*(فقل ما يقول الدليل وابتكر اول الممكن المستحيل)، هذا ما يخاطب به محمد علي شمس الدين جده المتنبي حيث يضع المستحيل اول الخطى ليصنع ما يصنع بعد ذلك. مرة قلت لاصدقائي، ان زيارة شاعر كبير (وكنا وقتها نتحدث عن ادونيس) الى العراق تعدل كفتها زيارة كل الملوك والرؤساء الى بغداد، وانا الان أقولها مطمئنا.ان حضور محمد علي شمس الدين الى بغداد يعدل بكفته حضور كل الزعماء، فهو الزعيم الأكثر دفئا، والاقوى روحا، والارق قلبا، انه احد اهم مشاريعنا الحداثية والتنويرية وعلى مدار اكثر من خمسين عاما نجده عاكفا على ضوء سراجه الشعري، يديمه بانفاسه الشعرية، ويوقده من شجرة قلبه المضيئة، لم تأخذه الحداثة بعيدا عن قضايا الناس وهمومهم ، ولم تأخذه الناس وصراعاتهم عن مشروعه الحداثي، انها محنة الواقف على حبال الجمال والاختلاف، ولكنه بقي واقفا شعرا وموقفا طيلة هذه السنوات. محمد علي شمس الدين أحد اهم الايقونات الشعرية العربية، هاهو اليوم يضيء مساءات بغداد بعد فراق طويل ، وتكتحل بغداد ثانية بحضوره بين اصدقائه ومحبيه وكأنه يردد ماقاله منذ سنوات ( هكذا نبدأ من حيث انتهينا) واسم من الأسماء الشعرية الكبيرة في خارطة الحداثة العربية، وهذه هي زيارته الثانية للعراق، بعد زيارته الأولى عام 1987. ولد في العام 1942 م. وكان لأسرته أثر كبيرعليه, فقد كانت أسرة دينية تقتني مكتبة كبيرة, مملوءة بكتب التراث. تفتحت موهبته الشعرية باكرا، ويعتبر من طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي منذ العام 1973 وحتى الآن، شارك في معظم المؤتمرات والملتقيات الشعرية والفكرية والأدبية في لبنان وخارجها. حاصل على إجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية 1963, وفي الأدب العربي 1968, وفي التاريخ 1972, وماجستير في التاريخ 1980 . حائز على دكتوراه دولة في التاريخ. يعكف على كتابة مقالات نقدية وأدبية عن الشعر والأدب والفكر في المجلات والصحف اللبنانية والعربية، شاعر حديث إلا ان نتاجه الشعري لا ينحصر في مجال واحد. غالب شعره يتفاعل مع رموز التاريخ العربي والإسلامي. حاز في العام 2012 على جائزة العويس الشعرية. ترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة منها الإسبانية والفرنسية والإنجليزية. كتب عن قصائده الكثير من النقاد العرب والغربيين، ومن بينهم المستشرق الإسباني بدرو مونتابيس حيث قال:(يبدو لي أن محمد علي شمس الدين هو الاسم الأكثر أهمية، والأكثر وعدا في آخر ما كتب من الشعر اللبناني الحديث، في هذا الشاعر شيء من المجازفة مكثف وصعب؛ لا سيما أنه عرضة لكل الإشراك. شيء ما يبعث على المجرد المطلق، المتحد الجوهر، اللاصق بالشعر في أثر شمس الدين، وقلة هم الشعراء الذين ينتصرون على مغامرة التخيل، ويتجاوزون إطار ما هو عام وعادي، وهؤلاء يعرفون أن مغامرتهم مجازفة كبرى، ولكنهم يتقدمون في طريقها). لقي شعره رواجا واسعا في لبنان والبلاد العربية. والشاعر يعمل كمدير للتفتيش والمراقبة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في لبنان. أمين الشؤون الإدارية في اتحاد الكتاب اللبنانيين منذ الثمانينيات، وعضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق منذ 1979، وعضو شرف رابطة الكتاب الأردنيين منذ 1986. وصدر لضيفنا الشاعر شمس الدين عدد من الدواوين منها: قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا 1974 – غيم في أحلام الملك المخلوع 1977 – أناديك يا ملكي وحبيبي 1979 – الشوكة البنفسجية 1981 – غنوا غنوا (أشعار للصغار) 1983 – طيور إلى الشمس المرة 1984 – أما آن للرقص أن ينتهي 1988 – أميرال الطيور 1992 – المجموعة الكاملة 1994 – يحرث في الآبار 1997 – منازل النرد 1999. أعماله الإبداعية الأخرى: رياح حجرية (نثر) 1980 – كنز في الصحراء (حكاية للصغار) 1983 – الطواف (نثر) 1985. مؤلفاته: الإصلاح الهاديء – الألوان تغن.
*بعد ذلك القى رئيس اتحاد الادباء الأستاذ ناجح المعموري كلمة ترحيبية بالضيف جاء فيها:
اعتقد ان هذه الزيارة ستكون المحطة الأخيرة في المشروع الذي ابتدأناه منذ بدأ الدورة الجديدة لاتحاد الادباء والكتاب ، وهي عتبة مغايرة ومختلفة تماما ، الشاعر محمد علي شمس الدين مثلما توصلت قراءاته لدرجة التلقي السريعة توصلت الى ان هذا الشاعر يمثل صوتا منفردا ومتميزا منذ بدئه تجربة التحديث العربي المعاصر في مجال توضيفه الصورة ، وتعرفت واكتشفت ان هذا الشاعر هو فيض من الاساطير التي عرفنا ابتداء من سومر وصعدت الى بلاد الشام وغذت بلاد الأرز وكنعان ، لكن للحقيقة أقول بان هذا الشاعر يمثل عتبة فريدة لانه يمارس مايشبه اللعب على الأسطورة والرمز الحاضر في الاساطير وهو حضور متنوع ومتعدد. شمس الدين يذهب باتجاه ماهو معروف للبعض من الشعراء المثقفين ويعيد بناء المعنى في الرمز.
*ثم حيا مدير الجلسة الشاعر الضيف قائلا: احيي ضيفنا باسمكم وباسم قيادة الاتحاد لنستمع له وهو يحدثنا عن تجربته ومن ثم نستمع لقراءات شعرية. داعيا الضيف الى منصة الجواهري وسط تصفيق وترحيب الحضور.
*بدأ الشاعر الضيف حديثه قائلا: اشكر صديقي الدكتور الساعدي، واشكركم، طالما كنت اتوق الى بغداد ، بغداد مدينة مزدحمة بالتاريخ ، حن اليها الشعراء، والرحالة، والمغامرون، والغزاة، وسارقوا الأرض، وحن اليها معاقرو اللذة، والتجار والعباد والصعاليك بغداد مدينة تتمناها الشعوب، أبو العلاء المعري تمنى ان يموت في بغداد، حين قال:
الا زودوني بشربة ولو انني
قدرت اذا افنيت دجلة بالجرع
وكان اختياري ان اموت لديكم
حميدا فما الفيت ذلك في الوسع
لكن حتى الذين يقيمون في بغداد يحلمون بها، ذلك لان بغداد تختلف عن بيروت وعن القاهرة وعن دمشق، لكونها ليست فقط مدينة مكتظة بالتاريخ ، بل هي مدينة مكتظة بالخيال والحلم. وهي مدينة الليالي الالف، ومدينة شهرزاد، انها مدينة الخيال. نعم، هذا الخيال الذي به يمكن للإنسان ان يصبح على صورة الاله. لماذا سأل العربي نفسه: لماذا الانسان في الخيال على صورة اله؟، واجاب لان في الخيال يوجد ماليس موجودا. ان بغداد هذه الهدية العظيمة وهي الخيال. انا جئت الى بغداد اول مرة عام 1974. في طريقي الى مربد الشعر العربي. يذكرني بعض الأصدقاء الاجلاء في تلك الرحلة الحقيقية، لقد ذهبت من بغداد الى البصرة وفي رأسي وبالي اول شبابي وأول خوفي للقصيدة .. لان في المربد أسماء كثيرة وكبيرة مثل نزار قباني والجواهري والبياتي وصلاح عبد الصبور، وانا مازلت شابا يافعا حاملا قصيدتي ويداي ترتجفان. انا عندما اتيت من بيروت الى بغداد الى البصرة، وفي بالي شيئان، أبو الخصيب في العراق وبدر شاكر السياب، وشباك وفيقة ، ونهر بويب. اريد ان أرى شباك وفيقة، وبويب الذي قال فيه السياب: بويب بويب أجراس برج ضاع في قرارة البحر. كان في بالي من خلال القصيدة ان هذا نهر عظيم متدفق، هذا النهر تموج فيه الموت والحياة، ووصلت الى ابي الخصيب فوجدت ان شباك وفيقة هو ثقب في جدار. وان بويب العظيم ليس سوى خيط ميت من المياه الناشفة تحت نخل ابي الخصيب ، فأدركت ان الأنهار يبتكرها الشعراء، وان المدن تصنعها الاحلام. قصيدتي الأولى في هذا اللقاء هي بعنوان (أرسلت غزالا نحو الشمس، او دموع الحلاج):
يا نسيم الريح خبّر للرشا
لم يزدني الورد إلاّ عَطشا
1
أعليتُ دموعي كي تبصرها يا الله
وقلت أعيد لك الأمطار
فلتنشُرْ غيمك حيث تشاء
فإن الغوث يعود إليكْ
والحزنَ يعود إليّ
وأنا حين ربطت الريح بخيمة أوجاعي
جمعتُ ينابيع الأرضِ ففاضت من ألمي
هذا ألمي… قرباني لجمالك لا تغضب
فأنا لست قوياً كيما تنهرني بالموت
يكفي أن ترسل في طلبي
نسمة صيف فأوافيك
وتحرك أوتار الموسيقى لأموت وأحيا فيك
هذا ألمي هذا ألمي
خفف من وقع جمالك فوق فمي
2
“كم دمعة فيك لي ما كنت أجريها
وليلة لست أفنى فيك أفنيها”
لكنني وأنا عانٍ ومُنتَهَبُ
وحدي على وحدتي أطوي فيافيها
سألت بابل عن نار تؤرقها
والأرض تنشر موتاها وتحييها؟
فلم تجبني فلما غاب شاهدها
أبصرت خيط دماها في سواقيها
وجئت بابل محمولاً على فرسٍ
والريح تدفع ريحاً في نواصيها
فما رأيت على أبراجها قمراً
ولا سمعت أنيساً في مغانيها
3
أرسلت غزالاً نحو الشمس لينطحها
وأسلت بكائي في القَصَبِ
لا ليس نبيذاً ما يعصره العصارون
ولكن فيض دمي في العنبِ
وأنا لست بعّرافٍ ينظر في النجم
ويقرأ ما سطره الأفاكون من الكذبِ
هيمان على وجهي أسأل عمن يسقيني الماء
فلا أسمع غير طنين ذباب الأعراب على الكتب
من حولي سبعة أنهار وبحار تذرعها
الحيتان وأذناب يخوت من ذَهَبِ
وأموت بصحرائي عطشاً؟
شَرَد العقل وأفلتت الكلمات
وجُنَّ المتداركُ في الخببِ
وسأقتل أعلم يقتلني نسبي
وسأصلبُ ما بين اللدّ وغزّة والنقبِ
4
“للناس حجَّ ولي حجّ إلى سكني
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي”
يا عابر الجسد الصحراء خذ بيدي
وخفف الوطء إن الوطء في ألمي
تمشي وأمشي فهل يدري بنا زَمَن
ساعاته الرمل والأيام كالعدمِ
يكفي من الأرض شبر أنثر حارسه
أقمتَ في البيت أم جاورت في الحَرَمِ
تغفو الرمال فأصحوا والرمال مدى
جسمي لها البيد لكنّ الهوى سقمي
5
صليت ببغداد صلاة الدَمْ
ونثرت بغزّة أوجاعي
وعبرت الجسر الواصل ما بين الموت وأضلاعي
دمعي أصل الطوفانِ وقرباني جسدي
فاقطع إن شئت يدي
ستموج الغابة بالأغصانِ
ويعلو للأشجار عويل حتى يثقب سقف القبة
من لم يعرف وجع الإنسان وغربته في الأرض
فلن يعرف ربه
6
آخيت ما بين القفارِ وغربتي في الأرض
أضلاعي على خطين يمتدانِ
من طرف الحجاز إلى الشامِ فصرخت الريح
هذا الخوف لي
وأنا الذي حرّكتُ في الشجنِ الرواية
وانتدبت أصابع الشعراء كي تثب
القصيدة في فراغ جنونهم كالظبي
ها إني أنام على الحديد ولا أرى
كيما يقبلني القطارُ
وغداً ستمتلئ الجرارُ
ويفيض دجلة في السوادِ إذا تعمد من دموعي
لكنما ظهري حمي ودمي حرام
7
يارب ظبي مشى في التيه مرتحلاً
ألفاً وعامين لم يبرح على عَجَلِ
تبعتُ خطوته والريح تدفعني
من بابل العصر حتى مكة الرُسلِ
لكن من عبر الأيام شيّبه
عشق على الجمر منسي على مَهَلِ
إن المحبين يُذكي نار لوعتهم
سرّ يفور كأصل الدمعِ في المُقَل
* ثم قرأ الشاعر شمس الدين قصيدة أخرى عنوانها (وجه لحامد):
يا (حميد الدين) لاتفتح لهذا السر بابا
تقرع الذكرى نواقيس دموعي
وانا انقش في الصحراء جوعي
ارسم الشمس غزالا او غرابا
ومرايا نصل الدم راد الظهيرة
وانا ارسم وجها لبلادي
قلبا مطعون
وصلبت جناح الطير على جذع الزيتون
ونقشت على عنقي سيفي
وعلى هدبي سيفا مسنون
وشنقت الشمس باعتابي
وصفعت قفا القمر المفتون
لاقيس احب، ولا ليلى عرفت وجها للمجنون
*ثم قرأ الشاعر قصيدة (وجه لامي):
رمادية كانت الريح بين الغصون التي
أعلنت حزنها
اتت تسأل النهر عني
وفي كفها آية من دمي
أتأتين؟
هذا انا طفل هذي الضفاف التي انكرتني
تعالي
خذي مرفقي، واجعلي منه جسرا
وهدبي شراعا
وطيري على الماء بي، او بدوني
فلا فرق
فعانقته
وغمست بالدمع قرنيه
* ثم ختم الشاعر شمس الدين حديثه بهذه الكلمة: معنى الشعر هو هروب المعنى الدائم من الشاعر، ومن الشعراء، يعني هذا الجدال بين ان يقبض الشاعر على المعنى او ان يهرب المعنى من الشاعر، هذا هو محور الكلام. انا قلت ثلاثة ابيات، قلت مامعناه:
ماذا سنفعل بالياقوت يا ابتي وكلما زاد بعدا زدته طلبا
اصل الحكاية ان الشعر كأس طلا، والخمر اجمل مايروي اذا انسكبا
لكنه شفا حتى خلته قمرا خلف القميص فلما اوشك احتجبا
*في نهاية هذه الجلسة الممتعة قدم الأستاذ ناجح المعموري درع الجواهري لضيف العراق الشاعر العربي الكبير محمد علي شمس الدين وسط تصفيق الحضور.