ملف خاص

فاضل الجلبي .. شيخ الخبراء العراقيين يُحرَم من الموت على شاطئ دجلة

زيد بن رفاعة 

 

قرأ الكثير عن النفط واقتصاده، بالفرنسية والإنجليزية، واستعد جيداً، كانت المهمة شاقة، من ناحية أن المادة جديدة عليه، وآنذاك كانت الدراسات في اقتصاد النفط ذات نزر قليل.

ساعدته مكتبة اقتصادية كثيراً بباريس، حتى سمحت له بحمل التقارير خارجها بعد انتهاء الدوام الرسمي، وبعد جهد جهيد تمكّن من تحضير مادة ممتازة أبهرت الأستاذ ومسحت عن طالب الدكتوراه الإحباط الذي لحقه من رأي أستاذه في ما كتب عن ميزان المدفوعات. نال الدكتوراه، في موضوع الشركات وأسعار النفط، وذلك في يناير 1962.

 

العقل المتقدم والتأميم

الثوريون يعدّونه “عدواً للجمهورية”. لكن الكثير الذي شهده الجلبي  بعد 14 تموز 1958 مِن سلوك ثوري غير متوقع، جعله يفكر بما كان ذاهباً إليه. حينها أخذ يتفحص القول والفعل، ويراجع نفسه التي وجدها تدخل في خيال لم يحصد منه غير اللكمات.

فتحت تلك الدراسة للجلبي آفاقاً في تخصصه، والذي ظل ملتصقاً به حتى وفاته، فعندما يُذكر الجلبي، يُقال “صاحب النفط”، حتى يكاد لا يتداول حديث عن اقتصاد هذه المادة، التي أخذت تُحدد مستقبل البلدان، ومنها النعمة ومنها النقمة، مِن دونه.

بدأ الجلبي، كالكثير من شباب العراق، يسارياً، ولم ينتم لحزب، فشخص مثله صاحب طموح علمي ووظيفي، لا يألف التنظيم الحزبي، ولو دخله لهرب منه ربَّما مِن أول اجتماع، فالخلية الحزبية شأنها شأن الحضيرة العسكرية، قائدها هو الأول والأخير، وعليه وأفراد خليته تنفيذ سياسة الحزب، والشعار، في كل حزب من الأحزاب الثورية والقومية والدينية “نفّذ ثم ناقش”، بينما الجلبي لا يقدم على التنفيذ بلا مناقشة، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بشخصه أو بعلمه.

كان العهد الملكي بالنسبة إليه ولجيله أيضاً، الذي أخذ يطّلع على الأدب الثوري، رجعياً، لذا كان يؤيد العمل الثوري، والأمر لم يكن رغبة شخصية بقدر ما كان سلوك جيل كامل، يتأثر بما يقرأ وما يسمع بأن الثورات تتجه بالعالم نحو الأحسن، وفي ذلك نوع أيضاً من التأثر والخضوع للأفكار الجارفة آنذاك، والتي يتحدى بها الشباب الواقع، مع أن الواقع كان أكثر ثورية من الأفكار نفسها. فتَحْت هذا التأثير كان الجلبي يدفع تبرعاً مالياً للحزب الشيوعي العراقي، والذي كان آنذاك ممثلاً للهوى الثوري.

غير أن ما حصل بعد 14 تموز 1958، وما صادفه الجلبي مِن سلوك غير متوقع من الثوريين، جعله يفكر في ما هو ذاهب إليه، فأخذ يتفحص القول والفعل، وتجده راجع نفسه فوجدها تدخل في خيال لم يحصد منه غير لكمات من الثوريين، الذين اعتبروه “عدواً للجمهورية”. أخذ يفكر في مجلس الإعمار، الذي تأسس في بداية الخمسينيات، وحصرت إيرادات النفط به، لتشييد البنية التحتية، والتي لا وجود لها بعد الانتقال من العهد العثماني، فأخذت السدود تقام، والطرقات تمتد، والجسور تعبر صوبي الأنهر، وانتشرت المدارس.

 

عندما أخذته الحَيرة، بين ترك العمل بجنيف، في مؤسسة تابعة للأمم المتحدة، والالتحاق بالوظيفة ببغداد، تلبية لطلب الوزير عبداللطيف الشواف، ذهب يستنصح الوزير نديم الباجه جي، الذي كان يعمل مستشاراً في أكثر من مؤسسة عالمية، كخبير نفطي، بعد انهيار النظام الملكي وكان وزيراً للنفط فيه. نصحه الباجه جي أن يلتحق بالوظيفة، لأن مستقبل العراق النفطي زاهر، وبالفعل تم ذلك. تحت هذا التأثر، عندما توفّي نديم الباجه جي 1976 وقد كان الجلبي وكيلاً في وزارة النفط، قدّم مقترحاً للوزير، أن تعبّر الوزارة عن تعازيها بوفاة أحد أبرز خبراء النفط العراقيين، لكن الطلب رفض، فتعازي مؤسسة رسمية بشخصية من العهد “الرجعي” تُعد تغيراً في سياسة حزب البعث.

منذ 1968 وقبل ذلك، كان الجلبي أحد أبرز الوجوه العراقية في اقتصاد النفط، ويحضر معظم الاجتماعات العليا، مع أنه لم يكن حزبياً، وهذا ما كان يقلقه في أكثر المواقف. حضر اجتماعات تأميم شركات النفط، وحصل أن اتُخذ القرار بإصدار قانون التأميم، الذي أذاعه رئيس الجمهورية آنذاك أحمد حسن البكر، في يوم مشهود من أيام يونيو 1972.

كان الجلبي، حينها، عضواً في شركة النفط الوطنية العراقية، وكان الاجتماع برئاسة صدام حسين الذي كان هو المسؤول عن قطاع النِّفط، وقبل نهاية الاجتماع طلب صدام من الحاضرين الكلام، إن كان لدى أحدهم سؤال أو استفسار. عندها لفتت ملاحظة الجلبي نظر الرجل الثاني في الدولة، وهو أن تأميم شركات النفط الأجنبية كافة واستثناء شركة النفط الفرنسية يعرّض العراق لإحراج قانوني. فقيل له: وما الحل؟ قال: تؤمّم شركات النفط العالمية كافة، وبعد ذلك يُصدر قانون خاص بفرنسا! كان الرأي حاذقاً جاء من مختص. أُخذ بهذا الرأي حالاً، وهو الذي جعل الجلبي وكيلاً لوزارة النفط، وربَّما لو كان حزبياً قيادياً في حزب البعض لأصبح وزيراً، فمن المعلوم أنه المناسب لهذا المركز.

كانت رغبة الجلبي، والمبنية على دراسات اقتصادية، ألا يكون التأميم الكامل، وأن تبقى الشركات مساهمة تحت إدارة الدولة العراقية وبشروطها، فلما قُدم مشروع بمثل هذه الشراكة، طُلب من الجلبي شرح ذلك في اجتماع حضره البكر. كان يشرح بالأرقام والجداول على لوحة أمام الحاضرين، وأخذ البكر يناقشه، لعدم رغبته بهذا المشروع.

حصل أن عاد الجلبي مع الوفد الذي كان يترأسه من وزارة النفط، من اجتماعات الأوبك، وحقق إنجازاً للدولة العراقية، استقبله البكر منشرحاً ممّا حصل، وفي اليوم الثاني أتاه ظرف بيد موظف من رئاسة الجمهورية، مرسل من قِبل الرئيس، ولما فتحه وجد فيه خمسمئة دينار، وفي ذلك الوقت كان هذا المبلغ كبيراً جداً، فذهب الجلبي به إلى وزير النفط سعدون حمادي، ممتعضاً من الهدية، على أنها نقود، وأتته بلا ترتيب رسمي، أي بوصل أو توقيع أو استحقاق، فنصحه الوزير أن يقبلها، لأنها هدية رئيس الجمهورية، فلو رفضها سيُفهم الأمر معكوساً، وليس في صالحه ذلك، فقبلها وسدد بها ديون البيت الذي كان يشيده.

 

الابتعاد عن العراق

مأساة العراق بعد العام 2003 أصابت الجلبي بالخيبة من بلد كانت تعقد عليه آمال كبيرة في التقدم التنموي والاجتماعي.

لم ينج الجلبي من آلام السياسة وتبعاتها في العراق، فبعد انقلاب 8 فبراير 1963 اعتقل لأسابيع بتهمة الشيوعية، وذلك بسبب أنه كان مؤيداً لليسار في شرخ الشباب، وهنا يقف الجلبي متصفحاً الوضع العراقي، في تلك الفترات، يكون شيوعياً من يقرأ صحيفة ماركسية أو كتاباً ماركسيا، أو لديه أصدقاء شيوعيون، وكذلك يُتهم قومياً أو بعثياً للأسباب نفسها. هذا ما جعله يحاول الابتعاد عن العراق، في ذلك الوضع، مع أنه كان مشدوداً إليه حتى وفاته، وكانت أمنيته أن يقضي شيخوخته في بيت متواضع على شاطئ دجلة، لكنّ ذلك لم يحصل بعد سقوط النظام السابق ومجيء الإسلاميين إلى الحكم، وتفاقم الفساد واشتداد المحنة، بما لم يشهده العراق من قبل، من ناحية طول فترتها وتعقيدها.

ظل الجلبي، إلى جانب اهتمامه وشغفه بالنفط، مستمراً في هوايته الموسيقى، ولأجل ذلك دخل معهد الموسيقى في بغداد، الذي أسسه الشَّريف محي الدين حيدر، خلال العهد الملكي، ومعلوم أن حيدر أحد أفراد الأسرة الملكية، حيث استدعي من إسطنبول لهذا الغرض.

 أخذ يتابع الموسيقى الغربية، وشغف بالكلاسيكية منها، وظل على هذا الحال حتى نهاية عمره، ففي عزلة الشيخوخة بلندن لم يجد غير أسطوانات السمفونيات مبدداً للوحشة. كان مثقفاً ومدنياً متحضراً، يُعبّر عن ماضي بغداد وصعودها السريع في الخمسينيات، لكنه غاب عنها منذ 1989، بعد انتهاء عمله الرسمي في العراق، ثم في الأوبك كمدير عام بالوكالة، وخبير في الأُمم المتحدة، وعاد إليها مرتين بعد 2003، لحضور ندوات خاصة بالنفط والاقتصاد، غير أنه لم يرَ غير بقية صدى من ذلك الماضي، فكلّ شيء فيها يسير إلى الهاوية.

عمل مديراً تنفيذياً منذ نهاية الثمانينيات في معهد الطاقة الدولي، الذي أنشأه وزير النفط السعودي السابق أحمد زكي يماني، وكان قد عرف الجلبي وخبِرَهُ عن قرب، خلال العمل في الأوبك، تلك المنظمة الخاصة بالدول المصدرة للنفط، والتي تأسست ببغداد العام 1960، ثم توسعت لتشمل الدول المصدرة كافة. فللجلبي في هذه المنظمة ذكريات خطيرة وكثيرة، فما أن نسمع بزيادة سعر البترول أو نقيصة الإنتاج إلا ويكون الجلبي في الواجهة، فهو مديرها بالوكالة، ولسنوات طويلة نائب مديرها العام، لكن لم يعرف ذلك غير أهل الاختصاص والمسؤولية. كذلك ربطت الجلبي باليماني ذكرى لن يمسحها الزمن، وهي محنة اختطاف وزراء النفط بفيينا عند اجتماعهم، من قبل كارلوس وعصابة الجيش الأحمر الإيطالية، وكان بالتنسيق مع الفلسطيني وديع حداد، وأخذهم رهائن من بلد إلى آخر عبر طائرة خاصة، وذلك في شتاء 1975.

 

حفنة من تراب بابل

الجلبي تربطه بوزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي اليماني ذكرى تعود إلى محنة اختطاف وزراء أوبك على يد الإرهابي الشهير كارلوس.

لم يكن اهتمام الجلبي خارج تخصصه الذي قضى فيه أكثر من ستين عاماً منحصراً بالموسيقى، بل كان متابعاً وقارئاً دقيقاً في الفكر السياسي والفلسفي، ومهتماً بالتاريخ، وله رؤية خاصة في الدين، وناقداً للتدين الممارس، وما جعله الفقهاء والمحدثين ديناً. نتذكر أنه كتب عن السياسة العراقية في العهد الملكي وبالخصوص عن وجوه المعارضة، والتي انتهت هي أيضاً بانتهاء ذلك العهد، ومعلوم أن الضد ينتهي عندما ينتهي ضده، حسب القانون الهيكلي ثم الماركسي “وحدة وصراع الأضداد”.

تناول شيئاً من حياة الشخصية العراقية الديمقراطية كامل الجادرجي، أثار فيه ما لم يثره الآخرون، فصورة الجادرجي ثابتة لا تهتز عند الكثيرين. فُهم من المقال الذي نشرته صحيفة الحياة في حدود العام 2004 أنه محاولة للنيل من تاريخ الجادرجي، بينما، حسب الجلبي، كان نقداً لأسلوب المعارضة، وما كانت تُثير به الجمهور ضد رئيس الوزراء نوري السعيد، وبالفعل تمكنت المعارضة من تقديم السعيد على أنه ذلك العميل الخائن، لكن بعد هدوء العواطف الجياشة ظهرت كتابات منصفة لهذا الرجل. لقد أثار ذلك المقال ردودا غاضبة، وكان سببا في توتير علاقات الجلبي مع بعض أصدقاء العمر.

يصعب الإلمام الكامل بشخصية الجلبي كاقتصادي ومثقف وممارس في مجال النفط. فبعد العام 2003 وما حصل للعراق أصابته الخيبة من بلد كانت تعقد عليه آمال في التقدم الاجتماعي، غير أنه أخذ يُعزّي نفسه بقراءات في التاريخ، وتوصل، والقليل يتفق معه، بأن تشوّه العقل العراقي السياسي تاريخي، تصل جذوره إلى بابل، وكثيراً ما يذكر أنه قرأ في ما قرأه عن الإسكندر المقدوني أنه أرسل إلى أُمه حفنة من تراب بابل، بعد أن غزاها، فكانت هدية سيئة عليها، أن انتهى ابنها هناك، وهو الذي جاب حواضر الدُّنيا كافة.

بطبيعة الحال، لم يكن الجلبي واهماً إلى هذا الحد، لكن ما جرى على العراق جرى لأنه كان عاصمة لإمبراطوريات شتّى، تكثر فيه الحروب ويتناوب عليه الخراب والإعمار كمتوالية مستمرة.

 ترك الجلبي، الذي عاش نحو تسعين عاماً، كتباً وبحوثاً في مجال النفط، وظل حازماً في رأيه بأن الدين يدمّر السياسة، وهذا ملخص ما كان يُشير إليه في آخر حياته. ظل وفياً لتقليد مشى عليه منذ الشباب، وهو ربطة عنقه الخاصة، التي تميز بها عن غيره، فإضافة إلى الإشارة إليه بصاحب النّفط، يُشار إليه بصاحب “الوردة”.

قد يهمك أيضاً