فالح حسون الدراجي
لا شك أن وضع الصحافة في العراق اليوم -من ناحية التمويل- هو وضع شاذ، وفريد، وليس له مثيل في كل صحافة العالم.. وطبعاً فإن الوضع الصحفي في العهد السابق لم يكن طبيعياً أيضاً.. ولا يشبه أي وضع صحفي في العالم. وإذا كانت الصحف في عهد صدام (وعددها أربع صحف)، تموَّل جميعاً من ميزانية الدولة، أو من ميزانية الأمن العامة. وهو أمر كان معروفاً للجميع، فإن تمويل الصحف العراقية بعد التاسع من نيسان غامض، وغير معروف بالمرة.. وأنا لا أقصد طبعاً كل الصحف الصادرة هذه الأيام. فجريدة الصباح مثلاً تموَّل من قبل ميزانية شبكة الإعلام العراقية شبه الحكومية، وهذا يعني أن تمويلها في النهاية يأتي من مال الدولة. وكذلك الصحف الكردية فإنها أيضاً تمول من قبل الأحزاب الحاكمة في أقليم كردستان. وثمة صحف حزبية تمول من قبل قواعدها الحزبية مثل صحيفة طريق الشعب، بينما هناك صحف تصدر بشكل مباشر أو غير مباشر عن أحزاب، أو منظمات، لكن تمويلها يأتي من خلال (الوزير) المرشح لمنصبه الوزاري عن طريق حصة هذا الحزب، أو هذه المنظمة، والأمثلة عديدة..
وهناك صحف يومية تكتب وتطبع وتصدر، وليس لها قراء، كما ليس لها إعلانات، لكنها مستمرة في الإصدار دون توقف، أو إنقطاع. وحتماً فإن تمويل هذه الصحف يأتي من جهات أجنبية معروفة، خصوصاً الدعم السعودي والقطري المتواصل.. وإلاَّ كيف تستطيع التواصل دون (منشطات)؟!
كل هذا بات اليوم واضحاً للجميع، ولكن من أين يأتي تمويل الصحف العراقية المستقلة، لاسيما انها صحف غير حكومية، ولا حزبية، ولا تابعة لجهات أجنبية؟
أكتب هذه المقالة وأمامي الآن أكثر من سبع صحف مستقلة. أعرفها، وأعرف أصحابها جيداً، كيف لا أعرفهم وهم زملائي وأصدقائي وشركائي في محنة البحث الدائم عن الإعلان أو المصدر المموِّل ولأني واحد منهم فمن المؤكد أني أعرف كيف (يتشرشحون) عند نهاية كل شهر، عندما يحل موعد دفع رواتب العاملين في الجريدة، وتحل مستحقات المطبعة الشهرية، وكذلك مدفوعات مالية أخرى، كإيجار البناية، وأجور النت، والكهرباء، وغيرها..
والمصيبة أن الجميع، بدءا من رئيس الوزراء وإنتهاء بأبسط قارئ عراقي يطالبك بالحيادية وعدم الإنحياز، ويناشدك باليقظة والحذر، وعدم السقوط في بؤرة المال السياسي، أو المال العام، أو أموال الشركات، والتجار، ورجال الأعمال.. كما يطلب منك ايضاً أن لا تدافع عن هذا المصرف، أو تلك الشركة أو ذلك المليونير – حتى لو كان مظلوماً – والسبب أن هذا الأمر بعيد عن أخلاقية المهنة!!
وأحياناً أجد تعليقات في مواقع النت (لبطرانين) يصل بعضها حد الشتيمة، لأنك نشرت خبراً في جريدتك، أو كتبت مقالة دافعت فيها عن عراقي شريف، كل مشكلته أنه رجل أعمال ناجح، فهذا الأمر يعد جريمة في نظر الجماعة..
والسؤال: إذا كانت الجريدة لا تنشر خبراً لرجل أعمال عراقي وطني، ونزيه، (وخوش آدمي)، وفي نفس الوقت فإن هذا الرجل ينشر إعلاناته في جريدتك. وإذا كان رئيس التحرير، أو مدير التحرير، لايكتب مقالة يدافع فيها عن رجل الأعمال هذا – وهو يستحق الدفاع طبعاً – لاسيما بعد قيام النائبة الفلانية، أو المسؤول الفلاني بالهجوم عليه إعلامياً، والإساءة الشخصية له، لدوافع غير نزيهة. وإذا كانت الجريدة المستقلة ممنوعة من الدفاع عن رئيس الوزراء نوري المالكي حين يتعرض لهجوم سياسي ظالم، بحجة إعادة آلية صناعة الدكتاتور، وممنوعة أيضاً من الدفاع الحق عن الوزير الفلاني – الذي يضعه أعداء العراق في هجماتهم الإعلامية (بحلگ الطوب) لأسباب طائفية، أو سياسية خالصة – والحجة الجاهزة لدى الجماعة هي التملق لهذا الوزير.. علماً بأن هذا الوزير شخص جيد، ويستحق الوقوف معه ومساندته إعلامياً، ناهيك عن أنه يدعم جميع الصحف المستقلة دون تمييز، وإن كان هذا الدعم بسيطاً جداً جداً، بالمناسبة لايوجد وزير معين أقصده هنا!!
ولعل المضحك، أن ( الجماعة) يطلبون منك أن لا تدافع أو تروج لهذه الشركة أو لذلك المصرف حتى لو كان على شكل إعلان مدفوع..!!
وهنا يأتي السؤال ايضاً: إذا كان كل هذا ممنوعاً على الصحيفة المستقلة، فضلاً عن مجموعة القيم والمبادئ الوطنية التي تؤمن بها الجريدة ويؤمن به مسؤولها والتي تمنعه من الوقوف مع أي إتجاه يقف بالضد من المصلحة الوطنية، والمبادئ الإنسانية. إذن كيف تريدون منا أن نلتزم التزاماً تاماً، ونحافظ على إستقلالنا، وأن نكون حذرين ويقظين خشية أن تمر مقالة، أو خبر(مدفوع الثمن).. وفي نفس الوقت تقطعون عنا الماء والكهرباء، فلا مساعدات حكومية تأتي لدعم الصحف المستقلة – وهي جميعاً صحف وطنية شجاعة، لها مواقف بطولية في الدفاع عن العملية السياسية، وفي مكافحة الإرهاب – والسبب كما تقول الحكومة أن الأنظمة الديمقراطية لا تسمح بدعم الصحافة من ميزانية الدولة .. يعني وصلت لأبن عمها وتكت.. !! أما الإعلانات الحكومية – وهي وفيرة جداً – فحدث بلا حرج، لأن أغلبها يذهب الى صحف معينة، في حين أن (الحبشكلات) الأخرى تذهب الى من يُلمّع وجوه المسؤولين..
وهذا يعني أنها أصبحت كما الحال في المثل الشعبي القائل : (باگة فجل لا تحلين.. وگرصة خبز لا تثلمين.. واكلي لمن تشبعين!!) وما أعرف شلون راح آكل.. وشلون راح أشبع؟!