من الماضي

عبدالرزاق الصافي .. يساري عراقي بقي حتى آخر لحظة ينتظر المهدي الأحمر

زيد بن رفاعة

 

بين عُسْر ويُسر

ظل أبو مخلص، وهذه كنيته، مخلصاً للنظرية أو العقيدة التي تبناها في نهاية الأربعينيات، يوم كان عمره أقل مِن عشرين عاماً. دخل السجن آنذاك بسببها، واستمرت أيامه بين عسر كثير ويُسر قليل. مَن يعرفه يراه كائناً حزبياً، لا يعرف الراحة ولا التقاعد.

لم يفكر بامتلاك منزل كبقية النَّاس ولا بالبحث في ما سيكون عليه مستقبله، وهذا حاله حتى وفاته منتصف مايو الجاري بلندن. المكان الذي قضى فيه الشيخوخة والوفاة وهو يوهمنا بأمر، ألا وهو كيف لهذا الكائن السياسي الدؤوب ضد الاستعمار، وعلى وجه الخصوص الاستعمار البريطاني، أن يحط به المقام بعاصمة الاستعمار، ليجد فيها ما لم يجده في العواصم التي قضى العمر في الدفاع عنها، حتى صارت في ذمة التَّاريخ؟.

لكنَّ الصافي، الصادق مع نفسه والنزيه في تعامله، لم يحبطه سقوط الاتحاد السوفييتي ولا بلغاريا التي وصلها للدراسة الحزبية العام 1960، فالنظرية عنده من الصلابة بمكان حيث لا تحتاج إلى برهان التَّطبيق، ولا شأنَ له بالفارق بينها وبين الواقع المعاش.

ولد الصافي في كربلاء، لعائلة وجيهة بالمدينة، حتى غلب عليها في فترة من الفترات لقب الجلبي، الذي كانت تُدعى به العائلات الميسورة، أو ذات المنزلة الاجتماعية، سوى كان ذلك لقباً رسمياً من قِبل العثمانيين أو لقباً يصطلح عليه النَّاس. أنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في كربلاء، وهناك تعلق بالحزب الشيوعي العراقي، ونشط ليكسب رفاقاً تقدموا في الدرجات الحزبية حتى عملوا معه في اللجنة المركزية والمكتب السياسي.

لم يكن طارئا

حياته تزخر بالحوادث السياسية والعامة، ولكلِّ حدث قصة تتعلق بمجرى السياسة وتاريخ الدولة في العراق، من الخمسينات وحتى الوقت الحاضر. وقد أصدرها الصافي في كراسين تحت عنوان “مِن ذاكرة الزمن”، و”شهادة على زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتية”

كانت حياة الصافي مليئة بالحوادث السياسية والعامة، ولكلِّ حدث قصة تتعلق بمجرى السياسة العراقية، وتراه لو حدب على كتاب مذكراته مفصلاً وبحيادية لسجل لشطر من تاريخ الدولة العراقية، من الخمسينات وحتى الوقت الحاضر، لكنه أخذ يُسجل النزير منها بعد التقدم في العمر، فتساقطت من ذاكرته سقوط أوراق الخريف، وصدرت بكراسين تحت عنوان “مِن ذاكرة الزمن”، و”شهادة على زمن عاصف وجوانب من سيرة ذاتية”، لكن لمن تعرف على الصافي وسمع منه، لا يُشكل هذان الكراسان إلا جزءاً من الذاكرة.

ليس لدى الصافي، المشغول في حزبه، حتى بعد الخروج من لجنته المركزية ومكتبه السياسي، الوقتُ لاسترجاع مخزون ذاكرته. تراه ملأ الكراسين برؤوس أقلام، ليس هناك مَا يتوسع بها ويكملها غيره. فإلى جانب السياسة والحزبية برز الصافي في الصحافة وكتابة المقال، حتى صار في وقت مبكر مديراً للإعلام الحزبي أينما حل وأقام، في الداخل والخارج حيث الإعلام المعارض. لكنه ليس الكاتب ولا الصحافي الطارئ، الذي يمارسهما من أجل العمل الحزبي أو عند الحاجة في وقت الضيق أو لانعدام الثقة في ظل العمل الحزبي السري، إنما كان أصيلاً في الكتابة.

علّمَ الكثيرين كيفية الكتابة، من ناحية الأسلوب واللغة، فتجده لا يغفر لمن لا يُميز بين “مازال” و”لا زال”، ولو ناقشته لعرض عليك الفارق، فالأولى للحاضر والثانية للماضي، وهذه هي حقيقتهما، وكذلك الحال في الصرف والإعراب، لأنه كان يعتقد أن التمكن من كيان اللغة جزء أساسي في فن الكتابة، وكم حرص أبو مخلص على استنساخ قواعد اللغة والإملاء ليوزعها على حديثي العهد بالكتابة، بل ويكتب الأوراق في القاعدة بين “ض” و”ظ”، التي قد يخطئ في التفريق بينهما ماهرون في الكتابة.

العمل الحزبي السري داخل العراق خطير للغاية، وكثيراً ما يكون ثمنه الحياة نفسها، لكن الصافي، وذوبانه في الكيان الحزبي، كثيراً ما ترك الجنان التي وفرتها له عواصم البلدان الاشتراكية، ليعود سراً وبجوازات ملفقة إلى العراق، كي يختفي تحت الأرض ويبدأ في العمل الحزبي، معتمداً على ما يوفره له الحزب من مصروف لا يكفي إلا لخبز وماء في الكثير من الأحوال.

حماية كيان الجمهورية

كان شاهداً على ما عُرف بـ”وثبة كانون” في العام 1948، واعتقل إثرها، وشاهداً على حوادث الخمسينيات، وخلالها فُصل والتحق بكلية الحقوق ببغداد، ولما أنهى دراسته فيها، رفضت الكلية منحه الشهادة، كي لا يصبح محامياً، حتى جاء 14 تموز/ يوليو، فصعد حزبه إلى الصف الأول من ناحية التأثير في الحكم، لكن دون أن تكون له وزارة، حيث اعتمد عليه الحزب، لكثرة الأتباع، في حماية الجمهورية، بوجود كيان مسلح شعبي عُرف بالمقاومة الشعبية، وله تنظيم داخل الجيش. كان الصافي أحد أعضاء قيادة ذلك التنظيم شبه العلني، حتى صار معتمداً لدى الفرقة الأولى، وهي على ما نعلم أكبر فرق الجيش العراقي، وقائدها عبدالحميد الحصونة، حيث تمتد من وسط العراق ومقرها بالديوانية حتى البصرة، أي تشرف على العديد من المحافظات، الجنوبية والوسطى.

كان الحصونة معادياً للشيوعيين في سِره، وله صلات مع مرجعية محسن الحكيم، وهو الشخص الآخر الذي دأب على معاداة عبدالكريم قاسم وحكمه، بسبب القوانين التي أصدرها، ومنها “قانون الأحوال الشخصية العراقي”، ويُعد مِن أكثر القوانين تقدمية للمرأة، وهذا ما لا ترضاه القوى الدينية، وفي مقدمتها مرجعية النجف والمتمثلة بالحكيم، وكذلك “قانون إلغاء القوانين العشائرية”، و”قانون الإصلاح الزراعي”، والقانونان الأخيران يؤثران على الشريحة الاجتماعية التي تُقدم الخُمس للمرجعية، أي الإقطاع ورؤساء العشائر وأصحاب الثروات منهم، أما قانون الأحوال الشخصية فيتعلق بالتقليل من دور الفقيه في شؤون الزواج والطلاق والإرث إلى غير ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القانون تجاوز النص القرآني في التمييز بين النساء والرجال في مسألة الإرث “للذكر مثل حظ الأنثيين”.

صار الصافي الرجل المعتمد من قبل الحزب الشيوعي لدى قيادة الفرقة الأولى، وشعر بتملق من قِبل قائدها، على الرغم من أنه يعرف موقفه السلبي من الحزب الشيوعي، لذا ما إن انقلب قاسم على الحزب الشيوعي في الذكرى الأولى لثورة 14 تموز/ يوليو، تغير موقف الحصونة، وعمد إلى منع توزيع صحيفة الحزب الشيوعي “اتحاد الشعب” في الألوية والمحافظات التي كانت تشرف عليها الفرقة الأولى، وهي المحافظات الجنوبية والوسطى.

بهدف الدراسة الحزبية، سافر الصافي ليلتحق بمدرسة الحزب الشيوعي البلغاري، وبينما كان هناك، حدث انقلاب 8 فبراير عام 1963، وكان التنكيل بالحزب الشيوعي العراقي، بعد الحوادث التي حصلت بين القوميين والبعثيين من جهة والشيوعيين من جهة أُخرى، فتولى الصافي هناك أمر الإذاعة التي تبث بالعربية بيانات ضد الحكومة في بغداد، وظلت لسنوات، حيث بدا الحظ وكأنه حليف الصافي حين غادر العراق قُبيل الانقلاب، وإلا لكان ضمن رفاقه القتلى.

صراع الاتجاهات

الصافي رحل بعد أن بقي يحلم ويترقب تحقيق الاشتراكية وكأنها “مهديه المنتظر”، على حد تعبير المفكر العراقي الراحل علي الوردي الذي كتب إن الشيوعية هي المهدي الذي ينتظر ظهورها الماركسيون

كان أحد الذين كتبوا الوثائق التي ستُقدم إلى المؤتمر الثاني، الذي عُقد في ظروف شبه سرية بين جبال كردستان، حيث القاعدة العريضة آنذاك للحزب من الأكراد، وكان مكلفاً بكتابة الوثيقة الخاصة بالعمل الجبهوي، هو ورفيقه رحيم عجيبنة، وكانت الأمور تسير نحو قيام جبهة وطنية مع حزب البعث، وعلى وجه الخصوص بعد اتفاق مارس عام 1970 بين الحكومة العراقية والحركة الكردية البارزانية.

تحققت الجبهة الوطنية، وصار الصافي رئيسا لتحرير الجريدة الرسمية “طريق الشعب” للحزب الشيوعي، والتي أصبحت علنية، وذلك لِباعِه في مجال الصحافة. يذكر أن الصافي كان على صِلة بالضابط والوزير سعدون غيدان، وسمع منه تفاصيل ما حدث في 17 يوليو عام 1968، وكيف عمل على إنزال الرئيس الأسبق عبدالرحمن عارف من مكان سكنه في القصر الجمهوري، وعندما دخل البكر ورفاقه، هاتف غيدان الرئيس عارف، وكان مسؤولا عسكريا كبيرا في القصر الجمهوري، بلا لقب قائلاً “عبدالرحمن انزل”، ولما تأخر هاتفه مرة أخرى قال بحدة “انزل”، فأجابه عارف “شتريد”، ولم ينزل حتى أطلقت طلقة مدفع، فنزل طالبا راتبا تقاعديا والسفر إلى تركيا.

 طريق الشعب وطريق المنافي

ترك الصافي العراقَ متخفياً مرة أخرى عام 1979، وكان أكثر الحزبيين علانية، لأنه رئيس تحرير صحيفة الحزب المركزية “طريق الشعب”، وطاف على المنافي، وظل باذلاً كل جهد وقوة للعمل الحزبي، فحط به المطاف في جبال ووديان كردستان العراق، مسؤولاً عن العمل الإعلامي في ما عُرف بالأنصار، وهي القوة المسلحة التي كانت تُقاتل النظام السابق.

لم تحد الذبحة الصدرية الحادة، التي تعرضها لها الصافي أواخر التسعينيات، وهو المقيم في الشام، من مثابرته في العمل الحزبي، على الرغم من خروجه من المواقع القيادية، وبعدها شد الرحال إلى لندن، العاصمة التي كثيراً ما تظاهر ضدها، وأغضبه تعامل الحكومة الملكية معها، بداية من معاهدة العام 1930 إلى معاهدة بورتسموث، وهي معاهدات كان للعراق نفع فيها، ومناسبة للظرف آنذاك، يوم كان العراق دولة فتية في حاجة إلى حاضنة، مثلما يرى العديد من السياسيين، قبل العيش في الأزمات الحادة بعد العام 2003 وحتى الآن.

يكاد لا يخلو مجلس عراقي من حضور الصافي فيه، وما إن تُقال كلمة في حق الحزب الشيوعي ناقدة أو غاضبة، يبرز الصافي لقائلها بكلمة “حزبنا”. لكنه لم يكن حاداً في نقاشه، ولا مستفزاً، وله قابلية لمخالطة مختلف الأطياف السياسية، دينية أو مدنية. أخذ يزور العراق بعد فترة وأخرى، لكنه لم ير من بغداد، تلك التي طوى جل عمره في جاداتها وأوكارها الحزبية، غير مقر الحزب الشيوعي ومقر جريدة “طريق الشعب”، عاملاً مع طاقمها أكثر وقته، وكأنه لا يزال رئيس تحريرها.

قد يهمك أيضاً