الإفتتاحية

وداعاً ( حبيبي ) فائز شمران

رحل عنا مساء أمس، صديقنا ورفيقنا وحبيبنا فائز شمران الياسري، دون وداع، بل وفي ليلة توهجنا، وألقنا، وسعادتنا بمولد الحزب الشيوعي العراقي، فأطفأ رحيله الفاجع وهج العيد  في اعين محبيه، وجعلنا في حال ما مثله حال.

وفقيدنا فائز، لا يحتاج الى تعريف، فهو علم من الأعلام العراقية العالية، فهل يحتاج العلم الى أن تشير اليه، أو تلفت النظر نحوه؟

لكن أحياناً يضطرنا الظرف – كالظرف الذي نحن فيه الان – الى تسليط بعض الضوء على شخصية قد لا تحتاج الضوء، لكن، وكي لا يظل بعض القراء الكرام في حيرة – لا سيما الشباب الذين لم يتعرفوا  على فائز – أقول:

 هو ابن الكاتب والروائي والمناضل الشيوعي الوطني شمران الياسري (أبو كاطع)، وهذا لوحده مجدٌ ما بعده مجد.. ولن أتحدث عن بقية أفراد أسرته، فهي أسرة كريمة، غنية بتاريخها النضالي والجهادي المجيد، ومزدحمة بالشهداء، والمآثر، والأسماء الوطنية والإجتماعية المرموقة، ومكتنزة بكل ما يجلب اليها احترام وتقدير وإجلال العامة والخاصة، وطبعاً فإن الخوض في تفاصيل أمجاد هذه الأسرة يحتاج الى صفحتين في الجريدة، وليس لعمود صغير واحد ومحدود..!

مضت على علاقتي بفائز 48 سنة بالتمام والكمال.. وكنت من أصدقائه – ونحن في أول توهجنا السياسي والوطني-  القريبين، فكان يحبني جداً، ويفضلني على أقرب الناس اليه، ويحفظ قصائدي – الفتية – ويستقبلني في بيته، فأتناول الطعام والشراب في بيته دون حرج.. فقد كنت واحداً من الأسرة، وكان هو يحسبني مثل أخوته: جبران، أو رياض أو إحسان أو أحمد !

كان فائز مثلي ومثل الكثير من مجموعتنا، منتمياً للحزب الشيوعي العراقي منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان نشيطاً جداً في عمله الحزبي، خصوصاً عندما عمل في تنظيمات الأرياف، ثم غادر بعدها التنظيم الحزبي، لكن روحه وقلبه وعقله وكل شيء فيه ظل معلقا بتاريخ الحزب ونضاله وقيمه ومبادئه، ولم يفكر – وحاشا له ذلك – أن يبيع الحزب، رغم الإغراءات الدسمة التي عرضت عليه من النظام البعثي، خاصة وأن فائز شخصية محورية واجتماعية معروفة ومحبوبة ومؤثرة  في محافظة الكوت عموماً، وفي أريافها خصوصاً، وكيف لا يحافظ فائز على مبادئه وقيمه الوطنية، وهو ابن شمران الياسري، وسليل هذه الأسرة الشريفة؟

كان فائز – أبو ياسر-  حلواً في كل شيء، ولا شائبة فيه، أو عليه، إلّا خصلتان كانتا فيه تسببتا بالكثير من المصاعب والمصائب له ولعائلته، حتى أنه فقد بسبب إحداهما حياته مبكرا..

 والخصلتان هما: الإفراط في التدخين.. والإفراط في ( الكرم والجود ) !

نعم، فقد كان أبو ياسر مدخناً لا يجارى، وحين أصيبت رئتاه بالدمار نتيجة لإفراطه في التدخين.. نصحه الأطباء في الخارج – وهو  في أسوأ أحواله الصحية – بالتوقف عن التدخين، لأنهم لمسوا ثمة أملا في شفائه، إذا ما قطع التدخين نهائياً، لكنه ابتسم في سره للطبيب، وقال له، وهو المعروف بقفشاته، وحلاوة روحه،  وسرعة بديهيته – :

(والله يادكتور بيني وبين الجكاير اتفاق، لا تكطعني، ولا أكطعها) !

لكن (الجكاير) تنكرت لاتفاقها معه، وخانت عهدها، ونكثت وعدها، بعد أن ( كطعنه) أمس، وسلبت روحه في ليلة مولد الحزب الشيوعي ..!

أما المشكلة الثانية التي كادت تدمر حياة أبي ياسر، فهي كرمه غير الطبيعي، فقد كان الرجل كريماً بشكل لا يصدق، وكرمه ليس وليد اليوم، إنما ولد معه، ونما معها، فقد كان يصر حين كنا شباباً على أن يدفع حسابنا كل يوم، وكانت سفرته ومائدته في البيت عامرة كل يوم، وعندما عاد للريف، أصبح بيته مقصداً للمحتاجين، وقبلة للمعوزين، ولكل من يبتغي منه مطلباً، فباع فائز – بسبب هذا الإفراط – معظم أراضيه واملاكه التي ورثها عن الأسرة، كما فقد معظم مشاريعه ، سواء أكانت الزراعية، أو التجارية، ولم يعد يملك منها شيئاً .. نعم فقد خسر جراء سعة يده وكرمه وجوده، كل أرصدته المالية، وحين غادرنا الى مثواه الأخير، لم يكن يملك فائز غير رصيد واحد، هو حب الناس، ودموع الفلاحين، وتاريخ طويل من النضال والمآثر النبيلة، ومحبة لن تنقطع.. 

 

قد يهمك أيضاً