دراسات

الجزء الأول قداسة البابا فرنسيس الأول وزيارته للعراق – دلالاتها ورموزها-

نافع شابو

 

«يحمل الايمان المؤمن على ان يرى في الآخر أخا له ، عليه ان يؤازره ويحبه .وانطلاقا من الايمان بالله الذي خلق الناس جميعا وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته ،فإنَّ المؤمن مدعوللتعبير عن هذه «الأخوة الانسانية « بالاعتناء بالخليقة وبالكون كله ، وبتقديم العون لكل انسان ،لاسيّما الضعفاء منهم والأشخاص الأكثر حاجة وعوزا « .

 

يُشيرقداسة البابا فرنسيس إلى دور الديانات “في خدمة الأخوّة في العالم”، مُستعيداً نداء أبو ظبي، لأنّ ما يذكره البابا في المقدّمة هو الصِلة بين هذه الرسالة الحبريّة وذكرى زيارة القديس فرنسيس الأسيزي إلى السلطان المصري الملك الكامل (سنة 1219)، مع زيارته الرسوليّة إلى الإمارات العربية المتحدة التي أدّت إلى توقيع الوثيقة حول «الأخوّة الإنسانيّة « مع الشيخ أحمد الطيب إمام الأزهر.

يقول البابا فرنسيس في احدى المناسبات:

«إنّ شموليّة الإنجيل(الخبر السار) ضمن لغة تصل إلى كلّ إنسان هي من المفاتيح الأساسيّة:» مع أنّني كتبت هذه الرسالة انطلاقاً من قناعاتي المسيحيّة التي تدعمني وتغذّيني، حاولت فعل ذلك بطريقة تسمح للتأمّل بالانفتاح على الحوار مع جميع أصحاب الإرادة الحسنة”.

منذ المجمع الفاتيكاني الثاني [الأولى: /1962م، والثانية: /1963 م، والثالثة: – /1964م، والرابعة: /1965م] صدر عن المجمع أربعة دساتير، وتسعة مراسيم، وثلاثة تصاريح منها تصريح عن علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية. .. وقد قرر المجمع الفاتيكان الثاني عقيدة خلاص غيرالمؤمنين في جلسته الرابعة في أكتوبر 1965

ومن ضمن القرارات الصادرة من المجمع والتي توضح إمكانية « الخلاص» (خلاص البشرية) بغض النظر عن الإيمان بالمسيح وممارسة المعمودية والانتماء للكنيسة ، جاء في الفقرة « أ « مايلي:

أ – «وحدة شعب الله الجامعة (يقصد كل البشرية) هذه يسعى إليها بطرق شتى المؤمنون الكاثوليك، أو سائر المؤمنين بالمسيح، أو جميع الناس بوجه عام المدعوين بنعمة الله إلى الخلاص.. إن الخلاص هو في متناول جميع من هم من ذوي الإرادة الحسنة.. إن الأخوة المنفصلين عن الشركة التامة مع كرسي روما، وأولئك الذين ينتمون إلى الديانات غير المسيحية، هم أيضًا يملكون حقائق وعندهم كنوز.. وهناك أناس يتجهون صوب الله من نواحي شتى من بينهم ذلك الشعب (اليهودي) الذي قبِل المواعيد وأُعطى العهود والذي ظهر المسيح منه بحسب الجسد، وأيضًا أولئك (المسلمون) الذين يعترفون بالخالق ويؤمنون إيمان إبراهيم، ويعبدون الإله الواحد الذي سيدين البشر في اليوم الأخير، وأخيرًا يقول المجمع: إن الكنيسة ليست بعيدة عن أولئك (الوثنيين) الذين يفتشون عن الله من وراء الصور والظلال ويجهلون بدون قصد إنجيل المسيح وكنيسته. فهؤلاء ليس الخلاص ببعيد عنهم، وهم يحاولون أن يتمموا مشيئة الله التي وضعها في ضمائرهم».

من خلال الفقرة «أ» أعلاه فإن الخلاص للبشرية متاح لكل الناس لهم ضمير حي يحب الخير والمحبة والسلام . وهذا المجمع فتح الأبواب للأنسانية كلها في الحوار والدعوى الى السلام والاتفاق على كل ما يخدم الانسانية للعيش كأخوة في الانسانية واحترام حقوق الانسان.

كان قداسة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني أُسقفا صغيرا (38) سنة عندما اشترك في أعمال المجع الفاتيكاني الثاني وعيّن في المجمع الحبري للعائلة ، وكان الرب يعُّده ليصبح على رأس الكنيسة الجامعة سنة 1978 لينطلق بالكنيسة لتصبح كالنسر في السماء ولينفتح على العالم كُلّه ليسير على الطريق المعبّد الذي فتحه المجمع الفاتيكاني الثاني . وفي أوّل خطاب له قال :»لاتخافوا افتحوا الأبواب ليدخلوا الناس».

أراد أن يزور العراق سنة 2000 ، ويقوم برحلة ايمانيّة انطللاقا من اور الكلدانيين ، المدينة التي انطلق منها ابونا ابراهيم في رحلته الايمانيّة، ليقول للديانات الثلاث(المسيحية اليهودية الأسلامية) انه يريد أن يوحّد هذه الأديان ليعم السلام بينها ولكن للأسف حارب الشيطان مقاصد البابا السابق لانّ العراق حينه قد ساد فيه الشرّ ولم يتحقٌق حُلمه الجميل ، وحلمنا نحن ايضا ابناء ابراهيم..

اما البابا الحالي ، فرنسيس الأول ، وفي أول لقاء له مع الصحفيين من مختلف أنحاء العالم، شرح حبر الفاتيكان سبب اختياره لهذا الاسم (فرنسيس ) المرتبط بالفقراء وبالزهد. وطالب البابا أن تكون الكنسية الكاثوليكية «فقيرة على الله وترعى الفقراء. حتى سميّ»بابا الفقراء».

قال البابا فرنسيس (يوم الأربعاء الثالث من آذار/مارس 2021) اي قبل زيارته للعراق بيومين : إنه ذاهب إلى العراق، الذي لم يتمكن البابا الراحل يوحنا بولس من التوجه إليه العام 2000، لأنه «لا يمكن خذل الناس مرة ثانية».

حقّق قداسة البابا فرنسيس حلم البابا الراحل وجاء الى العراق حاجا للفترة (5-7 مارس 2021) لزيارة مواقع دينية في العراق ، ولقائه مع المسؤولين في الدولة والمراجع الدينية المسيحية والإسلامية، وقام بزيارة لآثار مدينة اور التاريخية مسقط راس ابراهيم عليه السلام ، بالاضافة الى زيارته لعدة كنائس في بغداد والموصل وقرقوش في سهل نينوى وختمها بقداس احتفالي كبير في اربيل

جاء قداسة البابا فرنسيس ليعزّي المؤمنين وليشد أزرهم ليواجهوا المعركة مع قوات الشر في كل الاتجاهات. جاء ليبث فينا الأمل أنّ العهد مازال قائما ، عهد الله مع ابراهيم عليه السلام، كما جاء في الكتاب المقدس (سفر التكوين17 :1،2)

«وعندما كان ابرام في التاسعة والتسعين من عمره (قبل ان يسمّى إبراهيم ، اي اب الشعوب)، ظهر له الربُّ قائلا: «أنا هو الله القدير . سِر أمامي وكُن كاملا ، فاجعل عهدي بيني وبينك وأُكثِرُ نسلك جدّا»

قال البابا فرنسيس في رسالته للعراقيين : «آتيكم حاجاً تائباً لكي ألتمس من الرب المغفرة والمصالحة بعد سنين الحرب والإرهاب».

زيارة قداسة البابا فرنسيس للعراق كبلد يحمل في عمقه تاريخ الحضارة البشرية وتاريخ الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلامية التي تبلورت وانطلقت من وادي الرافدين ، وكان اول شخص استجاب لنداء الله الخالق هو إبراهيم عليه السلام. وكما جاء في سفر التكوين في الكتاب المقدس عندما قال الله لابراهيم (اب المؤمنين):

« ارحل من أرضك وعشيرتَك وبيت ِ أبيك الى الأرض التي أُريك، فأجعلك أُمَّة عظيمة وأُبارِكُكَ وأُعظّم اسمك وتكون بركة ، وأُبارك مباركيك والعن لاعنيك ، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض»تكوين 12 :1 «

إذن، البركة هي لابراهيم ومن خلاله لكل البشرية . ابراهيم ابو البشرية في الايمان ترك كل شيء وتبع الله خالقه.

نعم انتقل إبراهيم بالايمان من اور الكلدانيين الى حاران ومنها الى كنعان ، فقطع الله معه عهدا وأخبره أنّه سيكون مؤسسا لأمّة عظيمة . وقال له ايضا إنّه لن يبارك هذه الأمة فحسب ، بل ستتبارك بها أمم العالم ألأخرى ، وكلّ ذلك من اجل ابراهيم .

اليوم رسالة البابا فرنسيس الينا ، نحن ابناء العراق ، كأخوة بحاجة الى الرجوع الى ابينا ابراهيم ليكون بركة لنا ونكون اخوة حقيقيين ، ونترك كُلّ احقادنا وانانيتنا وعنصريتنا وشهواتنا الى السلطة والمال ، لنعود الى العيش بسلام مع بعضنا البعض . يقول احد الآباء :»الهنا اله عائلة ليس إلها واحدا ، ويدعو جميع البشرية كلها الى الدخول الى هذه العائلة».

صلاة البابا في اور مسقط راس ابينا ابراهيم هي رسالة الى التعددية والحوار والتفاهم بين جميع اطياف الشعب العراقي وهي دعوى عالمية لنشر السلام في الشرق الأوسط عامة والعراق خاصة.

زيارة قداسة البابا فرنسيس للعراق للفترة (5- 7 مارس 2021)

ابتدات زيارة البابا في اول يوم من وصوله الى مطار بغداد (5 مارس ) بالاستقبال الرسمي له من قبل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في قاعة الشرف حيث كانت مراسيم الترحيب .ثم غادر قداسته الى القصر الرئاسي حيث اقام الرئيس العراقي برهم صالح مراسم الترحيب بالبابا فرنسيس . هناك في القصر الرئاسي اقيم مراسيم الترحيب للبابا حضرته الشخصيات الحكومية والدبلوماسيون واطياف من المجتمع المدني العارقي

وقد القى السيد برهم صالح كلمة ترحيب مؤثرة ، ومن بعده القى قداسة البابا ايضا كلمة مهمة وتاريخية. ثم غادرموكب البابا لزيارة كنيسة «سيدة النجاة « للسريان الكاثوليك في بغداد . تلك الكنيسة التي شهدت مجزرة قام بها الدواعش بحق المسيحيين الذين كانوا في صلاة وراح ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى . وهناك التقى الباب بالاساقفة والكهنة والمكرسين والأكليريكيين واساتذة التعليم المسيحي .

في اليوم الثاني من زيارته المصادف يوم السبت 6 مارس توجه الأب الأقدس الى النجف والتقى بفضيلة السيد علي السستاني ، كونه المرجعية الشيعية في العالم الأسلامي ودام لقاؤه 50 دقيقة . ليتوجه بعدها الى مدينة اورالأثرية مدينة ابراهيم عليه السلام .هذه المدينة تابعة اليوم الى محافظة ذي قار جنوبي العراق وفي هذا الموقع المهم القى قداسة البابا كلمة تاريخية سنعود اليها في مقالاتنا التالية . بعدها رجع قداسة البابا الى بغداد واقام قداسا في كاتدرائية كنيسة مار يوسف الكلدانية ، بحضور شخصيات من الحكومة العراقية وعلى راسهم برهم صالح.

وفي يوم الأحد المصادف 7 مارس توجه الحبر الأعظم الى اربيل عاصمة اقليم كردستان حيث استقبله في مطار اربيل الرئيس مسعود البارزاني رئيس وزراء الاقليم ، وشخصيات عديدة من حكومة الاقليم . توجه بعد ذلك قداسة البابا الى الموصل حيث توقف على اطلال هذه المدينة العريقة التي دمّرت الكثير من معالمها التاريخية . و زار قداستنه «حوش الكنيسة « في الموصل وصلى هناك من اجل راحة انفس ضحايا الحرب خلال حكم داعش الذي هدم العديد من الكنائس والآثار العراقية . ثم زار قداسته كنيسة «الطاهرة « الكبرى في قره قوش ،التي احرقها الدواعش وهجّر سكانها، حيث تلا صلاة التبشير الملائكي مع المؤمنين . ثم عاد الى اربيل ليختم رحلته الشاقة باحتفال بالقداس الالهي في ملعب «فرنسوا حريري».

 

افتتحت جريدة بي بي سي نيوز هذا الوصف لزيارة البابا للعراق بالقول:

«لسنوات طويلة اعتادت وسائل الإعلام على نقل صور الموت والدمار والتفجيرات والدماء والسبي والخطف من العراق

للمرّة الأولى منذ عقود، وبمناسبة زيارة البابا فرنسيس إلى بلاد ما بين النهرين، رأى العالم العراقيين بصورة جديدة: يدبكون، يزغردون، يهللون، ويرقصون في الشوارع.

بين استقبال البابا بدبكة الجوبي العراقية التقليدية في المطار، وبين مشاهد الأطفال يرقصون في الشوارع بأزياء تشبه ملابس العيد، وبين الزغاريد التي رافقت خطوات الحبر الأعظم أينما حلّ، ظهر أنّ الفرح ممكن في هذه البلاد، ولو كان ذلك وسط الدمار».

يصف غبطة الباطريرك لويس ساكو قداسة البابا فرنسيس بانه انسان متواضع ومحب وانسان بسيط وخادم للفقراء وشخصية متجرّدة .

وعن مظاهر الاستقبال للبابا وصف غبطة الباطريك هذا الاستقبال بطريقة مؤثرة فيقول :انا متاثر كثيرا بحدثين :

اولا : ترحيب العراقيين الحار وبشغف للبابا فرنسيس . ثانيا : كان العراقيون كأنهم فريق واحد في فترة زيارة البابا لانجاح هذه الزيارة من رئاسة الجهمورية ورئاسة الوزراء والمرجعيات الشيعية والسنية والكنيسة والأجهزة الأمنية والاعلام . هذه الوحدة والعمل معا هي التي انجحت الزيارة . ومن هنا استطعنا ان نفشل كل المتشكّكين بفشل الزيارة ..امنيتي ان نبقى متوحدين بالرغم من اختلافاتنا وتنوعنا . رسالة البابا معبرة جدا هي «الأخوّة البشرية «.

البابا وهو في العراق وجه رسائل الى سوريا ولبنان واليمن …البابا تفاجأ بهذا الاستقبال غير المتوقع من جميع اطياف الشعب العراقي، مسؤولين وشعبا والفرق الفنية.

وختاما:

لا بد للخير أن ينتصر على الشر، لا بد للنور أن يهزم الظلام،

لا بد للحق أن يهزم الباطل ، ولا بدّ للحب أن ينتصر على الحقد.

 

تابعونا في الجزء الثاني من المقال عن زيارة البابا للعراق دلالاتها ورموزها…

قد يهمك أيضاً