسيين، وعبارته المشهورة في هذا الصدد : ثورة تموز ليست ثورتنا بل هي ثورة البرجوازية الوطنية والطبقات الوسطى.هذه المقولة تعكس جدية فهمه لقوانين التطور المادي التي رسمتها المادية التاريخية.وبصورة مكثفة.. كان مفكرا علميا لم يتخندق في التجريد النظري، قدر ما هو ربط بين التجريد والعملية السياسية.. بتظافر جدلي بين الطرفين.

* قال لي احدهم ان الاستاذ عامر، حاد يتعامل مع الاشخاص اما كصديق او عدو ولا يمتلك وسطية في كسبهم؟واحد الاشخاص اشار إلى ان عامر عبد الله يمتلك قدرة عجيبة على احتواء الاخرين؟ فما رأي حضرتكم بهذه الجزئية.

– ان هذه الرؤية فيها الكثير من الصحة.. يكون حاداً عندما يصدر البعض احكاما غير دقيقة أو بعيدة عن ماهيات الوجود الاجتماعي أو يتحامل على الاخرين بصورة غير موضوعية.. أو ان تحليله للظواهر غير علمي ولا منطقي .. نعم لا يريد كسب الاخرين قدر ما يحاول اقناعهم برؤيته بالموضوع المثار.. نعم كان معتداً بذاته النظرية والحزبية وكان في الكثير من الاحيان يؤكد على رؤيته.. لكن ايضا ، كان يخضع الى مؤشرات الضرورة الحياتية العامة أو الحزبية أو للظرف الطارئ، وفي بعض الاحيان كان يرى في ذاته تمثيل كل الحركة الشيوعية، رغم خطورة هذا الموقف الذي دفع ثمنه ليس هو فحسب، بل ذات الحركة وخاصة في ظرف الانفتاح السياسي النسبي بالنسبة للحركة في الجمهورية الأولى (14 تموز1958-8شباط 1963)، أو/و في تحالفاتها السياسية. ربما هذه من بقايا المؤثرات السيسيولوجية المستقاة من بيئته في طفولته وشبابه وتكون ملامح شخصيته. ناهيك عن البعد النفسي لابن المحيطات الضيقة والقريبة من موطن البداوة ( مدينة عانه)، او ربما من تشربه بفلسفة الانتماء للنظرية الصحية والمطلقة.

نعم امتلك الراحل قدرة رهيبة على احتواء الآخرين.. وكنت شاهدا ومنقولا لي من اقرب الناس إليه.. انه عندما حضر الى الجزائر في زيارة لاحد ابناء عمومته (د. الراحل عطا فاضل الخطيب) وجمع مجموعة من اساتذة الجامعة العراقيين ، بعضهم كان مناوئًا له فكريا وحزبيا.. ولما استمعوا لآرائه .. تراهم كأن الطير على رؤوسهم.. لفهم الصمت الاستفهامي .. دون مناقشة عميقة لما كان يطرحه من مبررات تخص مواقفه السياسية والحزبية.

*هل تعتقد ان ظروف عامر عبد الله القاسية هي التي صنعته على اعتبار ان الفقر يولد من رحم المعاناة او ان الاستاذ مبدع من نعومة اظافره؟

– بالضرورة عزيزتي .. تلعب البيئة الاجتماعية دورا كبيرا في صياغة الفرد وكذلك الصحبة ونظام القربى دورا ارأسياً في الوعي الاجتماعي .. كما يلعب الموروث السيسيولوجي والمتغيرات في العائلة وماهية الطبقة الاجتماعية وتأثيرات المدرسة والبيئة الحضرية والتواصل الاجتماعي والتنشئة السياسية وغيرها من العوامل المتفرعة مما ذكر .. دورا قد يكون سلبيا أو ايجابياً وهذا متعلق بمدى التأثر وبالجانب السيكولوجي للذات البشرية.. لذا نرى ان هناك افرداً يخرجون للحياة الاجتماسياسية وهم يحملون همهوم طبقتهم وبيئتهم ويحاولون العمل على اجتثاث هذه المسببات .. وبالتالي فهم ايجابيون وانبساطيون، حسب تعريف المبدع سلامة موسى.. وبالعكس هناك من يحاول احتقار هذه البيئة رغم انه خرج للحياة الاجتماعية من رحمها وكان من نتاجها .. ويسير في ذاته الانانية الى ابعد حد. وهؤلاء سلبيون ذوو طبيعة من سماتها الانطوائية في هذه الناحية.

بالنسبة لعامر عبد الله فهو بالاضافة الى استعداده الذاتي كروح مبدعة كذلك كانت مؤثرات البيئة عليه ايجابية.. لذا بقي متواضعا في سلوكه الحياتي، وفي طراز معيشته وفي احلامه المادية ومتفتحاً على الآراء الأخرى.. أكملتها مؤثرات الحياة الحزبية السرية التي تفتقد إلى ابسط المقومات للحياة الاجتماعية الاعتيادية ما بالك المرفه.

* هل تعتبر عامر عبد الله سياسي ناجح او مفكر ناجح او انه تمكن من جمع الاثنان معا ؟ولولا انشغاله بالسياسة لكانت له نتاجات فكرية اكثر اهمية؟

– معيار النجاح نسبي وهذا متعلق بـ ماهية الموضوع؛ كذلك بالنتيجة المتوخاة من فعلية الحراك نحو الهدف المرتجى. وبالتالي لا يوجد نجاح مطلق أو فشل مطلق. كان الراحل في الكثير من رؤيته السياسية النظرية ناجحا واغلب الشعارات التي تبناه اثبتت صحتها الحياة السياسية ولو بعد زمن طويل. واحدة منها كان موضوع استلام السلطة في ربيع 1959، فقد اعتبره احد امراض الطفولة اليسارية غير المتوائم مع ملهية السلطة والمرحلة ودرجة تطور القوى المنتجة ذات الانماط الاقتصادية المتعددة، في حين هناك كم هائل يعارض هذه الرؤية وكان يطالب باستلام السلطة من قاسم.. دون ان يدركوا ماهيات الظروف الداخلية ونضجها لبلوغ هذا الغائية وتفاعلاتها الداخلية والخارجية وطبيعة ردود فعل المحيط والطرف في اخطر بقعة في العالم انذاك، كما صرح جون فوستر دالاس. ولكن كما ارى انه اخفق في اب 1964 عندما حاول مع البعض  الانتماء الى الاتحاد الاشتراكي ذات النسخة العارفية.

نعم هو مفكر عضوي تداخل البعدين السياسي والفكري في بعضهما البعض الآخر .. لانه كما ارى جاء من المعرفة الفكرية الى الفعل السياسي بتأثير الصحبة والبيئة والتواصل الاجتماعي والنفسي.. ولما بلغ مستوى القيادة.. ابتلعته السياسة واشكالياتها بكل شموليته واصبح الفعل الفكري مقتصرا على الدراسات وابداء الراي في مواقف الحزب الشيوعي في وجوده السياسي وعلاقاته الاممية. بمعنى اصبح الفعل الفكري المجرد تابعا للفعل الحزبي والسياسي العام. لذا عندما (تقاعد) حزبيا انتج 3 كتب مهمة كما ارى وكتب العديد من القراءات السياسية ذات النكهة المزدوجة : الفكرية والسياسية

* هناك اربع روايات روسية ترجمها عامر عبد الله في 1946 والى الان لم اعثر عليها وانا بأمس الحاجة للاطلاع عليها، هي المستنقع لكوبرين ,القفار لغوركي وقصة لتولستوي,والمعطف لغوغل؟.

 -في الحقيقة لا امتلك معرفة في هذا المجال، وما عليكِ سوى ضرورة البحث في المكتبات القديمة او في اضبارته في الامن العامة. لانه لما سألته عن هذه القصص .. قال انها في الزمن القديم، أي في الثلاثينيات والاربعينيات.. ولا يمتلك أيا منها بحكم تنقله الدائم وهو( غجري حزبيا إن جاز التشبيه) أي دائم الحركة والانتقال ليس في الوطن حسب، بل حتى في المنافي نتيجة ظروف النضال القاسية التي واجهت الحزب وقيادته في مختلف مراحل التاريخ السياسي للعراق المعاصر

** عامر عبد الله عمل في صحيفة الوطن واتحاد الشعب والقاعدة ؟هل لك ان تحدثه عن نشاطاته الصحفية؟

*** من السمات التي تميز الجيل الاول من سياسي المعارضة الوطنية بفصائلها الثلاث: الوطني الديمقراطي التقدمي بشقيه: اليساري( الحركة الشيوعية) ؛ والمعتدل (كالحزب الوطني الديمقراطي وجماعة الرابطة- عبد الفتاح إبراهيم وصحبه)؛ التيار القومي.. اغلب قادته دخلوا العمل السياسي من خلال الصحافة والنشاطات الفكرية.. لان المنبت والتنشئة الاجتماعية ومستوى التعليم العام .. سوف لا تضعهم في مصاف القوى التقليدية او من ابناء رؤساء العشائر او من الارستقراطية العسكرية.. هذه الظروف دفعت بابناء الطبقى الوسطى النامية الى الارتقاء الاجتماعي من خلال الفكر وليس الانتماء الاجتماعي، ما عدا قلة قليلة، واستمرت هذه الحالة الى ثورة 14 تموز عندما قلبت موازين القوى واقحمت ، بصورة غير مخططة، بابناء الطبقات المتوسطة والفقيرة الى ولوج عالم السياسة من خلال الفعل والممارسة السياسيتين وليس من حيث الفكر.. ولقد وعت الاحزاب العضوية هذه الحالة فأخذت البعض منها وبخاصة الشيوعي تثقيف اعضاءها بالنظرية الفلسفية وببعض الدراسات التي تهم الحركة بذاتها.

عمل عامر في هذه الحقول واهم عمل قام به ، كما أرى، هو دراسته النظرية التي قدمت الى الكونفرنس الثاني علم 1956 بشأن القضية الكردية وكذلك ما استجد من جوانب نظرية بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك وروح الانفتاح في المعسكر الاشتراكي حيث انعكس في هذه الدراسة المهمة.. كما كان يعمل في صحافة الحزب السرية والعلنية والاشراف على العلاقة بحركة الضباط الاحرار من خلال الوسيط (رسول الثورة) رشيد مطلك. اما في اتحاد الشعب .. فقد كان هناك أكثر من راس يشرف عليها .. احدهم عامر عبد الله.. وقد دخل في صراع مع بعض محرريه، كما قال عبد القادر البستاني في اعترافاته المنشورة في ( الكتاب الاسود اعترافات الشيوعيين 1963) وممكن مراجعة ذلك مع الاخذ بالاعتبار الظرف النفسي للبستاني الذي اجبر على الاعتراف والتهجم على قاسم والحزب الشيوعي وعلى عامر عبد الله بالذات حيث حمله الكثير من المسؤولية..

* ما حقيقة ان عامر عبد الله دافع عن فهد في 1947، في حين ان احد الاشخاص اشار انه لا يحب فهد؟

-رأيي الشخصي غير متأكد من ذلك.. وممكن العودة الى محاكمات فهد التي تمت في 24/6/ 1947، وكذلك الى مجلة ابواب التي نشرت حوارية كبيرة مع عامر نفسه.. لم يتطرق إلى ذلك، واميل من الذاكرة إلى انه لم يكن قد اكمل كلية الحقوق انذاك. لقد اعتقل فهد وزكي بسيم وعزيز عبد الهادي يوم 18 كانون ثاني 1947 وجرت محاكمته ورفاقه في محكمة جزاء بغداد برئاسة عبد العزيز الخياط .. وقد تطوع للدفاع عنه عدد من المحامين الديمقراطيين المعروفيين في مقدمتهم كامل قزانجي وتوفيق منير وشريف الشيخ وغيرهم.

*حصل عامر عبد الله على امتياز للكتابة في صحيفة البرافدا ولم اجدها الى الان ويقال انها نشرت في كتيب لاحقا؟ هل لحضرتكم ان تزودوني بها؟

– لم اسمع عن هذا الموضوع..بالتحديد.. ومثل هذه الامور لا تعطى حق الامتياز. الامر متوقف على ماذا سيكتب وهيئة التحرير هي التي تحدد صلاحية ذلك ، ناهيك عن دور اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وضرورة اخذ موافقتها كي تنشر في الجريدة الناطقة باسمها. لكن هذا لم يمنع الراحل من الكتابة في هذه الجريدة او غيرها من المطبوعات السوفيتية الأخرى وخاصة تلك التي تعالج القضايا الخاصة بحركة التحرر في العالم الثالث عامة وحركة التحرر العربية بشكل أخص وما يتعلق بالحركة الشيوعية في منطقة الشرق الآوسط على وجه الخصوص. وكما سبق وان بينت ان الراحل كان يلقي المحاضرات عن هذه المواضيع في الحلقات التنظرية مع مجموعة من الاخصائيين السوفيت في هذه الحقول. لذا كان الراحل على علاقة مع جملة من هؤلاء الباحثين ومنهم ما كنت شاهداً عليه مع الاكاديمي بريماكوف رئيس وزراء سابق ومختص بحركات التحرر لعالمنا العربي على وجه الخصوص .. وغيرهم من المستعربيين السوفيت.

* تزوج عامر عبد الله من انانيكوفا البلغارية ويقال انها كانت زوجة خالد بكداش وحدث خلاف شديد بينهما؟ ما رأيك بالمبالغة في الترويج لاشاعة عن زواج عامر وبأنه اقامه في فندق بغداد؟

– لقد تم استغلال زيجة الراحل من زوجته الأولى من كل القوى السياسية التي ناهضت الحزب الشيوعي، وتم تضخيمها بصورة خارجة عن منطق الحدث وعن ماهيته وحتى شكليته. كما انها لم تكن ، كما اعتقد، زوجة بكداش، قدر كونها كانت من العاملين في الحزب الشيوعي البلغاري آنذاك، ولما تم الانفصال عادة المرأة الى وطنها ومن ثم تزوجت من سكرتير الحزب الشيوعي الاردني فؤاد نصار.. ان هذا التضخيم قد نبع ايضاً من اختلاف القيم الاجتماعية والنظر الى الزيجة كعلاقة بين الطرفين. لم يخرج عن المألوف سوى انه قائد شيوعي تزوج في فندق بغداد ودعا الى الحفلة اصدقاءه من قياديي العمل السياسي والحكومي ، أي من وسطه الاجتماعي الثقافي. نعم تم استغلال هذه الزيجة بصورة خارج عن المألوف الاجتماسياسي، علما بأن الطبقات الميسورة والمتوسطة التي كانت متأثرة بالفكر الحضاري كانت تقوم بذات العمل وتؤجر غرف في فنادق الدرجة الأولى في مدنها او في المدن البعيدة كالموصل واربيل والبصرة. كان الصراع بين القوى السياسي قد بلغ قمته آنذاك. وكل الاطراف بالغت في التشهير بالأخر حتى وصلت الى الشتيمة والنكتة السوداء والبحث عن المثالب التي تفبرك على وفق القيم الاجتماعية الريفية حتى تبلغ تأثيرها المطلوب ، وهذا ما كنا نسمعه من شعرات وهوسات سياسية ذات مستوى منخفض من حيث الذوق العام وبعده الحضاري.

لقد لعبت هذه الزيجة في نفسية عامر دورا سلبياً، كما اعتقد، بدلالة انه لما رافقته في ترحاله في ستوكهولم عام 1998، سأله احد الاصدقاء عن الموضوع؟؟ مما اثار حفيظة عامر وبنفرزة واضحة عبر عن استياءه من هذا القول وما ينتابه.. مما اضفى شيئا من السكون على الحوارية وقد تبين مدى الانفعال الذي اصاب الراحل.

*عامر عبد الله يقال عنه انه مؤمن بالاتحاد السوفيتي بشكل مطلق وكان يسير على خطاهم من دون مراعاة واقع العراق وان هناك اختلافا جذريا بين البلدين ما رأيك بذلك؟

– لقد شخصت الاحزاب الشيوعية في اغلب دول العالم ماهية الصراع الأرأس آنذاك، وخاصةً، ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي هو بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، باعتباره سمة العصر. لذا كان الدفاع عن البلد الاشتراكي الأول- الاتحاد السوفيتي (ما قبل الحرب العالمية الثانية) تمحور حول ضرورة التبشير بافكار هذا البلد والدفاع عنه وعن توجهاته وكذلك شرح الماهية الطبقية لنظام الحكم فيه، على ضوء مكنونه الأراس المتمثل بكونه يمثل حكم الطبقات الفقيرة لاول مرة في التاريخ العالمي الحديث. وقد تعمق هذا التوجه كما قلت بعد الحرب الثانية وتكون المعسكر الاشتراكي كقوة عالمية واتسمت العلاقات الدولية بالثنائية أو ما يطلق عليه ثنائية القطبين.

ومن هذا المنطلق وتأسيسا عليه .. كان الحزب الشيوعي العراقي قد سار على ذات النهج في النظر الى ماهيات الصراع على المستوى الدولي واخذ يتناغم من الأرأسيات الفلسفية والتطبقيات العملية الهادفة الى اعادة انتاج المجتمع، بكل جوانبه، على وفق الفلسفة الماركسية وتطبيقات لينين وغيره من القادة السوفيت وبقية البلدان الاشتراكية.. وخاصة المتشابه ظروفها مع العراق ، كالصين الشعبية ومنغوليا.

لقد سار الراحل على وفق هذه الخطة المتبناة من اغلب الاحزاب الشيوعية في العالم العربي. لذا كان الدفاع عن الوطن الاشتراكي مهمة اراسية والتناغم وتطبيقاتها وأولويات البناء هدفا يروج له نظرياً. لكن رؤية الراحل الى اهمية اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية كانت هي الاخرى شاخصة امام قادة هذه الاحزاب الشيوعية وخاصة في العالم الثالث.. بدليل انهم في العراق حددوا المرحلة باعتبارها مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية وليست مرحلة الاشتراكية.. أي انهم رأوا ان عليهم تحقيق الاستقلاليين السياسي والاقتصادي ومن ثم بناء القاعدة المادية للتحولات الجذرية للافق المستقبلي – الاشتراكية.

لكن الخطاب الاعلامي لهذه الاحزاب ، كغيرها من الاحزاب الثورية واللبرالية والديمقراطية في العالم الثالث، كانت مصابة ب ( بالمنزع الاستعجالي) لذا انتشرت الامنية عوضا عن التحليل الموضوعي لماهيات التطور وسننه وقوانينه، والتي كانت مصابة، من قبل هذه الاحزاب جميعها، في عدم فهمها لصيرورة هذه القوانين والسنن كذلك معرفة آليات تطبيقها.. ولذا انتشرت فكرة { حرق المراحل} نظرا للحيف الكبير الذي كان وما زال يصيب القاعدة الاجتماعية لهذه الاحزاب. إحدى ميزات عامر عبد الله تجلت هنا بالذات.. حيث كان يرى ضرورة الاخذ بالاعتبار هذه الظروف المادية الملموسة وقد تجلى ذلك بوضوح في موقفه، وبالتالي موقف الحزب الشيوعي العراقي من مسألة الوحدة الفورية، حيث اشارا تكرارا الى اختلاف الظروف الاجتصادية بين البلدان العربية وسيادة قانون التطور المتفاوت بينها وكذلك داخل كل بلد منها، بل اشار الى تضاد التوجهات الاقتصاسياسية بينها. اخلص الى القول ان الراحل عمد الى ضرورة أخذ الظروف المادية والمعنوية بنظر الاعتبار بين الانماط الاقتصادية للبلد كالعراق، وبين البلدان العربية، ما بالك بالتجربة السوفيتية؟؟ لذا كان يرفض النقل الميكانيكي للتجارب، بل يأخذها ويطالب بتطبيقاتها على وفق الظروف الحسية الزمكانية ( الزمانية المكانية) وتكيفها مع هذا الواقع.. لذا لم يكن يعمم ويرفض النقل الميكانيكي ويتبنى الافكار الأراسية لاية ظاهرة بالتوافق مع روح العصر كما تراها الاحزاب الشيوعية آنذاك.

وهناك سمة اخرى تكمن في ان هذه الاحزاب كانت تسترشد بالآراء التي يطرحها السوفيت( النظرية والعملية) لكن لا تتبناها بحذافيرها، وإن بدت للقارئ او المتبصر السطحي انها نوع من ( التبعية)، لذا انتشرت مقولة اذ مطرت في موسكو في الصيف رفع الشيوعيون العراقيون المظلة في بغداد. جزء كبير من ذلك مستوحى من الصراع السياسي بين المعسكرين.

قد يهمك أيضاً