وليد الزرقطوني
إن الأنظمة البيئية التي كانت تراقب الفيروسات البرية، عن طريق التكوين المعقد للغابة الاستوائية قد تم القضاء عليها، عن طريق اجتثاث الغابات من طرف الرساميل، ومن جهة النمو في ضواحي المدن فيتم ذلك عبر عجز السياسات الصحية العمومية، وكذلك تطهير البيئة.
إن الحيوانات نفسها لم تنج من هذه النتائج الكارثية، علماً أنها كانت منذ أزمنة غابرة مخزنا احتياطيا للعديد من الأمراض، فقد أصبحت العديد منها تعيش كمجموعات مفرقة ومقسمة بسبب اجتثاث الغابات، وقد كان لذلك آثارا كارثية على حياتها، فقردة «العالم الجديد» (القارة الأمريكية)، والتي تتميز بحساسية كبيرة للحمى الصفراء من نوع بري، والتي أصبحت تتعرض لها، على الأقل منذ مئة سنة، بدأت تفقد مناعتها الفعلية وتموت بمئات الآلاف.
عبر انتشارها العالمي، فإن الزراعة الأساسية تلعب في الوقت نفسه دور الدفع والربط، اللذين تهاجر عبرهما العوامل الباطوجينية ذات الأصول المختلفة من الخزانات الأكثر بعدا إلى المراكز السكانية الأكثر عالمية، وينطبق هذا كثيرا على الأمراض التي تكون عواملها الباطوجينية من أصول زراعية أو غذائية. إن هذه الأمراض تعود للانبثاق من جديد.
إن الزراعات الوحيدة الجينية المتزايدة (المقصود هنا الحيوانات والنباتات الموجهة للتغذية وذات جينوم متشابه) تزيل جهاز الحماية المناعي، الذي في حالة مجموعات متنوعة، يحد من نقل العدوى.
خلاصة القول، فإن هذا التطور لا يمكن إدراكه إلا في إطار شمولي يأخذ بعين الاعتبار:
1 -القنوات العالمية للرأسمال.
2 – انتشار هذا الرأسمال الذي يحطم التعقيد البيئي الإقليمي، الذي يحد، ويتحكم في نمو مجموعة العوامل الباطوجينية الحادة.
3 – النمو الناتج عن المعدلات والاتساع التاكسينومي للنتائج.
4 – اتساع قنوات منتجات الضواحي، التي ترسل العوامل الباطوجينية جديدة الانتشار وسط القطيع الحيواني و وسط الأيدي العاملة في المناطق الداخلية النائية، وذلك نحو المدن الإقليمية.
5 – إن القنوات والشبكات العالمية والأسفار (تجارة القطعان كمثال)، التي توفر العوامل الباطوجينية تنتقل من تلك المدن إلى باقي العالم في زمن قياسي.
6 – هناك كذلك هاته القنوات التي تحد من احتكاكات الانتقال (العدوى) وذلك عبر انتقاء تطور معدل وفيات أكبر للعوامل الباطوجينية عند القطعان وعند البشر.
7 – إن فقدان القطيع لإمكانية إعادة إنتاج نفسه في مكانه الطبيعي (حالة القطيع الصناعي) يساهم في إزالة الانتقاء الطبيعي، باعتباره خدمة من طرف النظام البيئي، الذي يوفر حماية ضد الأمراض في زمن فعلي، ويكون مجانيا.
إن هذه الحالة العامة، جعلت العديد من الاختصاصيين والعلماء يتحدثون عن الحرب ضد صحة البشر التي تخوضها الصناعات الزراعية.
-الرأسمالية نمط إنتاج عالمي
ليست الرأسمالية مجرد اقتصاد قائم على توزيع خاص للملكية، وتوزيع آخر خاص بالخيرات، بل إنها نمط إنتاج، عبره تجد الإنسانية، اجتماعيا، الوسائل المادية لتحقيق وجودها وضمان تطورها. لقد عرف هذا النمط من الإنتاج تطورا هائلا للقوى المنتجة، خاصة منذ بداية القرن 21، وبحكم طبيعته الكونية يقوم نمط الإنتاج الرأسمالي بتثبيت كل الأنشطة الكونية لصالحه، وبالتالي فالنتائج والانعكاسات تمس كل مظاهر الحياة على مستوى الكرة الأرضية، ضمن امتداد زمني مستمر.
هكذا، فظهور جزء من كورونا فيروس خالص لم يسبق اكتشافه عند الإنسان، لم يكن وليد الصدفة، إنه منتج جديد، هو عبارة عن قفزة نوعية للفيروس ناتجة عن تصادم بين المدن والبوادي أنتجه نمط الإنتاج الرأسمالي، ونمط الحياة المرتبط به بشكل عام على المستوى الكوني.
لا يجب الاعتقاد أن الأزمة الصحية تأتي من خارج الإنسانية، أي من خارج نمط الإنتاج الرأسمالي، بل إنها تولد من رحم نمط الإنتاج الرأسمالي، ومن قلب العالم الذي صهره على شاكلته وصورته، وهذا العالم ليس نهائيا ولا ثابتا ولا مستقرا ولا دائما، بل يتهاوى تحت ضربات قانون صراع القديم والجديد، ويخضع لقطائع مستمرة.
إننا نعيش في زمن يعرف احتباسا حراريا واجتثاثا للغابات وقضاء مكثفا على الحيوانات البرية، واستعمالا مكثفا للحيوانات في الصناعة، وتطورا فوضويا وعشوائيا للفضاءات الحضرية، التي تعرف تطورا هائلا ودائما على حساب الغطاء الأخضر.
إن كوفيد 19 قد يولد مباشرة من نمط الإنتاج الرأسمالي في الصين، التي عرفت تطورا رأسماليا احتكاريا وبيروقراطيا، أنتج التجمعات الحضرية الكبرى (المتروبولات) في وقت وجيز، اكتسحت محيطها الطبيعي، ومدينة ووهان، موطن انطلاق كوفيد 19 هي نموذج لذلك، فقد عرفت المدينة تطورا على الشكل الاتي:
ــــ 1953 ← عدد السكان: أقل من مليون ونصف نسمة.
ــــ 1970 ← عدد السكان: 2200000 نسمة.
ـــــ 1982← عدد السكان: 4000000 نسمة
ـــــ 2000 ← عدد السكان: 8000000 نسمة.
ـــــ 2018 ← عدد السكان: 11895000 نسمة.
إن مدينة ووهان تدمج ثماني مدن من مستوى هام ضمن تجمع حضري يضم هوانغ شي، إرزهو، هوانغ غنغ، كسياو غان، كسيانينغ، كسيانتاو، تيان آنمين، كيانغ جيانغ.
يتم تقديم مدينة ووهان (مركز فرنسي سابق) كنموذج صيني في مجال التطور الحضري، فقد عرفت المدينة تطورا هائلا في مجال بناء البنيات التحتية الطرقية، فالمدينة تتوافر على خط مترو وعلى قطار الضواحي الفائق السرعة، كل هذا يمتد على 400 كلم. إن هذا البعد الحضري ليس إلا جانبا من المسألة، فثلث السكان ما زالوا يعيشون في البوادي ضمن تجمع، نجد فيه حضورا لأهم الماركات العالمية مثل كارفور، أوشان، ستاباكس، بيتزا هوت، CFK…
إن أصل فيروس كوفيد 19، يعود إلى التمدين المفرط لفضاء ووهان، مع استعمال حيوانات برية أو آتية من تربية الحيوانات في التغذية، إنها الأرضية غير الطبيعية الملائمة لحصول طفرة في الفيروس، الذي انتقل من نوع إلى نوع آخر، سينتقل معها إلى الإنسان.
إن الأمر هنا، لا يتعلق بلقاء مع مرض غير مكتشف لحد الآن، بل إنه مواجهة بين الإنسان ومرض منبثق من تحول وطفرة تسبب فيها نشاط الإنسان نفسه.
1 ـــ المتروبول كقاعدة لنمط الإنتاج الرأسمالي.
مدينة ووهان، هي كما يطلق عليها الآن «مدينة مستدامة»، «فرنسية – صينية» بمساحة 39 كلم مربع، تم تصورها خلال مرحلة فرانسوا هولاند، ومن المعروف أن سنة 2018، قد أطلق عليها «السنة الفرنسية – الصينية للبيئة»، فخلال ذهابه إلى الصين، وبهذه المناسبة، صرح ماكرون قائلا:
«إن التمدين قد أصبح فعلا تحديا في الصين، وسيكون غدا كذلك أكثر. إن فرنسا ترغب في دعم شركائها في هذا المجال، بتطوير العرض المندمج، الذي أنشأناه بالنسبة للمدينة المستدامة».
هناك التقاء رأسمالي عالمي حول إنشاء المتروبولات كمدن ضخمة واسعة الأطراف، فأغلبية البشرية تعيش اليوم في المدن. إن البورجوازية، منذ انتصارها على الإقطاعية، لم تعد قادرة على بناء مدن بالمعنى التاريخي للكلمة، لقد شوه نمط الإنتاج الرأسمالي مدن العالم التاريخية، والموضة اليوم والقاعدة هي بناء متروبول متعدد التشعبات، استبدادي لا يكشف عن هويته ومشوه بالكامل. إن هذا الشكل هو الأكثر توافقا مع تلبية الإنتاج والاستهلاك الرأسمالي لـ 24 ساعة على 24 ساعة للرأسمالية.
إن هذا يساهم في تدمير الطبيعة والسحق المعنوي، الثقافي والبسيكولوجي للعمال خاصة والبشر بصفة عامة.
يتحدث ماركس هنا عن:
«الارتباط المميت بين تراكم الرأسمال وتراكم البؤس، لدرجة أن تراكم الغنى في قطب يساوي تراكم الفقر والمعاناة والجهل والبلادة والانحطاط الأخلاقي والعبودية في قطب مضاد، من جهة الطبقة التي تنتج نفسها الرأسمال».
إن المدينة التاريخية، مدينة البورجوازية التي كانت تعني الثقافة والمبادلات واللقاءات لم تعد قائمة، فهذا لا يتوافق مع نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي يتميز بالطغيان، والذي لا يعرف في العلاقات سوى العلاقات التجارية (تبادل السلع والمصالح والخدمات) الأكثر اتساعا والأسرع والأكثر إتقانا.
إن المدينة المعاصرة هي من الآن فصاعدا، مكان للسكن المنعزل، الذي يتم العمل من أجل إعطائه قيمة أكثر، وإذا أمكن ذلك، حيازة ملكيته، فكل شيء بعيد، وبعيد أكثر فأكثر، سواء تعلق الأمر بالترفيه أو بإمكانية ممارسة الرياضة أو القيام بالتسوق، وكل الناس الذين نلتقي بهم مرتبطون بعلاقة تجارية، فكل شيء يجب أن يمر عبر نمط الإنتاج الرأسمالي.
في الحقيقة، ان نمط الإنتاج الرأسمالي ليس له سوى منطق واحد: تطوره الخاص، وبالتالي لا يتحرك عن طريق الاختيار، بل عن طريق الضرورة، لأن وجوده مرتبط بتطور غير منقطع وموسع للرأسمال.
لقد أظهر مرض كورونا 2019 الطابع المحدود لنمط الإنتاج الرأسمالي، بل وعبثيته. إن نمط الإنتاج الرأسمالي هو كذلك يتأسف على أزمة مرض كوفيد 19، ولكن في الوقت نفسه إذا كان الأمر لابد أن يعاد سيعيده، فنمط الإنتاج الرأسمالي لا يسمح لنفسه بأي تراجع، ولا بأي تحليل في العمق، لأنه يعيش في لحظية تحقيقه الذاتي، ليس له أي اعتبار حول نفسه، فهو نظام له غايته في ذاته، أي نظام مغلق وشمولي، إذن هو نظام طغياني.
بالنظر إلى السوابق من قبيل فيروس نقص المناعة البشرية وأنفلوانزا الطيور وأنفلوانزا الخنازير، والأنفلوانزا الإسبانية، كانت بداية تعميم لعلاقة مشوهة وغير طبيعية مع الحياة من طرف النظام الرأسمالي.
وبالفعل، فمن التناقض بين نمط الإنتاج الرأسمالي والحياة على الأرض، تولد ظواهر مدمرة، فنمط الإنتاج هذا لا يقارب الواقع إلا كوسيلة إحصائية وبيانات كبيرة والتقدير الكمي للمعطيات فقط. إن مسألة التطور النوعي غريبة عن نمط الإنتاج الرأسمالي، ذلك، لأنه نمط إنتاج أحادي، يجيب فقط عن منطقه الخاص للتراكم ولا شيء آخر، لا يمكنه إلا أن يلاحظ بشكل سلبي ببقائه كما هو.
إن نمط الإنتاج الرأسمالي له مصلحة في أن يتوافر على كل ما يشكل مصادر طبيعية كامنة، بمعنى الحفاظ عليها، لكن من جهة أخرى فهو محكوم عليه بإدماجها وإعطائها قيمة بسرعة من أجل تلبية حاجيات الإنتاج والاستهلاك القائمة على الرأسمال. إنه تناقض لا يمكن تجاوزه كما نرى ذلك في مسألة الاحتباس الحراري.
يمكن تلخيص المأزق الذي يقع فيه أنصار نمط الإنتاج الرأسمالي فيما يلي:
– إما أن الاحتباس الحراري لا قيمة له.
– وإما ان يكون على الرأسمالية أن تطور أسواقا جديدة من أجل التأقلم.
إننا أمام قضيتين من العملة نفسها، فالعالم الآن يشهد على اجتثاث غابة الأمازون والاستعمال الكثيف للطاقة الأحفورية في الشرق الأوسط والزراعة الوحيدة (الكاكاو في إفريقيا الغربية) وزيت النخيل في أندونيسيا وماليزيا … ولا يعرف نمط العيش في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي أي تحول نوعي، بل يسير نحو الأسوأ بعدما تعمق وتم تعميمه على مختلف دول العالم.
2 ـــــ كوفيد 19 ودلالته
لقد بينا أعلاه علاقة نشأة الفيروسات وانتشارها بنمط الإنتاج الرأسمالي، وعلينا أن ندرك الآن أن هذا النمط من الإنتاج قد وصل إلى حدوده القصوى، بمعنى أنه أصبح يضر بمجموع الواقع على جميع المستويات «لم يعد قوة بانية بل قوة مدمرة تخلق الاضطرابات». فبقدر ما يتطور، بقدر ما يواجه حدوده، بل وعجزه عن تحقيق إعادة الإنتاج الموسع للحياة بدون أن يدخل في تناقض عدائي مع الحياة نفسها. وما دام الرأسمال و وسائل الإنتاج بيد الخواص، سيبحث بشكل غير عقلاني عن إعادة إنتاج موسعة لذاته و سينتج تعميما مضغوطا عليه لإعطاء قيمة للرأسمال عن طريق استعمال كل ما يوجد بأكثر ما يمكن للإتيان بإنتاج رأسمالي و استهلاك رأسمالي.
إن تحطيم ما هو طبيعي مسألة محتومة ولا مفر منها في ظل نمط إنتاج وظيفته الأساسية هي التراكم المشتت وغير المنظم بشكل منهجي، وعبر دورات تتعاظم باستمرار عن طريق رأسمال موحد أكثر وعنيف.
إن هذا يظهر أن تحويل الواقع من طرف الإنتاج الرأسمالي قد وصل إلى بعد كوني، وأنه وصل إلى عتبة القطيعة. إنه يشوه كل ما هو موجود لإدخاله إلى السوق الرأسمالية.
إن التغييرات الجينية من أجل، ولأجل الصناعة (الحيوانات والنباتات) وخلق أسواق وتنويع أسواق خاصة (تغذية حلال للمسلمين، تغذية «كاشير» لليهود، سيميلي كارني …) تدخل في هذا السياق.
إن نمط الإنتاج الرأسمالي يحاول بالملموس تغيير قاعدته المادية نفسها حتى يتلافى الوصول إلى حدوده الذاتية التاريخية، ومع ذلك يصل إلى تلك الحدود، لأن نمط الإنتاج الرأسمالي يدخل في تناقض مع قاعدته المادية الخاصة نفسها، هكذا، ومن أجل أن يفرض تطوره الخاص، يصبح الواقع تناقضا عدائيا للرأسمالية، فماذا سيفعل؟ ذلك هو السؤال.
إن التراكم الرأسمالي يجري بطريقة ملموسة، وسيرورة التراكم هاته، التي هي نفسها عن طريق الأزمة تنتج الأزمة، بل هي الأزمة نفسها. إنها الأزمة والهروب في الأزمة.
– أزمة الرأسمالية وتكثيف الإنتاجية: دور الحيوانات في مواجهة الرأسمالية للانخفاض الميولي لمعدل الربح.
عندما كانت الرأسمالية مزهوة بنفسها بعد انهيار أغلب التجارب الاشتراكية، كان الاشتراكيون الديموقراطيون الأعداء الألد للشيوعية، وأتباعهم من التحريفيين يقولون ان الرأسمالية هنا دائما، و زمن الأزمات قد ولى، و البورجوازية أصبحت ذكية، و أن الرأسمالية تعرف دائما كيف تتأقلم، تتغير و تتبدل …
1 ـــ فترة الاستقرار النسبي للرأسمالية أو ما يسمى بـ «الثلاثون سنة المجيدة» (1945 – 1975)
بعد الحرب العالمية الثانية، تم العمل على إعادة بناء الدول الرأسمالية المتضررة من الحرب، وفي هذا السياق جاء ما يسمى ب «مشروع مارشال» الأمريكي لإعادة بناء أوروبا ومواجهة ما سمي بالمد الشيوعي، الذي تلا الانتصار التاريخي للاتحاد السوفياتي على النازية في حرب التحرير الوطنية الكبرى، والذي أعقبه كذلك، الانتصار المدوي للثورة الصينية.
لقد عرفت الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية انتعاشا هاما، ساهمت فيه الاكتشافات التكنولوجية، وقد تولد عن ذلك ما أسماه المؤرخون البورجوازيون بـ «المجتمع الاستهلاكي»، وقد وصل هذا التطور إلى ظهور الإعلاميات، التي ساهمت بدورها في تحديث الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي. وما يهمنا هنا، هو أن هذا التحديث التكنولوجي قد كان له أثر كبير على العمل، سيسمح بالزيادة في الجهاز الإنتاجي وفي الإنتاجية. إن هذا التحديث لم يوقف أزمة الرأسمالية، بل ساهم في تطوير إيقاع الدورة التراكمية للرأسمال.
ومن باب التذكير، فإن ما يحدد قيمة العمل هو مدته (بالمعنى الواسع)، درجة كثافته (كمية العمل المنجز بهذا القدر أو ذاك)، درجة إنتاجيته (كمية المواد المنتجة كبيرة بهذا القدر أو ذاك بالنسبة لنفس كمية العمل).
فعما يبحث الرأسماليون؟
إعطاء أكثر ما يمكن من قيمة، للقيمة – العمل ضمن الإنتاج مع تعويض العمل بأقل ما يمكن، إنه مبدأ الاستغلال المقنع، الذي تقوم الإيديولوجية البورجوازية السائدة بتمويهه.
وماذا عن الأزمة؟
إنها بالضبط، ترتبط بكون قيمة – العمل وسط الإنتاج تنخفض مع عملية التحديث المستمر للجهاز الإنتاجي، فينتج عن ذلك أنه، بقدر ما يقل عدد العمال في سيرورة الإنتاج، بقدر ما تقل سرقة الرأسماليين لفائض العمل، الذي ينتجه العمال.
فما معنى هذا؟
إن الأمر يتعلق بما يسمى بـ «قانون الانخفاض الميولي لمعدل الربح»، ويشرح ماركس ذلك قائلا:
«إن تطور القوى المنتجة، و الارتفاع الذي يوافقها لمستوى التكوين العضوي للرأسمال، يسمح بأن تعمل كمية كبيرة أكثر فأكثر لوسائل الإنتاج بفضل كمية صغيرة أكثر فأكثر، فكل جزء مقسم من المنتج الإجمالي، كل بضاعة مأخوذة على حدة، أو أيضا، كل جزء محدد من الكتلة الإجمالية من البضائع المنتجة، تبتلع عملا حيا أقل، و تتضمن أقل عمل مجسد، سواء ضمن تآكل الر أسمال الثابت المستعمل، أو في المواد الأولية و المساعدة المستهلكة، فكل بضاعة خاصة تتضمن قدرا أقل، سواء بالنسبة للعمل المجسد كوسائل إنتاج، أو كعمل جديد مضاف إلى الإنتاج» (الرأسمال، الكتاب الثاني، الفصل 13).
لقد اعتقد العديد من الاقتصاديين المبتذلين بالمعنى الواسع للعبارة، أن ماركس سقط في فخ الحديث عن الانخفاض الميولي لمعدل الربح، وذلك في كتابه «الرأسمال»، وبطبيعة الحال، فكتاب الرأسمال، إذا لم يكن كتاب فلسفة بالمعنى الضيق، فقد كان أعظم كتاب استعمل فيه ماركس الديالكتيك، ولذلك، عندما قدم ماركس قانون الانخفاض الميولي لمعدل الربح كقانون من قوانين الرأسمالية، تساءل بطريقة ديالكتيكية حتى يتمكن من شرح هذا القانون، قائلا:
«كيف يمكن تفسير أن هذا الانخفاض لم يكن أكثر أهمية، أو أكثر سرعة؟. كان لابد أن تلعب تأثيرات متناقضة دورها لمواجهة، وحذف تأثير القانون العام، وإعطائه طابع اتجاه فقط، ولذلك قمنا بوصف انخفاض معدل الربح العام بانخفاض ميولي» («الرأسمال»، الكتاب الثالث، الفصل 14).
لقد قام ماركس بالتأكيد على أهم الأسباب والعناصر، التي تلعب دورا كابحا لهذا القانون، ومنها:
– الزيادة في درجة استغلال العمل.
– تخفيض الأجر إلى أقل من قيمته.
– تخفيض أثمنة عناصر الرأسمال الثابت.
– فائض السكان النسبي.
– التجارة الخارجية.
– الزيادة في الرأسمال بالأسهم.
يقوم ماركس بشرح درجة استغلال العمل على الشكل الاتي:
«كل ما يدعم فائض القيمة النسبي عن طريق الإتقان في الأساليب فقط، كما هو الحال في الزراعة، وذلك بدون الزيادة في الرأسمال المستعمل، يكون له الأثر نفسه.
هنا، الأمر صحيح، فالرأسمال الثابت المستعمل لا يرتفع مقارنة بالرأسمال المتحرك إذا كنا نعتبر هذا الأخير كإشارة على قوة العمل المستعملة، لكن، كتلة المنتج هي التي تزيد نسبة إلى قوة العمل المستعملة»
والسؤال المطروح هو:
هل يوجد منتج تكون كتلته قد زادت بشكل محسوس بتكلفة قليلة، يسمح بتكثيف رأسمالي للإنتاج خلال هذه الفترة من الاستقرار النسبي؟
هناك العديد من المنتجات، التي تجعل، حتى في الحالة التي يكون فيها عدد العمال أقل (بمعنى نقصان عدد فائض العمل المسروق). تستطيع الرأسمالية أن «تستدرك» بفضل تكثيف العمل، الذي يسمح بزيادة في معدل فائض القيمة المنتزع على حساب الطبقة العاملة.
لو أخذنا بعين الاعتبار العناصر الثلاثة المحددة: المظهر الواسع، درجة الكثافة ودرجة الإنتاجية، فسنقدم الأمثلة الاتية:
أ – المظهر الواسع:
هنا يتعلق الأمر بالتركيز على الاستعمال وليس على المصدر، وتوسيع قطعة الأرض مثال على ذلك. و الشيء نفسه يمكن أن يقال عندما نتحدث عن استغلال الدول شبه المستعمرة وشبه الإقطاعية، عن طريق استغلال الفلاحين والعمال الزراعيين في هذه البلدان. فلو أخذنا الاتحاد الأوروبي كمثال، سنجده قد استورد مليونان ونصف طن من السكر، سنجد أن الدول التي صدرت السكر إلى الاتحاد الأوروبي هي 113 بلدا، بمعنى أنه تم استغلال 18 مليونا من الفلاحين ومليون و 800 ألف من العمال الزراعيين. ولو استشهدنا بفرنسا 1826، سنجد أن استهلاك السكر لكل فرد كان لا يتجاوز كيلوغرامين، وإذا قارنا ذلك بسنة 2007 سنجد أن الرقم أصبح 35 كيلوغرام للفرد.
إذن، فخلاصة القول، ان الأزمة الصحية المتعلقة بالسكر مرتبطة أشد الارتباط بزيادة الربح الرأسمالي على حساب صحة الناس، كما أن السكر ساهم في زيادة عدد الطبقة العاملة، وينطبق قولنا هذا على كل مجالات الإنتاج الرأسمالي، ونفس الحال بالنسبة لإنتاج الأدوية والمواد الكيماوية ومواد التلفيف.
ب – درجة الكثافة:
هنا يتم اللعب على كمية العمل المنجز، الذي يزداد باستمرار، وهذا ما يفسر على أنه رغم تناقص العمال في فرنسا في الثلاثين سنة الأخيرة، فإن الانخفاض الميولي لمعدل الربح لم يكن مذهلا. فلماذا هذا الأمر؟ وماذا وقع؟
لقد استطاع الرأسماليون أن يحصلوا على نمو في معدل فائض القيمة بالشكل الذي يجعل قيمة عمل العمال تزداد، فاستفادوا من العوامل الاتية:
– الأتمتة
-استعمال الروبوات
– الإعلاميات
– الزيادة في وتائر العمل
يقدم الرأسماليون هذه العناصر على أنها «عقلنة الإنتاج» أو ما يسمى بـ»نهج الجودة». وقد استغل الرأسماليون المشاركة النشيطة للنقابات في المسلسل الإنتاجي، وعن طريقهم بدأت محاولات إدماج العمال في المشاريع الرأسمالية. وإذا نظرنا إلى تاريخ البلدان الرأسمالية خلال ما يسمى بـ «الثلاثون المجيدة»، فإننا سنجده تاريخا متشابها، طبقة عاملة في أغلبيتها مؤطرة من طرف النقابات، لا تهتم بالثورات، بل فقط بالتدبير، ولذلك رفع الاشتراكيون الديموقراطيون والإصلاحيون شعار «التسيير الذاتي» للمؤسسات، وكذلك شعار «التسيير المشترك « لها، فقد اختفت مسألة السلطة وراء مسألة تنظيم العمل. هكذا إذن، تباطأ الانخفاض الميولي لمعدل الربح عن طريق الزيادة في كثافة العمل.
ج – درجة الإنتاجية:
هنا يتم الدمج بين المظهر الواسع ودرجة الكثافة، فكيف يتم ذلك؟
إن هدف الرأسماليين هو العمل بالشكل الذي يجعل ممكنا إنتاج أكبر كمية من المنتجات بنفس العمل المستعمل.
بشكل عادي، فمسألة المواد الأولية هي مسألة بسيطة، فعندما يكون عندنا كلغ من القمح، فلدينا كلغ من القمح، فبإمكاننا أن نلعب على مسألة المظهر الواسع وندفع في اتجاه أن يكون القمح مستعملا بشكل أكثر كما رأينا في حالة السكر، لكننا لا نستطيع أن نحول كلغ من القمح إلى العديد من كيلوغرامات القمح.
إن هذا الأمر موجود بالفعل، كنشاط تجاري، عندما مثلا نعوض مادة بأخرى أقل ثمنا (السكر كمثال) وذلك للعب على الهوامش، إن هذا الأمر المنتشر لا يمكنه أن ينطبق على مجموع السيرورة من جهة طابعه الهامشي أو القطاعي.
هنا، يتحرك الرأسماليون لإيجاد مادة أولية، وبفضل تقنيات عقلنة الإنتاج (الفوردية، التايلورية) تتضاعف كما لو في عملية سحرية، لقد وجدوا الدجاجة التي تبيض ذهبا، ويتعلق الأمر باستغلال الحيوانات. فإذا كان كلغ من القمح و كلغ آخر لا يأتيان بثلاثة كيلوغرامات، فالأمر مختلف بالنسبة للحيوانات، و من هنا تعميم استغلال الحيوانات في الصناعة.
د – تعميم استغلال الحيوانات في الصناعة
إنه لملفت للنظر هذا العدد الكبير من المجازر الصناعية، حيث كثافة العمل كبيرة ومدمجة مع إنتاجية في تصاعد مستمر. ومن جهة أخرى هناك اتساع في استعمال الحيوانات خارج مجال التغذية بالنسبة لكل الصناعة (الطحين الحيواني، الزيوت للآلات، أشرطة التصوير …).
لنرى بالأمثلة:
في سنة 2000 كان هناك في فرنسا 339 مجزرة، ثلثها ينتج ثلثي الإنتاج.
بين 1990 و 2000 كان العدد قد انخفض بنسبة 30% نتيجة التمركز الاحتكاري، وبين 1980 و 2000 هناك مرتان أقل للمجازر، لكن زيادة في الإنتاج بـ 10%.
هناك مثال على تدبير الإنتاجية من طرف الرأسماليين، فبين 1990 و 2007، فإن الاستهلاك العالمي للحوم بكل أنواعها قد انتقل من 143 مليون طن إلى 271 مليون طن.
بالنسبة لأوروبا، ففي القرن 19 كان الاستهلاك الفردي السنوي أقل من 20 كلغ، وفي 1920 انتقل إلى 30 كلغ، وسنة 1960 أصبح 50 كلغ، وفي سنة 2008 أصبح 100 كلغ في السنة. وبالنسبة لفرنسا، أصبح 107 كلغ في السنة، و 136 كلغ بالنسبة لإسبانيا، و 107كلغ بالنسبة لبلجيكا، و 93 كلغ بالنسبة لإيطاليا، و 88 كلغ بالنسبة لألمانيا.
إن هذا اختيار بالنسبة للرأسماليين، لكنه ليس اختيارا اجتماعيا، فحجة الرأسماليين حول ارتفاع مستوى العيش لا تعمل. فبالنسبة للبروتينات الصحية كما يقولون، فهناك تزايد في السمنة وأمراض القلب والشرايين ومختلف السرطانات التي يتسبب فيها اللحم، إضافة إلى الجانب الصحي المرتبط بطبيعة الإنتاج (الملوث).
هناك أشكال أخرى للزيادة في درجة الإنتاجية، كاستعمال الدقيق الحيواني وإنتاج اللحوم المركبة (لحم مختلط مع تركيب من الماء والفوسفاط ومنتجات لها «فرمولة سرية») إنها أسباب المشاكل الصحية التي لا تعد.
وبالنسبة للجانب الإيكولوجي نرى أن تربية المواشي والحيوانات عموما، وإنتاج المواد المركزة من أجل التربية، تحتكر 78% من الأراضي الزراعية العالمية، والمشكل أن أغلب نفاياتها غير قابلة للامتصاص، ويرى الاختصاصيون أن الإنتاج من اللحوم بالنسبة لـ 2050 سيصل إلى 465مليون طن.
إن هذه الأرقام تظهر بشكل جلي أن الأمر متعلق بتكثيف مدبر للإنتاج من طرف الرأسماليين وذلك في سياق معركتهم من أجل الربح، وإن هذا ليعتبر أحد المشاكل التي تعتبر جزءا من التناقضات الداخلية للرأسمالية، ويعد هذا اتجاها عاما لن يتوقف أبدا، بحثا عن الربح، ومن أجل الربح.
إن الحلول من أجل التقليل من سرعة فعل قانون الانخفاض الميولي لمعدل الربح، ستجعله يتزايد على المدى البعيد. إن النمو القوي للرأسمال يصطدم بالتناقضات التي لا حل لها، والتي تعتمل داخله. إن الرأسمال لا يستعمل الإنتاج إلا من أجل أن يكبر، وأن يزيد في قيمته، إنها نقطة انطلاقه ونقطة نهايته.
إن الزيادة في قيمة الرأسمال، تمر بالضرورة عبر التطور غير المشروط للإنتاجية الاجتماعية، تواجه الطبقة العاملة، الطبقة الأكثر استغلالا في نمط الإنتاج الرأسمالي، والحيوانات، وفي إطار الصناعة الرأسمالية فالحيوانات ليست «مستغلة»، ولكنها مستعملة، ولا تشكل طبقة اجتماعية، بل فئة مضطهدة.
إن الوهم الذي يحمله الرأسماليون، والذي يعتقدون من خلاله أن الربح الذي يحققونه في مجال الإنتاجية بإمكانه أن يقلص من حجم الطبقة العاملة في إطار السيرورة الإنتاجية، هو خطأ قاتل، و وزنه ثقيل بالنسبة للرأسماليين.