اجرت الحوار / مروة ميساوي
* هل الفن والرسم بشكل خاص هو حدث روحي بالنسبة لك ام ماذا ؟
– أرسم أوّلا من تلقاء الرّغبة والضرورة. فمن خلال الرّسم أبحث عن متعة داخليّة أفتقدها في المتداول اليومي بثقل أحداثه وتفاصيله، وبالتالي سوف أكون مضطرّا إلى مواترة البحث عن متعة الرّسم لأجدد العودة إليها بشوق وتلهّف متى تتأكّد الحاجة ودوافعها. وهنا أتبنى الرّأي القائل “لولا الفن لأرهقتنا الحقيقة”.
لذلك فأنا أعتبر أن ممارسة الرّسم بوصفه فنّا أو تعبيرا إنسانيا أصيلا، يشكّل بالنسبة لي حدثا روحيّا بامتياز، غير أنّ هذا الحدث يكون متجذّرا في بيئته المادّية بسائر عناصرها ومفرداتها الحسّية. وبناء عليه لا توجد أيّ دواع للفصل بين الأبعاد الرّوحيّة والفكريّة والمادّية في مسار ممارسة الرسم وفي مسار التجربة الفنية بصفة أعمّ.
*هناك الفنان وهناك الرسام ايهما انت ؟
– في تقديري الخاص لا توجد فروق فاصلة بين الرّسام والفنان في أزمنة الإنغماس في الفعل ولو أنّ صفة “الرّسام” تعدّ صفة حرفيّة، في حين أنّ صفة “الفنان” ما هي إلاّ صفة تقديريّة تتوقّف على عدّة معطيات وعوامل، منها الاجتماعي والثقافي والسياسي… أمّا بالنسبة لي فالتجربة الفنّية تبدأ من لحظة مباشرة فعل الرّسم، بمعنى أنني أستمد صفة الفنان من خلال الدّخول في المجريات العمليّة الإبداعيّة بحيرتها وتساؤلاتها واكتشافاتها ومتعتها… وهناك أتأكد أن الإحساس باللحظة الجماليّة، هو إحساس لا ينشطر ولا يتجزأ، فهو كفيل بأن يمنح للإنسان (الفنان) كلّيته المادّية والروحيّة.
*هناك الكثير من المدارس الفنية العالمية ، فما هو اسلوبك وبصمتك الخاصة ؟
– من الطّبيعي أن أكون على دراية وبيّنة ممّا جرى ويجري في المجال الفنّي التشكيلي عموما، وتحديدا فيما يتعلق بميدان الرّسم والتّصوير، على اعتبار أنّ هذه المعرفة هي بشكل ما شرط أساسي لفهم تاريخ الفن بأطواره وقيمه وطروحاته. لــذا فإنّ تمييز المدارس والتوجّهات والتيارات الفنّية الكلاسيكية منها والحديثة… يمكّنني من صياغة موقف ذاتي خاص تجاه الفن، ويحثّني على تلمّس مسلك إبداعي خاص.
إنّ أسلوبي الخاص في الرّسم لا يتنكّر للدروس والمرجعيات الفنيّة التي ساهمت في إثراء المعرفة الإنسانية، فتعاملي مع الألوان والمواد والأشكال والخامات يعكس تشبّعا واستيعابا لتلك الدّروس ولكنّه في المقابل يتحرّك من محض الذات الحرّة، المتفاعلة مع حاضرها والمستجيبة لنبض الذاكرة والانتماء إلى المكان و التاريخ .
* هل هناك شخصية مؤثرة ساهمت في تطوير اسلوبك واتجاهك في الرسم ؟ وبمن تأثرت من الفنانين العالميين ؟
– منذ سنوات عديدة كنت مهتّما – وما أزال بمسألة المادّة وبمباحثها وعلاقاتها الجدليّة بممارسة الرّسم. وقد انشغلت بدراسته العديد من النماذج والتجارب العالميّة التي تناولت هذه المسألة كقضية فنيّة مركزيّة. ومن بين أهم النماذج التي تفرض الاعتراف بتأثيرها في سجل الفنّ الحديث، أذكر تجارب : الفنان الفرنسي “جون ديبوفّاي” والفنان الإسباني الكاتالوني”أنطوني طابياس” والفنان الإيطالي “ألبارتو بورّي”. ويعتبر هؤلاء من أبرز روّاد النزعة المادّوية في الرسم الحديث والتي يمتدّ تأثيرها إلى الفترة الرّاهنة. ورغم أني لا أخفي تأثري الفكري والجمالي بهؤلاء الفنانين فأنا أسعى باستمرار إلى أن تكون تجربتي متصالحة مع وسطها الثقافي وأتطلّع من وراء ذلك إلى ترسيخ أسلوب خاص يتألَف من أصالة المقوّمات الشخصيّة والمحلّية التي تميّزني كذات إنسانيّة / فنّية مفردة.
*هل لدى الفنان التونسي تعاون عربي وعالمي مع دول اوربية ، حدثني عن هذا التعاون ؟
– هناك فعلا علاقات متبادلة على المستوى الفنّي والثقافي بين الفنانين التشكيليين التونسييّن ونظرائهم في البلدان العربيّة والأوروبيّة. وتتمّ هذه العلاقات في أطر عديدة أبرزها ما يتّصل بالتظاهرات الفنيّة (بينالي–سمبوزيوم–فوروم– مهرجان…) وذلك في سائر الدّول العربيّة تقريبا… وهناك أيضا ما يندرج في إطار تبادل خبرات وتجارب أكاديمية لها صلة مباشرة بالفنون التشكيليّة على غرار الندّوات الفكرية والملتقيات والمعارض والورشات المفتوحة…بالنسبة للعلاقة مع الدّول الأوروبيّة – خاصّة فرنسا وألمانيا وإيطاليا – توجد في تونس تقاليد قديمة للتعاون مع هذه البلدان فيما يتعلّق بالتكوين والتأطير والبحث وأيضا عن طريق إسداء منح وحوافز ماليّة للإقامة بالأحياء الدّولية للفنون (على غرار الحي العالمي للفنون بباريس). كما أنّ العديد من الفنانين التونسيين كانت لهم فرص للمشاركة في تربّصات وفي زيارات منظمة إلى المتاحف والأروقة الأوروبية للإطَلاع عن قرب عمّا تقدّمه تلك الدّوائر الثقافية من معارف وإنتاجات فنية تشكيلية معاصرة. لكن لا يجب أن يعني هذا الأمر الذهاب في طريق الاتّباع والإندراج الطّوعي لهذه الدّوائر ولما تروّج له من قيم، بل يجب التعاطي معها بعقلية منفتحة تراوح بين إمكانات التقبّل والنقد والمراجعة.
*الوانك المحببة وخامتك المفضلة ماهي ؟
– اعتبارا لخصوصية التوجّه المادّوي الذي يميّز تجربتي في الرّسم، وبالنظر إلى طبيعة الخامات والمواد والعناصر التي أدمجها وأوظفها في فضاء اللوحة (مثل : التراب، الكلس، الورق المرسكل، أنسجة الخيش، الشمع المسيل، الصّمغ والرّاتنج، عناصر عضوية…). فأنا قد أميل بدرجة معينة إلى الألوان الترابيّة وتحديدا ذات القيم الصفراء والحارّة، لكن تبقى الإمكانية واردة لموازنتها بالقيم اللّونية الخضراء والزرقاء والرّماديات بحثا عن توافقات بصريّة أو عن تباينات حادّة في ملامح اللّوحة.
*الفنان يواجه صعوبات كثيرة بنواحٍ عديدة ، هل واجهتك صعوبات ؟
– بالنسبة لي شخصيّا، لا توجد صعوبات في مسار تجربتي بمعنى العراقيل ولعلّه شيء من الحظّ والصدفة أن ألقى الدّعم والمساندة من الوسط العائلي والاجتماعي الذي أنتمي إليه، لكن ككلّ فنّان يحلم ويتوق إلى الأفضل، لا بدّ وأن يكون الحلم والمراد أكبر من الموجود ومن الممكن.لذا قد أشعر بشيء من الإحباط والتذمّر حين لا تتوفّر الأسباب لتحقيق عمل فنّي أو مشروع ما أتصوّره. ولعلّ أكبر الصعوبات التي يلقاها الفنانون والرّسامون في غالبيّة الدّول العربية، هي ما يتعلّق بمحدوديّة الذائقة الفنية لدى عموم الناس والمواطنين، فأكثرهم لا يعير اهتماما وتقديرا كبيرا للأثر الفني ولقيمه الجمالية والرّوحية، فثقافتنا هي تقريبا ثقافة سمعيَة أكثر منها ثقافة بصريّة. لذلك وفي غياب الوعي الجمالي لدى العامّة سيظلّ الفنان يعاني غربة ثقيلة، بحيث لا يتجاوز مدى فنّه وإبداعه حدود النخبة والفئات المعنيّة مباشرة بالفنّ التشكيلي.
* هل هناك اندماج بين الادب والرسم والموسيقى ، وكيف ينتج عنها عمل فني ؟
– في تقديري أن العلاقة بين الفنون جميعها هي حقيقة لا يرقى إليها الشكّ، فقط تبقى محدّدات ومقومات تلك العلاقة هي محلّ خلاف ونظر.
بين الرّسم والأدب توجد علاقات قديمة ارتبطت خاصّة بالتوجَه الكتابي أو الحروفي والذي راج منذ ستّينيات القرن الماضي لدى الرسامين العرب وكان يرتكز في أمثلة كثيرة على استعارة النصوص الشعرية والأقوال المأثورة. أمّا الموسيقى فأرى أنّ علاقتها بالرسم هي علاقة عضوية تتّصل بالمعنى والمبنى ،لأنّ مفردات النظم الموسيقي والنغمي هي تقريبا نفس مفردات التكوين والبناء التشكيلي للّوحة. كالإيقاع والنسق والملاء والفراغ والمواترة والتداول والكثافة والتوزّع والاسترسال والتراكب…وغيرها.
إن أسلوب الرسم يتشكَل بنفس الآلية التي ينجز بها الطابع اللّحني والموسيقي لذلك نتحدّث في كلا الاختصاصين عن التجريد والتعبير والتشخيص والانطباع…أرى أنَ الرسم هو موسيقى بصريَة .
*كيف اثرت التكنولوجيا والتقدم الحاصل في عصرنا على الفنون بشكل عام والرسم بشكل خاص ؟
– هناك تأثير جوهري لتكنولوجيات الاتّصال ولوسائل الميديا وللأنظمة المعلوماتية على كلّ المجالات الفنية لا سيما المجال التشكيلي. وبالنسبة للرّسم أصبحنا اليوم نتحدث عن الرسم باللاّبتوب، أو الرسم الرقمي (الديجيتال) بحيث لا يحتاج الرّسام ريشة أو ملوقا أو قماشة أو أيَ خامة يعالجها مباشرة أو يجسّها أو يتحسّسها. وفي هذا الشأن لي رأي خاصّ. حيث أرى أن التخلّي عن اللّوحة التقليدية وعن الوسائل المادّية المباشرة في ممارسة الرسم ،هو بشكل ما تغريب ومصادرة للفعل الفني وسبب للتَهاوي به نحو المجهود الأدنى، بحيث تمّحي قيم الحرفيّة والمهارة والحذق في مقابل شيوع فكرة “كل شيء وارد”.
إنّ الالتحام بالمادّة خلال مواجهة اللّوحة والألوان والأدوات يؤوي قدرا من مصالحة الكون المحسوس الذي زاحمه المدّ الإفتراضي. لذا فإن مفهوم الرسم عندي يتأسّس على مقارعة هذا الواقع الافتراضي المتضخّم عبر استرجاع وترميم العلاقة مع المحسوسات الطبيعيّة خاصّة، من أجل التجذّر في الوسط الطبيعي للكائن الإنساني حيث تمنح كلّ الإمكانات له لاستعادة فطريَة الفعل كما كان غضّا في تربته الأولى.
*معرضك المشترك (الأرض والبحر) ماهي فكرته ، ومن اين أتتك ، وكم لوحة عرضت فيه ، حدثني عنه ؟
– هو معرض شخصي بعنوان “أرض” متزامن مع معرض آخر لفنان صديق بعنوان “بحر” : الفكرة انطلقت من صميم توجَهاتنا المختلفة من حيث مصادر الإلهام والاستيحاء. فأنا أعمل وأنجز لوحاتي بمواد الأرض وأنتمي ولادة ونشأة إلى منطقة “العين” بمدينة صفاقس وهي منطقة تشكّلت من أناس يمتهنون الفلاحة ويتشبّثون بالأرض أيَما تشبَث وبمفرداتها وقيمها المتوارثة جيلا بعد جيل. في حين كان معرض “بحر” لصديقي محمّد البعتي يعبّر عن علاقته الموصولة بالبحر. فهو صياد وبحار قبل أن يكون رساما وهو إبن بيئة بحريّة في مدينة مطلّة على البحر بالمهدية.
المعرض إذا يعكس البعد الأيكولوجي في الممارسة الفنّية رسما كما يكشف أن لفعل الرسم مزاج طبيعي جغرافي ، يمكن أن يبثّ أطيافه وعلاماته في فضاء اللّوحة لأن اللّوحة في النهاية هي محصّلة الهوية الإدراكية لدى الفنان وهي بالتالي نتاج تمثّله الخاص للذاكرة المكانية ولعناصر الكون . المعرض يضمّ أربعة عشر عملا. فيها ما يتألّف من لوحات ثلاثية ورباعية وسداسية صيغت بتقنيات مزدوجة وبخامات عديدة تتراوح بين المواد الترابية والكلسية والورق والأنسجة القماشية والخشب وبمقاسات متعدّدة بين صغير وكبير ومتوسَط.
*هل لدى الفنان صفوان علولو معارض شخصية مستقلة ؟
– ليس لديّ معرض مستقلّ ولكن أسجّل حضوري باستمرار في أغلب المعارض الجماعية التي تنتظم بالبلاد التونسية كما قمت بتنظيم ثلاث معارض شخصيّة خلال مسيرتي الفنية التي انطلقت منذ التسعينيات ، ولديّ أيضا مشاركات في معارض وملتقيات خارج حدود الوطن في ليبيا وقطر وفرنسا.
* حدثني عن مشاريعك المستقبلية القادمة ، وماهي نظرتك المستقبلية للفن والرسم ؟
– أتطلَع إلى المضيّ في نفس المسارات التي كنت بدأتها عبر التعمَق في مباحث العلاقة المبدئية بين الرّسم والمادّة. وفي هذا السياق أسعى إلى فرض أسلوبي ورؤيتي للممارسة الفنية والعمل على تحيّز موقع واستحقاق بخصوصيّة راسخة في المشهد التشكيلي التونسي أوّلا والعربي ثانيا . أشتغل حاليا على الإعداد لمعرض خاصّ يضمّ أكبر قدر ممكن من الأعمال ذات الأحجام الكبيرة مع تدوينها في سجلّ خاص مدعّم بالقراءات النّقدية والإنشائية التي اهتمَت بتجربتي منذ البدايات.
*عملك في معهد الفنون والخزف ماذا اضاف لك كفنان واستاذ ؟
– ما من شك أنّ البحث العلمي والتدريس بالمعهد العالي للفنون والحرف ، من بين الرّوافد التي تعاضد سيرة التجربة الفنية. فعملي كأستاذ مدرّس ومؤطَر يجعلني دائم الصّلة بالمراجع والاختبارات والمسائل الجمالية والفنية كما يجدّد علاقتي بالمبدعين الناشئين والدّارسين والباحثين. وبقدر ما يحتاج الرّسم إلى خلوات المرسم وإلى التأمّل الهادئ المنعزل ، فهو يحتاج في المقابل إلى فضاءات حوار وتخاطب وتفاعل معرفَية فمن شأن ذلك أن يغذّي وعي الفنان ويشحذ طاقته ويدعوه إلى المنافسة وإلى مطارحة التجارب الفنية الأخرى.
* اﻟﻔﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ أن ﺗﺨﻠﻖ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﻧﺒﻊ اﻟﻔﻜﺮ وأن ﺗﻄﻮر اﻟﻘﺪﻳﻢ ﺑﺎﺳﻠﻮﺑﻚ اﻟﺨﺎص ، ﻣﺎلأﻓﻜﺎر اﻟﺮﺋﻴﺴﺔ اﻟﺘﻲ تحملها أعمالك التشكيلية؟
– إنّ مفهوم الجديد في عالمنا اليوم الذي تكتسحه الصور والإشارات وتتناقل فيه بغزارة غير مسبوقة، هو مفهوم نسبيّ إلى حدّ بعيد. فأيّ رسام ومهما بحث عن الجديد سوف لن يكون مختلفا بالقدر الكافي الذي يحدث دهشة وصدمة لدى المتلقَي. إنني أميل إلى استخدام عبارة “أصيل” بما يعني أن اللوحة التي أرسمها تكون نتاجا لفكر حرّ وإحساس صادق ورغبة جامحة، فالأسلوب الخاص عندي هو أن تعيش حالة الرسم وولادة اللوحة بملء المتعة والالتزام محافظا على مقوَمات حرَيتك واختلافك. إنّ أعمالي التشكيلية تمثَل بالنسبة لي فضاءات للاختبار والإكتشاف والمخاطرة، فحينما أعالج المواد والخامات واستدرجها إلى سطح اللّوحة وأقحمها في لعبة التوافقات والتفاعلات الشكليّة والخطيّة واللونيّة، فإن ذلك يخلق عالما منعزلا من الأمزجة السحريّة التي أتأمّل فيها ذاتي وحركاتي ووجودي ككيان إبداعي مستقلَ من خلال متابعة آثار المادّة وهي تتشكّل وتتحوّل. هذه اللوحة هي العالم الكثيف الصّغير والمحدود في الزمان والمكان، لكنّه قادر على أن يختزل فيض التواتراتوالإنفعالات وأن يؤطّر انسياب الذاكرة والأفعال ليكون شاهدا على معنى الخلق والنشوء.