الإفتتاحية

العالم خائف.. والمطارات مرعوبة!!

فالح حسون الدراجي

    مررت خلال اليومين الماضيين بستة مطارات مختلفة، في رحلة طويلة ومضنية استغرقت أكثر من خمس وثلاثين ساعة متواصلة.. ورغم أن هذه المطارات تعود لدول وأنظمة وشعوب تختلف عن بعضها امنياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً، إلاَّ إنها تتوحد جميعاً في هاجسها الأمني، ورعبها من (الآخر) ولاتختلف في ذلك أمريكا، أو (قطر)، خصوصا عندما يكون المسافر شرقياً، وزوجته التي ترافقه (محجبة)..!!

   لقد بدأ مسلسل الرعب والإزعاج  من رأس الشارع الذي أسكن فيه في بغداد، حيث (تحل) السيطرة العسكرية ضيفا ثقيلا على شارعنا.. فيبدأ الإزعاج من ذلك الإنتظار الممل والطويل، ولا ينتهي عندما يفتح العسكري صندوق السيارة الخلفي، ويرى حقائب السفر الكبيرة، فتسمع منه في ذلك الصباح الجديد كلمات سمجة بدلاً من سماع فيروز وهي تجمِّل صباحك بصوتها العطر، وتوشوش لك في أذنك: (سألوني الناس عنك ياحبيبي..كتبوا المكاتيب وأخذها الهوى) فتشعر بالراحة وأنت تستمع لهذا الصوت القادم من أعماق الطمأنينة، بحيث تغادر مستريحاً بغداد الملبدة بالغيوم والقلق والهواجس، وأولها هواجس الأمطار المرعبة التي أرعبتنا بها دائرة الأنواء الجوية، ودائرة الشائعات الشعبية معاً.. فازداد بذلك خوفنا من القادم خشية أن تأتي لعاصمة (نوفل أبو رغيف) العربية (مطرة) شبيهة بالتي جاءت قبل يومين فتغرق بغداد، حيث لن تستطع وقتها كل (دوائر) الأمانة إنقاذها، حتى لو رفعت من مجاريها (صخرة) سيزيف، وليس (صخرة عبعوب) فحسب!!

   ويستمر مسلسل الرعب الأمني في ذلك الصباح كلما تقدمنا لمطار بغداد الدولي (عشتو) خطوة أو خطوتين حسب أهواء عمليات بغداد وتقديراتها وسيطراتها. ويشتد المسلسل ترهيباً وتشويقاً حين نقترب جداً من المطار، فتنزل الحقائب قبل الوصول الى البوابات الرئيسية بأكثر من خمسة كيلومترات -هذا الإجراء الأمني الفريد لا مثيل له في كل مطارات العالم، حتى يعد سبقا أمنيا  سيستفيد منه، ويطبقه حتماً سكان المريخ بعد ألف عام- وبعد أن تنزل الحقائب، وبعد أن تفتش تفتيشاً دقيقاً، يأتيك بعد مسافة قصيرة الإجراء الثاني، أي إجراء (تفتيش الكلاب أجلكم الله)!! وتستمر التفتيشات حتى وصولك البوابة الأخيرة التي تصعد منها الى الطائرة التابعة للخطوط الجوية العراقية، فتستريح راحة نفسية هائلة وأنت تسمع (دعاء السفر) الذي يؤديه صوت رائع وبأداء صافٍ مميز، وهذه حسنة كبيرة تسجل لمؤسسة النقل العراقية..

   يقيناً أنكم ظننتم بأن الرعب قد انتهى بمجرد أن حلقت الطائرة العراقية في الأجواء العالية، ولكن عند الوصول الى أرض ذلك المطار العربي الذي سنكمل من خلاله رحلتنا الطويلة، بدأت الحلقة الثانية من هذا المسلسل الطويل على أرض المطار العربي رغم أنه يعتبر أفضل مطار عربي في تعامله مع الآخر. لكن المشكلة أن مجيئنا صادف مع ذكرى عاشوراء، حيث كان أغلب ركاب طائرتنا العراقية من محبي الحسين عليه السلام، ومن زواره الكرام القادمين من إيران والهند وباكستان وأفغانستان والخليج العربي، خصوصاً النساء المتشحات بالسواد، ولما وصل الدور لزوجتي سألها ضابط الجوازات العربي، وهو يراها ترتدي الأسود قائلاً بقصدية واضحة: هل انت من النجف أم من بغداد! فنظرت اليه زوجتي وأجابته بالعربية وبقصدية طبعاً: من العراق العظيم!!

فبلع هذه الإجابة الجريئة، وصمت دون أن يجيبها بكلمة واحدة.. والسبب في ذلك لايعود لأمر آخر، إنما فقط لأن جواز السفر الذي تحمله زوجتي صادر عن دولة كبيرة (تشگ حلگه وحلگ أبوه).. بالمناسبة زوجتي ليست أجنبية إنما هي (چعباوية من بيت إعزيز)!!

   وبعد ذلك المطار العربي مررنا بخمسة مطارات أخرى، كلها مستفزة ومرعوبة وخائفة من شيء لا أحد يعرفه، فالأجهزة الكاشفة تشتغل على قدم وساق، والعيون السرية المتلصصة تحدق في كل الوجوه وكل الإتجاهات، وعمليات التفتيش في بعض المطارات لا تبقي لك سوى الملابس الداخلية، فانت مشبوه مشبوه مشبوه، وأنت في محل الإتهام مادمت شرقياً، وخصوصاً إذا كنت مسلماً، وخصوصاً خصوصاً إذا كنت عربياً، ومعك سيدة محجبة.. إذ ستجد الخوف والرعب والشك مرسوماً بل ونابتاً في عيون الجميع بما فيهم الركاب الآخرين.. لقد تحدثت في هذه الرحلة مع زوجتي في أحد مطاعم مطار هيثرو البريطاني عن أمر ما باللغة العربية طبعاً، وقبل أن  أكمل كلامي لاحظت الزبائن الأوربيين في أكثر الطاولات ينظرون الينا بخيفة وحذر، وكأننا أشقاء أسامة بن لادن رغم أننا نعرف تماماً أن الإنگليز لا يكترثون لأمور الآخرين، ولا يعنيهم سلوك وتصرفات الغير.. فما حل بهم اليوم لينتبهوا لنا جميعاً؟!

ونفس الشيء يحدث في المطارات الأخرى، فكلها مستفزة ومرعوبة إذ ستجد الدنيا تقوم ولاتقعد إذا ما انفجرت (بالونة) في أي مطار في العالم. مرة كنت في مطار فرانكفورت الألماني وكانت معي أيضاً زوجتي (المحجبة) فحدث أن نسيت حقيبة اليد (الهاند باگ) التي تحوي بعض الأشياء الصغيرة في أحد مقاعد ذلك المطار الألماني، وبعد عشر دقائق تقريباً تذكرت الحقيبة، فركضنا انا وزوجتي نحو المكان الذي نسيناها فيه، ولكم أن تتخيلوا مرأى الناس الأوربيين وهم يرون رجلاً شرقياً معه امرأة محجبة يركضان في مطار أوربي! 

المهم إننا وجدنا الكون في تلك اللحظة مخبوصاً، فالركاب كانوا يشكلون حلقة دائرية تبعد امتارا عن الحقيبة اللغز، والبوليس مستنفر من رأسه حتى أخمص قدميه وكاميرات التلفاز تجتمع وكأنها على موعد مع الحدث الإرهابي الكبير، إضافة الى الشريط البرتقالي الذي يضعه عادة البوليس حول موقع (الجريمة)!!. المهم إننا وصلنا ذلك المكان، وأخبرت البوليس أن الحقيبة تعود لي.. وما أن قلت ذلك حتى تلقفتني الأيادي والعيون، وقد زاد الطين بلة، أو (كلة) أن المدام محجبة (يعني فوگ الحمل تعلاوة).. وحتى ما أطولها عليكم، أختصرها فأقول أن الطائرة التي كانت ستقلنا مضت، وجاءت أخرى، وثالثة ونحن شبه معتقلين في دائرة الأمن بالمطار، وبعد الف وخمسمائة سؤال، وألفي فحص وتفتيش و(تچييك) للحقيبة ولنا وللجوازات (الأجنبية) التي خرجنا بفضلها سالمين، أفرجوا عنا، فقررت أن لاأذهب بعد اليوم الى مطار فرانكفورت مهما كان.. والآن وبعد وصولي أمريكا حيث المكان الذي سافرت اليه.. قررت أن أذبح غداً (طلي) لوجه الله  تعالى.. لكن المشكلة (وين الگه الطلي بأمريكا.. لا والنوب وين أذبحه) إذا كانت عقوبة ذبح الطلي في أمريكا أشد من عقوبة  ذبح الأنسان في العراق) خصوصاً إذا كان الذباح وهابياً أو بعثياً؟!

قد يهمك أيضاً