د. أمجد عبدالسلام عيد
استطاع من خلال تلك الرؤية، أن يبلور أسلوبا خاصا به جمع فيه بين الأصالة والمعاصرة في كيفية تناوله للفن الشعبي، مدعما ذلك بثقافته الواسعة واهتماماته المتعددة في مجال الفنون التشكيلية من خلال خامات متنوعة وأساليب وطرق معالجات مختلفة، والفنان مصطفى الرزاز من الفنانين الذين يؤمنون بأن البحث فقط في الشكل الجمالي للمفردات أياً كانت صوره، بحث سطحي يفتقد إلى التحليل والتفهم، ولا بد من التفهم الواعي للمحيط الثقافي لأي فنان قبل محاولة التعامل معه كمصدر للثراء الإبداعي، وهذا ما نلاحظه في أسلوب وأعمال الفنان بمجرد مطالعة أعمالة نلاحظ أن الفنان قد صبغ أعمالة بالصبغة الفنية المعاصرة من خلال الجمع بين اللغة التشكيلية الحديثة والتوظيف اللازم لمعطيات الفنون الشعبية.
استخدم الفنان العديد من الأساليب الفنية في العمل الفني الواحد مثل الشفوفية، التراكب، التداخل، ويميل في معظم أعماله إلى التكرارات والترديدات في مفردات معينة من أعماله، كما تمتاز الرموز عند الفنان بكثرتها وبتزاحمها الشديد وتعدد عناصرها داخل العمل الفني فوق مسطح لوحاته موظفا إياها بتمكن واقتدار لإحداث بعد فلسفي خالص يؤكد على هوية الفنان وانجذابه للموروث الشعبي بعمق ودقة وروعة في التشكيل والبناء ليحدث الثراء المطلوب داخل اعماله.
اتسمت صياغات الفنان بالتوالد والتتابع في تكوينات على شكل مصفوفات أو متراكمات توحي بالتجسيم، لتعطي إحساسا بالعمق داخل أعماله السردية وأسلوبه التجريدي الخالص الذي يعتمد على الاشتقاقات الظلية لصياغات ناتجة عن الظل الناشئ عن صياغة أخرى، وهو ما يعرف بالسلويت كذلك أحدثت الموتيفات والعناصر الطبيعية وصياغاتها دورا فعالا في أعماله، حيث يظهر التحول المدمج للموتيفات والصياغات لنلاحظ أن الذراع تصبح أحيانا سيفا، وكذلك الجسم الإنساني يتحول إلى طائر، والطائر يتحول إلى نبات ووجه الإنسان يشترك مع وجه الطائر، وهو ما يحدث تنوعا وثراء وفرادة وخصوصية شديدة في هيكلية وبناء أعمال الفنان والتي دائما ما تمدنا بشكل مباشر بالحس الشعبي الموروث الذي يطالعنا دائما عند مطالعة أعمال الفنان، وكأنه يسعى دائما للتأكيد على الهوية الشعبية المصرية راصدا إياها داخل أعماله بعمق وإسهاب بالغ الخصوصية، كما تميز الفنان بإيقاع خطي شاعري.
اعتمد الفنان في صياغاته على علميات كثيرة من المعالجات التشكيلية، ومنهاعلى سبيل المثال لا الحصر، أسلوب الحذف أو الإضافة وكذلك أسلوب التحوير أو الضغط أو الاستطالة أو الدمج بين أكثر من صياغة أو التجريد الخالص للعنصر، فالرموز والصياغات لدى الفنان تخضع لعملية الإنتخاب والإنتقاء والمعالجة الخاصة برؤية الفنان الذاتية الخالصة للغاية، ثم تبلور العنصر من خلال رؤية الفنان ومن خلال عمليات التحليل والتنقيب وإعادة الصياغة للعنصر ذاته وللموتيفات المكونة للعمل الفني لتصبح الصياغة رمزاً يحمل خصائص فنية وتعبيرية مغايرة لما كان عليه العنصر الأصلي، وذلك من خلال دراسة بنية الشكل تشريحيا وتصنيفياً لكل عنصر وصياغة يتناولها الفنان، محللا إياها وراصدا لطاقتها الفنية موظفا إياها بإحكام وخصوصية بالغة في منتجه الفني المنتخب من صياغات أصيلة ومستحدثة، فيتم التتابع بإختزال التفاصيل وتتلاشى السحن والملامح والصفات الخاصة المألوفة ويحل محلها بشكل مطلق للعنصروالموتيفة، وعلى الرغم من اختلاف رسومه ورموزه يشعر الرائي حيالها بأنها تقوم على الخصائص البيئية والمناخية والإجتماعية والثقافية في نفس الفنان، فتخلط الأشكال في بوتقة واحدة وتصهرها خبرة الفنان المهولة بدرجة عالية وفق منظومة البناء الفني للعمل الخاصة بالفنان والممهورة برؤيته الخالصة المغلفة، داخل تكوين فني يتسم بالتماسك والترابط ليأتي في النهاية مستقرا في بناء موتيفات مبتكرة وداعمة بشدة لعناصر البيئة المصرية ومجسدة إياها بلغة بديعة وخاصة للغاية.
فلسفة الفنان الذاتية
يسعى الفنان بدأب للإطلاع على جماليات العناصر الطبيعة الحية وتحليلها برؤية تشكيلية خاصة ليحقق البحث وراء علاقة الإنسان بمفردات الكون وعناصره الحيوانية والنباتية والآدمية، مؤكدا على البحث وراء هوية الإنسان ووجوده في الحياة من خلال رؤيتة للتاريخ الإنساني والتراث المصري، وكيف يؤثر ذلك على ملامحه وعلاقته ورؤيته للأشياء، حيث استخدم الفنان الموتيفات والصياغات للعنصر الآدمي كاملاً أو أجزاء منه، وتداخلت في صياغات متنوعة، فأساليب التجريد والتحليل والتفكيك وإعادة التركيب والتسطيح هي من طرق المعالجات التشكيلية التي اعتمد عليها الفنان ليعدد وينوع من صياغاته، فالفنان مشحون بالثقافة الشعبية المصرية ويعبر في طلاقة وحرية بخطوط متناغمة تبحث عن البهجة والفرح في صياغة عناصره ، وقد شكل العنصر الآدمي محور الإهتمام لدى الفنان فصاغه بأسلوب تجريدي يميل إلي الرؤية الكلية للعنصر مختزلا بعضا من أجزائه، أو يستعين بجزء واحد يمثل صياغة تدل في مضمونها على هيئة العنصر في الطبيعة.
تتسم الخطوط عند الفنان بالليونة والمرونة والإيقاع المتواتر في تحديده لمعالم صياغاته التصميمية وفي تناوله لعنصر الوجه الآدمي عبر رؤية شاملة.
جاءت كل الصياغات تمثل البروفيل أو الوجه من الجانب، كما ظهرت العيون متأثرة بالفن المصري القديم، وفي بعض الصياغات اعتمد الفنان على إظهار الوجه (البورترية) في شكل كروي أو شكل مستطيل أو مربع، كذلك استخدم الفنان صياغة الحصان كرمز شعبي ليدلل به على البهجة والفرح والإنطلاق في صياغات متداخلة مع الشكل الآدمي، فتظهر صياغة الفنان للحصان وقد امتطاه انسان ليصبح جسم الإنسان والحصان كيانا واحدا مكملا لبعضه البعض، لكن نستطيع أن نميز جسم كل منهما، ولا يمكن فصلهما لأنهما تكاملا في صياغة واحدة، ففي بعض الصياغات تكون أقدام الإنسان وكأنها أقدام للحصان في توليفة عجيبة تنم عن قدرة عالية في الحذف والإضافة والدمج في صياغات متنوعة، وأحيانا يستخدم الفنان الحصان منفرداً، فقد جاءت موتيفات الفنان لتحمل قدرا كبيرا من التنوع، ففيها ما هو معالج بالمساحة الهندسية، وفيها ما هو عضوي يمثل هيئة العنصر بشكل مبتكر، وقد صاغ الفنان هذا العنصر من عدة زوايا من الأمام تارة ومن الخلف ومن الجنب تارة أخرى كي يعدد من صياغاته وكذلك احتلت صياغة الطائر جزءا كبيرا من أعمال الفنان، فهو طائر مجرد تداخلت رأسه مع جسده، وهو محور في بعض الأحيان، عبر عنه أحيانا واستطال عنقه باسطاً جناحيه ملخصا الجسم.
كما اهتم الفنان بتناول السمكة كأحد رموز الفن الشعبي، وما تحملة من معان ودلالات عن الخير والرزق الوفير والخصب. واقترنت في معظم لوحاته مع الرجل أو المرأة أو كليهما معا.
هكذا عالج الفنان موتيفاته بأسلوب التلخيص الخطي الذي يمثل فيه الخط الخارجي الكنتور أساساً للصياغة، كما تظهر العين في بعض الصياغات أو تختفي ويبالغ الفنان في حجم الذيل أو يعبر عنه في حركة الطائر، فهو ساكن أو متحرك في بعض الأحيان، وكلها صياغات تنم عن حس شعبي مبسط بأسلوب عضوي في خطوطه، وقد تجسد ذلك وبوضوح في معارض الفنان الكثيرة، ومنها على سبيل المثال معرض خيال الظل والشطرنج، الصيد في النيل، كناسة الدكان، عودة العصفور الأخضر، وجوه من التحرير، عنتر وحلم اليقظة، طيف الفرس، الذاكرة الزجاجية، الصيد، النوبة والفروسية، أم الشعور، تجليات من القاموس البصري وغيرها من المعارض التي أرخت لتاريخ الفنان الطويل والزاخر بالعطاء الفني والعلمي والإبداع الفكري.