فنون

قراءة نقدية تطبيقية في رواية "التشابيه… صفحات مرويّة عن الأيام الخوالي" للكاتب العراقي داود سلمان الشويلي

ذ. بوزيان موساوي. وجدة. المغرب

 

   أي جواب، قد يكون موضوع خلاف بين النقاد. فتمثّلاتنا التقليدية لجنس الرواية غالبا ما ترتبط بحجم الكتاب وعدد صفحاته؛ اعتقاد يعتمد في تبرير موقفه بِكون الرواية ـ خلاف القصة ـ تطرح عدة قضايا جوهرية متشابكة، على امتدادات زمنية متباعدة، وفضاءات مختلفة جغرافيا وبشريا، وترسم الكثير من البورتريهات لنماذج من شخصيات “ورقية/ كارتونية” مُستلهمَة من الواقع، تصنع الأحداث أو تخضع لها… لذا نتوقّع كقراء ـ اعتمادا على هذه الكليشيهات المتوارثة بأن يتعدى عدد صفحات الرواية ال 200 صفحة بكثير… لذا فالعديد من الروائيين العالميين مثل “فولتير” و”ألبير كامي” في بعض نصوصهم السردية الأدبية، انتبها لمعضلة التجنيس، فاستعملا مصطلح “قصة” (Récit) بدل رواية (Roman)، وذهب “آندري جيد” بعيدا لما كتب على أول صفحة من روايته “تجار العملة المزيفة” (Les faux monnayeurs): “هذه ليست رواية” (Ceci n’est pas un roman)… جدال قديم هذا الذي تطرحه قضية التجنيس، إذ تعود إلى عهد أفلاطون، وطرحها أرسطو بوصفها إشكالية كبرى في كتابه “الشّعرية” (La poétique)… ويرى الكثير من النقاد أن استقرار الرأي على تصنيف بعض الأجناس الأدبية كما تمت تسميتها وّتعريفها في بعض المعاجم والكتب المتخصصة، له وظيفة بيداغوجية/ تعليمية توفّرللمتعلّم أبجديات خصائص ومميّزات كل جنس أدبي على حدة…

   وربّما هو نفس الهاجس البيداغوجي/ التعليمي الذي دفع بالروائي داود سلمان الشويلي لإقحام نفسه بما يشبه الرسالة التوجيهية للقارئ قبل بدء الرواية:

   في رواية “التشابيه” كما في روايات أخرى مثل رواية “أوراق المجهول” يستحضر في كتابته تجربته كناقد ينظّر لجنس الرواية، بمعنى أنه يُقعّد لأسلوب خاص به في كتابة الرواية عبر “أوراق خارجية” مصاحبة للنص السردي الدرامي ذات وظيفة ديلاكتيكية/ تعليمية توجّه القارئ مباشرة نحو دلالات الرواية شكلا ومضمونا.. … غير أن الكثير من النقاد قد لا يستحسنون “تدخلات” الكاتب لـ “تأطير” القارئ عبر “أوراق خارجية” لا تنتمي لنص الرواية. وقد لا يستسيغون في نفس السيّاق حِرْص الكاتب داود سلمان الشويلي على وصف عمله في “التقديم”، وتبرير هذا الاختيار أو ذاك فيما يتعلق بتصميم الرواية وتجزيئها ، وطرح إشكالات جدلية الواقع والخيال في الكتابة الأدبية (وكأننا في “الميتا ـ رواية”)… و تخصيص “ورقة خارجية” ثانية بعد انتهاء الرواية لشرح المعجم المعتمد… بعضهم (النقاد، وحتى بعض الكتاب مثل رولان بارت، وجون بول سارتر) يجمعون على رأي مفاده: انه بمجرد ما ينشف الحِبْر، تعود ملكية العمل الأدبي للقارئ/ المتلقي، بل يصبح الكاتب المبدع نفسه مجرد قارئ لعمله… و أي توجيه من الكاتب هو تأثير (قد يكون مجحفا) على “جمالية التلقي، و قد يحرم القارئ من “متعة القراءة”(عنوان كتاب رولان بارت)، و نشوة المفاجأة (كما في مسرحيات برتولد بريخت)، و سِحْر “شِعريّة” الابداع الأدبي (بمفهوم تودوروف)، و عناء طرح الأسئلة والبحث والتنقيب…

ـ السؤال المحوري الثاني: لماذا “التّشابيه”؟

   وفّر علينا الكاتب داود سلمان الشويلي عناء البحث عن المعنى ومُنزلقات التأويل لما ضمّ في آخر لآخر صفحات كتابه “ورقة خارجية ثانية” مخصصة لشرح المعجم، إذ عرّف “التّشابيه” كالآتي:

   “التّشابيه، مسرحية شعبيّة يقوم بها الأهالي، تجسد فيها استشهاد الإمام الحسين في معركة الطف في اليوم العاشر من شهر محرّم..”

لهذا التعريف أكثر من دلالة:

   ـ “التشابيه” مسرحية من الموروث الشعبي؛ ولهذه الإحالة بعدان دلاليان متميزان: فمن جهة يوظف الكاتب الثقافة المحلية فنيّا وتراثيا وحضاريا، ومن جهة أخرى فهي إحالة تضع القارئ في محطة توقعية/ استباقية بخصوص مجريات الأحداث في نص الرواية: أي قالب درامي/ مأساوي ناتج عن صراع “الإخوة الأعداء” (كما رواية “الإخوة كرامازوف” للروائي الروسي العالمي دوستويفسكي).

   ـ “التشابيه” تجسد واقعة “استشهاد الحسين في معركة الطف”؛ و تعيد بالتالي للأذهان إحدى الشرارات التي يعاني منها المجتمع العراقي والاسلامي والمسيحي إلى اليوم: الصراعات المذهبية والطائفية التي اختلف فيها حابل السياسة بـ نابل الدين للاستيلاء على السلطة…

   ـ “التشابيه”/ “التشابه” في سياق هذه الرواية: فمن خلال “التقديم” (الذي كتبه صاحب الرواية بنفسه) يكتشف القارئ قبل دخوله عوالم الرواية، وحتى دون البحث عن الفهرس، بأن المسرود في الكتاب تتحكّمه كرونولوجيا فترتين زمنيتين، وكأننا نقرأ فصلين من رواية واحدة، أو روايتين في رواية واحدة كلّها على شكل “ذكريات” (“صفحات مروية عن الأيام الخوالي”)، أو “ومضات” (Réminiscences) كما يسميها الروائي الفرنسي العالمي مارسيل بروست:هما زمنين روائيين: زمن “وقائع ما حدث في المدينة” (القسم الأول المعنون “رواية الأحداث”)، و زمن “تقولات الناس” (القسم الثاني المعنون “ما حدث بعد ذلك”)… هي تداعيات الأزمنة عبر الخيال تارة وعبر الاستحضار تارة أخرى؛ وهذه التداعيات تقرّب معنى “التشابيه” بمصطلح “التّشابه”الذي من بين دلالته (حسب معجم اللغة العربية المعاصرة) كونه “أحد قوانين تداعي المعاني، ويتلخّص في أن الصور الذهنية المتشابهة مترابطة، ويستحضر بعضها بعضا في الذهن…”

ـ “التشابيه”/ “المشابهة”:

كتب داود سلمان الشويلي في مقدمته لهذه الرواية:

   “التشابيه” هي خيال أكثر منها حقيقة، وهذا لا ينتقص من قيمتها الواقعية لأنها بنيت على أحداث حقيقية…”

   يحيل هذا التصريح على جدال أسال الكثير من الحبر، خصوصا فيما يتعلق بـ “الرواية الواقعية”، ورواية “السيرة الذاتية”؛ مفاده مدى مطابقة المسرود باعتباره عملا أدبيا فنيا للواقع الحقيقي…هنا تتدخل تقنية “المشابهة” (La vraissemblace) التي يلجأ إليها المبدعون بفنيات عالية لتبدو العوالم المتخيلة في الرواية من فضاءات وشخصيات وأحداث وقضايا شبيهة إلى حدّ المطابقة بالعوالم الحقيقية… تقنية مستلهمة من نظرية “المحاكاة” (mimèsis) لأفلاطون.

   ـ السؤال المحوري الثالث: كيف نقرأ تصوّر الكاتب المبدع لـ “مدخل الرواية”؟

على سبيل التذكير يحيلنا عنوان الرواية “التّشابيه”على مسرحية شعبية تراثية؛ و المسرح الكلاسيكي كجنس أدبي، كان يتقيد في “مشهد العرض” (Scène d’exposition)، وهو المشهد الأول من الفصل الأول من المسرحية، بتحديد المكان، والزمان، وتقديم الشخصيات الرئيسية، مع الاشارة الأولية للموضوع، و ذلك احتراما لـمبدأ “الوحدات الثلاث” كما عرّفها أرسطو. وقد سارت الرواية التقليدية على هذا المنوال كما الحال في عدة روايات عالمية وعربية، إذ يقوم الروائي في الجزء الأول من الفصل الأول من روايته (L’INCIPIT) بوصف الفضاء الرئيسي في الرواية بشكل دقيق، مع تحديد الزمان (الأزمنة)، وهو ما يسميه الشكلانيون الروس مثل فلاديمير بروب “عناصر الظرف”(Les circonstants)،وتقديم الشخصيات الرئيسة برسم بورتريهاتها تدريجيا”العناصر الفاعلة” (Les actants)… ووصف “وضعية الانطلاق” (Situation initiale)،كما سماها ياكوبسون، أي وضعية ما قبل أول حدث درامي في الرواية.

   في مطلع رواية “التشابيه”لعب المبدع داود سلمان الشويلي، كما على خشبة مسرح، على تقنية الأضواء ليخلق لدى القارئ التقليدي فضول اكتشاف ما يخفيه الظلام:

   ـ قدم الكاتب الشخصية الأولى (كما في مشهد أول) بضمير “هو”طيلة صفحة ونصف (15و16)، ولم يسميه (جاسم الأعور) الا انطلاقا من النصف الثاني من الصفحة 16؛ و كأننا بذلك نطرق أبواب رواية من نوع آخر: تشبه كتابات “الرواية الجديدة”أو “موت الرواية” (Le nouveau roman ou la mort du roman) كما عتن آلان روب غريّي الذي تزعم تيار “اللا ـ بطل”، فـ “هو” ليس فقط “أعور” كما اسمه، بل كما وصفه: “برزت عيناه، إحداهما ترى الظلام الذي حوله، والثانية نسيت لون الضوء من سنين طويلة…” (ص17). و قد يتأكد لنا ذلك ربما من خلال تعامل الكاتب داود سلمان الشويلي مع وحدتي المكان والزمان:

   ـ تقديم المكان: فخلاف الكاتب بالزاك في روايته “الأب غوريو” الذي خصص 33 صفحة لوصف المكان في مطلع الرواية على سبيل المثال لا الحصر، يكتفي داود سلمان الشويلي بتغييب الأضواء عن أول مكان في الرواية: “الخصّ القصبي”(وهو كما عرفه في هوامش الرواية المخصصة للمعجم: “بناء بسيط يأوي إليه الناس من القصب و البواري”)، مكان يوحي بالفقر و العوز والهشاشة والعدمية… لا نعرف أننا وسط “قرية” إلا في الصفحة 17: “فإبتلعه ظلام أزقة القرية الصقيعي…” فضاء مغمور بالظلام تحت سماء سوداء: “كانت السماء من فوق رأسه، سوداء كسخام الفانوس، وكأن النجوم الذهبية والفضية التي تمتلئ به، قد تساقطت كلها…” (ص17)، هي “سماء حبلى… ستمطر بردا يجمّد الدّم في العروق..” (ص16). وكأننا في مطلع هذه الرواية مع “اللا ـ بطل”، ومع “اللا ـ مكان”: “مكان لم تتوضّح معالمه بعد..” (ص15)… ورغم أن عنوان القسم الأول من الرواية (“رواية الأحداث: وقائع ما حدث في المدينة”) تشير مباشرة إلى أن فضاء الرواية هو “مدينة”، إلا أن القارئ يجد نفسه على طول ما يفوق 30 صفحة في رحاب “قرية” بدون اسم، إلى أن حدد الكاتب موقعها الجغرافي في الصفحة 31 لما كتب: “كانت القرية معزولة بتل ترابي عال عن المدينة، يحاذيه نهر ماؤه أسود برائحة نتنة. تنتشر فيه بعض جثث الحيوانات النافقة..”؛ وصف يقرب القارئ جغرافيا من منطقة “أبي جداحة”التي عرفها الكاتب في هوامش المعجم على أنها “منطقة غرب مدينة الناصرية فيها سدة ترابية تحيط بنهر الفرات لحماية المدينة من الفيضانات..”… و نفس الدالة الوظيفية تنطبق على الزمان.

ـ تحديد الزمن في مطلع الرواية:

   الظلام احد عوالم “لا ـ بطل” أعور، والظلام يغطي سماء القرية وأرضها، والظلام يحول دون تحديد الزمان إلا نسبيا تمّت الاشارة إليه بالإحالة على “هلال عاشوراء”، نقرأ: “رفع رأسه إلى قبة السماء، فهاله ما رأى، إذ راحت كتل من الغيوم الداكنة الثقيلة تنتشر في المكان الذي حملقت فيه قبل ساعات مئات العيون تبحث عن هلال عاشوراء في سماء الله الواسعة، و كأنه طفل خبيث يلعب (الختيلة).. وعندما لاح لعينين من تلك العيون التي أضناها البحث، انمحى تاركا أصوات التهاليل والتكبير تملأ الفضاء.” (ص16).

   هكذا رسم الروائي داود سلمان الشويلي فضاء روايته بدءا من مطلعها: لعبة الأضواء لاستتباب الظلام في المكان، وفي عيون الشخصية… والحدث/الزمان: ذكرى “عاشوراء”.

ـ السؤال المحوري الرابع: ما الغاية من توظيف رمزية “عاشوراء”كحدث روائي؟

   للتذكير، يعتقد البعض أن “عاشوراء” مناسبة فرح عند “أهل السنة” من المسلمين، بينما هي ذكرى حزينة بالنسبة لـ “أهل الشيعة”. يربطها الفريق الأول بقصة “اليوم الذي نجّا الله فيه النبي موسى ومن معه من “بني إسرائيل” من قوم فرعون حيث فلق النبي بعصاه البحر وتمكن من الفرار بينما غرق فرعون وجنوده..”، بينما بالنسبة للفريق الثاني، فإن عاشوراء هي “ذكرى مقتل الإمام الحسين، حفيد النبي محمد من ابنته فاطمة، الذي لقي حتفه سنة 680 ميلادية، في صراع على السلطة، كان إحدى أهم نقاط الانقسام بين “السُّنة” و “الشيعة”.

   ويتموقع قارئ رواية “التشابيه” في فضاء “شيعي” بشكل جليّ ابتداء من الصفحة 24، حيث نقرأ: “كانت الصورة الأولى تمثل رسما للامام علي بن أبي طالب (…) كان الشيخ عبد الكريم قد اقترب بفانوسه من الصورة، وراح يتملّاها وكأنه يراها لأول مرة.. مرددا مع نفسه: السلام عليك يا أمير المؤمنين وعلى إبنك الحسين سيّد الشهداء…”

   فضاء ديني شيعي محافظ جدا ومنغلق على نفسه، تتحكّمه عقلية الفقيه الذي بدوره يتحكم في القرارات الادارية والسياسية الحكومية… ولعلّ من بين الأمثلة العديدة الدالة على هذه العقلية المنغلقة/الاقصائية للآخر والتي أوردها الكاتب داود سلمان الشويلي على طول “التشابيه”، قصة المرأة التي استقطبها “جاسم الأعور”؛ نقرأ: “كانت في الثلاثين من عمرها.. سمراء، طويلة، مضمومة الجسد، يلوح على صفحة وجهها الأسمر لون مغبر، مائل للسمار المحبب. لا يعرف لها اسم سوى اللقب الذي أطلقه عليها الحاج “فريج”عندما رآها أول مرة مع “جاسم الأعور”(…) إنه الشيطان بعينه.. أعوذ بالله منها ومنه. ردد الشيخ ذلك مع نفسه، وتأفف كثيرا، وأشاح بوجهه عنها، وهو يتذكر محاولاته العديدة مع الحاج “فريج” لإقناعه على ترحيل هذه المرأة الملعونة التي جاء بها “جاسم الأعور” قبل أكثر من ستة اشهر، إلّا أن محاولاته باءت بالفشل، رغم ما قدمه مع ساكني الزقاق من (عرائض) إلى أعضاء المجلس البلدي…” (ص39و40).

   صراع بين معارضين لتواجد تلك المرأة باعتبارها “بلوة سوداء”، ومؤيدين لبقائها معتبرين إياها “نعمة ربانية”… و هكذا ينصرف الناس حسب قصة هذه المرأة إلى اجتماعاتهم وعرائضهم ومطالباتهم بتدخل السلطة الادارية والسياسية الحكومية إلى أمور”أخلاقية” متخلفة صرفة، بدل التفكير في تغيير وضعهم الاجتماعي الهش، وإعادة تهيئة قريتهم السوداء النتنة بدءا من السد الترابي الذي تنتشر فيه جثث الحيوانات النافقة…

   وما استهل داود سلمان الشولي روايته “التشابيه” بصراع الظلام مع النور (“كان الضوء الخابي للفانوس يصارع كتلة الظلام الهائلة في الركن الجنوبي من (الخص)” ص15) إلّا كناية عن “التفكير الظلامي” المعشش في عقل ووجدان شعوبنا المتخلفة والذي يجد ضالته في قراءات خاطئة وموجّهة للخطاب الديني الايديولوجي… الذي يركب عليه رجال السياسة في مجتمعات تتحكّمها عقلية “الفقيه”.

   وقد كان داود سلمان الشويلي واضحا في هذا السياق لما صرح في مقدمته بعنوان “تنويه” بمقولة الثالوث “الوطنية”، و”الحكومة”، و”الدين”، وساق في السياق شهادة المفكر المتنور فرج فودة الذي قال: “المسألة كلها باختصار أنه عندما تفلس الاحزاب    ويفلس السياسيون.. يلعبون على المشاعر الدينية لأنها المدخل السريع لمشاعر الناس وليس عقولهم، وهذا الخلط بين الدين والسياسة هو الخطر..” (ص10).

   هي أسئلة من بين أخرى كثيرة قاربنا من خلالها جوانب من رواية “التشابيه” للكاتب والناقد المبدع العراقي المكتوي بنيران الظرفية الحرجة التي يمر منها بلده العراق.

قد يهمك أيضاً