داود سلمان الشويلي
إذن، السومرية كصفة في وقتنا الحاضر لحقت الأشخاص في وقتنا الحاضر الذين يتثقفون بالثقافة السومرية، وليس ان يكون نسبهم الأصلي هو السومرية… فما هي الثقافة السومرية التي وصلتنا من ذلك الزمن؟ الثقافة المادية والروحية؟
السومريون قوم يعدّون من أقدم من سكن أرض العراق، وخاصة جنوبه. وهم سُمر البشرة، قساة الوجه، أو عظام الوجه. يعيشون على ضفاف المياه (مدينة أور كانت ميناء كما تذكر المصادر). هذه صفاتهم الخلقية العامة. أما صفاتهم الثقافية، المادية والروحية، فهم أذكياء، لأنهم: أول من اخترع الكتابة. وأول من اخترع العجلة. وأول من وضع القوانين. وأول من وضع بذرة الأدب، فملاحمهم الأدبية كثيرة وأهمها ملحمة كلكامش. وأول من اشتغل بالرياضيات. وأول من وجد الأديان. وأول من قام بإنشاء شبكات الري. وفي صناعة المعجنات. وتحضير اللحوم (لحام/ قصاب). وتحضير الطعام (طباخ). وصناعة القصب كالسلال والبسط. وصناعة الفخار (فاخوري). ومهنة قطع وإعداد الحجر (حجار). وصناعة التماثيل (نحات). و صناعة الخشب (نجار). وصناعة أدوات الوزن. وصناعة القوارب. وصناعة الملابس (خياط). ومهنة التزيين (حلاق). ومهنة الطب (طبيب). ومهنة التعليم (مدرس). ومهنة الكتابة (كاتب). ومهنة البناء.
إذن، السومريون لهم ثقافتهم في كل شيء، وقد ورث منهم الكثير من سكان مدينة الناصرية هذه الثقافة المادية والروحية، حيث انتقلوا من كونهم بشراً الى كونهم ناسا مثقفين (حسب المفهوم الانثروبولوجي للبشر والانسان) . ومنهم الفتى السومري الذي قصده الشاعر عدنان الفضلي، ليس لأن نسبه من الجزيرة العربية، بل لأنه وارث الثقافة السومرية الحقة.
ففي الناصرية تجد الزقورة، وهي من آثار السومريين المكاريد التي تعطي معنى المطرودين، أي الفقراء. وفي الناصرية تشاهد المشحوف، وهو صناعة سومرية. وفي الناصرية تسمع صوتا يردد ” لو رايد عشرتي وياك/ حجي الجذب لا تطريه” وهو صوت سومري بامتياز، على الرغم من معاصرته.
هذه ثقافة السومري ابن الناصرية والتي حمل بريدها قصائد تتلى علينا، أو نقرؤها لنستمتع بها، معرفياً، وثقافياً، وجمالياً.
***
أمامنا الآن المجموعة الشعرية المعنونة (بريد الفتى السومري) للشاعر عدنان الفضلي. والتي تضم مجموعة من القصائد التي ستكون لنا رحلة لغوية معها، وهي متماسكة، محصين بعض الألفاظ، وواصفينها.
***
كانت وما زالت، على الرغم من شبه انطفاء لها، المناهج النقدية التي تعالج النص الادبي تعتمد الأحكام القيمية، ثم ظهرت بعدها قبل أكثر من خمسين عاماً في أوربا، ثم في الوطن العربي، المناهج النصية التي تحلل النص الأدبي، وإيجاد القواعد العلمية التي تتحكم به. وبعيدا عن”عقدة الخواجة” نقول إن العرب قبل ألف عام قد درسوا النص من داخله، وحللوه، ووجدوا ما كان يضمه. ولا أريد هنا أن أكتب بحثاً تنظيرياً عن الدراسات اللسانية في النقد القديم على المستوى العربي، أو في الوقت الحاضر، وكذلك عن أحد عناوينها الأساسية وهو”الإتساق” على المستوى الأوربي والعربي كذلك، لأن ألكثيرة من الدراسات والبحوث قد كتبت ونشرت عنها. وكذلك فإن المقام لا يتحمل مثل هذا البحث، لأن الدراسة هذه دراسة تطبيقية عن “الإتساق النصي” في المجموعة الشعرية “بريد الفتى السومري”.
***
في درس لسانيات النص، إهتم اللغويون كثيراً بدراسة الجملة والنص. وقد أخذت الجملة اهتماماً كبيراً من الباحثين والدارسين لأنها، ومن بعدها النص، لا يمكن دراسة المعنى منفصلاً عن سياقه اللساني ابتداء منها، للوصول الى معرفة كیفیة تماسك البناء الكلي، والوصول الى معناه.
وقد اهتمت لسانیات النص بدراسة “الاتساق والانسجام”. حيث إن الاتساق يتعلق بالجوانب التركيبية داخل الجملة لنصل الى النص. فيما الإنسجام يتعلق بالجوانب الدلالية له.
و”الاتساق” يعني ترابط الجمل في النص مع بعضها البعض بوسائل لغوية معينة. وقد عني الدارسون بهذه الوسائل/الروابط، وهي:الإحالة. والمرجعیة. والاستبدال. والحذف. والوصل, والعطف. والاتساق المعجمي.
وقد درس نقادنا القدماء هذه الأدوات كما عند القزويني في”الإيضاح في علوم البلاغة “. وعبد القاهر الجرجاني في “دلائل الاعجاز” وغيرهما.
ولما كانت الجملة مقولة تركيبية، والترابط علاقة دلالية، أي أن الترابط هذا يحيل الى الدلالة، فإننا في هذه الدراسة سندرس ترابط الجمل في الرواية هذه، فيما نترك الى وقت اخر العلاقات الدلالية، أي الإنسجام في النص.
***
انواع الوصل (الربط):
قسم الباحثون الوصل “الربط” إلى أربعة عناصر هي: زمانیة، إضافیة، عكسیة، وسببیة، وكما يلي:
1. الربط الإضافي: یتم ذلك عن طریق أداتین هما “الواو” و”أو”. لربط صورتین بینهما تشابه أو اتحاد.
2. الربط العكسي: یتم عن طریق أدوات التعارض، أو التقابل، وهي: “لكن”، “رغم ذلك”، “بل”، “غیر أن”.
3. الربط السببي: من خلاله یمكننا من إدراك العلاقة المنطقیة بین جملتین أو أكثر. ومن أداوته: “هكذا” “لعل”، “أي”، و”إذن”.
4. الربط الزمني: هو العلاقة بین جملتین متباعدتین أو متتابعتین زمانیاً. ومن أبرز تعبیر عن هذه العلاقة هي الأدوات”ثم” و”بعد”، و “منذ”، و”على نحو”، و”الفاء”.
هذه الادوات، وغيرها، لا تربط الجمل فيما بينها ربطاً مجانياً، بل هي تربط الأفكار، والرؤى، والصور، لكي يكون النص متماسكاً وكاملاً.
***
ولما كان الشعر يختلف عن السرد. لأن الجملة في كتابة النص السردي، مهما كان طولها، تتجزأ حسب المعنى بواسطة علامات الترقيم، كالنقطة، والنقطتين الرأسيتين، والفارزة، والفارزة المنقوطة، والوصلة المعترضة، وعلامة الاستفهام، وعلامة التعجب، وعلامة الحذف، والاقواس الكبيرة، والاقواس المزدوجة الصغيرة… الخ. وهناك سبب منطقي في وضع أية علامة في مكانها الواجب وضعها فيه، انه يتّبع نوع الجملة من حيث الغاية منها. وقد ذكرت الأديبة المصرية رضوى عاشور: أنها تناقشت مع الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي, لمدة ثلاثة أيام حول مكان فاصلة واحدة حتى اتفقا. وهذا يدل على أهمية الفاصلة ومكانها.
أما في الشعر فهي تتبع الايقاع، إن كان مخفيا أو معلنا. وربما تستمر الجملة الواحدة في الشعر على بيت أو بيتين أو أكثر، أو تتبع المعنى.
ونحن في هذه الدراسة سنقدم وصفاً لما يحمله النص الشعري من أدوات نحوية / شكليه تجعله أكثر تماسكاً لو تظافر مع أدوات أخرى سوف لا تقترب منها هذه الدراسة خشية التطويل.
***
هذه الدراسة ترصد عدداً من عناصر الاتِّساق في النصوص الشعرية التي ضمتها قصائد المجموعة (بريد الفتى السومري). وقد استندت إلى الكشف عن آليات الاتِّساق من خلال رصد عناصر الوصل والربط في أبيات النص الشعري، وخاصة حروف العطف المستعملة في قصائد الشاعر، وغيرها التي تساعد في الربط بين الجمل الشعرية، أو الصور الشعرية، أو الأفكار الشعرية.
والربط هذا هو تحديد للطريقة التي يترابط بها اللاحق مع السابق.
***
تضم مجموعة (بريد الفتى السومري) “18” قصيدة، وهذه القصائد بمجموعها تضم من أدوات الربط (153) أداة قد توزعت على مجموع قصائد المجموعة.
خلاصة الجدول أعلاه:
– أكثر ربط استخدم في قصائد هذه المجموعة الشعرية هو الربط بالإضافة، إذ كان مجموعه “120” مرة. وهو یربط صورتین، أو فعلين، أو اسمين، بینهما تشابه أو اتحاد. يأتي بعده الربط السببي بـ”21″ مرة بأداتي: “الفاء” و”هكذا”. ثم الوصل الزمني إذ بلغ ما مجموعه “8” مرات.
– أقل ربط استخدم في هذه القصائد هو الربط العكسي، إذ بلغ”4″ مرات. ویتم عن طریق أدوات التعارض، أو التقابل. وقد استخدمت قصائد المجموعة نادراً فعلي التعارض والتقابل.
– (107) مرات وردت فيها الأداة “الواو”. ويليها (20) مرة وردت أداة”الفاء”. و(7) مرات وردت الأداة “بعد” و”حتى”. ثم (6) مرات الأداة “أو”. و(4) مرات الأداة “لكن”. و مرة واحدة وردت الأدوات “هكذا”، و”منذ”.
– في القصائد نجد عناوين ثلاثة فيها أداة ربط هي “الواو”. وهذه العناوين هي: (شتاء معتّق ومطر مختمر). (كل هذا الضجيج وأسمعكم..!!).( رسائل العهر والطهر).
– أكثر قصيدة تكررت فيها الأداة “الواو” هي قصيدة(الناصرية التي في العلا)، إذ تكررت”16″ مرة.
– قصيدة (بريد الفتى السومري) استخدمت أكثر أدوات ربط، إذ بلغ مجموعها “6”أدوات، هي:”الواو” و”أو” و”الفاء” و”حتى” و”لكن” و”منذ”.
– قصيدة واحدة ضمت أداة واحدة هي “الواو” وقد تكررت مرتين هي قصيدة(عندي ما يكفي).
– قصيدتان ضمتا أقل أدوات ربط هي قصيدة “دون المخفي من البياض”. وقصيدة”عندي ما يكفي”.
مالذي تعنيه هذه الخلاصة ؟
ان هذه الدراسة النصية الاحصائية أكدت بما لا يقبل الشك ان الشعر يختلف كثيراً عن النثر، النثر العادي والنثر الفني، إذ كان دائماً يتجه الى الاقتصاد اللغوي، والتكثيف. وكثيراً ما نجده يستغني عن أدوات الربط خاصة”الواو”، على الرغم من ان هذه الأداة هي الأكثر استخداماً من باقي الأدوات.
إلّا ان أدوات الربط، مع قلتها، تحافظ هي وأدوات الاتساق الأخرى مثل الضمائر، والإشارات المحيلة إحالة قبلية، أوإحالة بعدية، والاستبدال، والحذف، وغيرها من الوسائل التي يرصدها المحلل الواصف على اتساق الخطاب، على تماسك النص.
الدراسات من هذا النوع تفيد النص الأدبي، لأنها تمدح وتذم في الآن نفسه، استخدام أدوات الربط كافة، وهي أدوات لغوية. والدارس يجد ان النص الأدبي “شعراً كان أم سرداً” يستخدم هذه الأدوات بكثرة في المواضع التي يرى أن الضرورة تحتم ذلك، ويقلل استخدامها في المواضع التي يرى ان لا ضرورة حتمية لها، ويستخدم بدلاً عنها أدوات الترقيم مثلاً.
ان النص الأدبي المقتدر، والذي يحمل قسطاً من الابداع هو النص الذي يقدر على حفظ التوازن بين إثرائه باللغة المنحرفة عن القاموس، وبين اقتصادها، وتكثيفها.
(*) فصل من كتابي الجديد المعنون ( التماسك النصي من خلال أدوات الربط).