د. قيس عيسى

تضعنا تجربة الفنان (جعفر طاعون) أمام فضاء بصري مُتشابك، فهذه اللوحات ليست مُجرد تكوينات تشكيلية، بل نصوص فلسفية وشعرية مرسومة بلغة اللون والخط، وكأنها نصوص بصرية مفتوحة على الحلم والذاكرة، تحمل في طياتها هواجس الانتماء والاغتراب.
تتموضع تجربة الفنان (جعفر) على خط فاصل بين التجريد الغربي والرمزية الشرقية. فمن جهة، هي لوحات تنتمي إلى روح الحداثة العالمية؛ ومن جهة أخرى، تحمل موروثاً شرقياً في الألوان الدافئة، وفي الرموز مثل البيت، الطاولة، الأواني، و وجوه العائلة.
هذا المزج يحقق كونية متجذّرة: خطابا إنسانيا عالميا يستمد قوته من خصوصية محلية.
أولاً: لغة اللون والخط: يعتمد جعفر على خطوط دقيقة سوداء تحدّد الأشكال لكنها لا تغلقها، وكأنها كتابة غير مُكتملة على جدار الذاكرة. أما اللون، فهو قصيدة بصرية: أحمر يحمل الجرح والحنين، أصفر يذكّر بالشمس الأولى، أزرق يوحي بالبعد والرحيل. هكذا تتحول اللوحة إلى فضاء شعري يلامس العين والوجدان معاً.
وكما قال بول كلي: «الفن لا يعكس المرئي، بل يجعل ما لا يُرى مرئياً»، فإن جعفر يجعل من الغربة والحنين صوراً مرئية نابضة باللون.
يتكرّر حضور البيت في أعماله بوصفه استعارة كبرى. فهو يطفو فوق الرؤوس، يتكوّن في الجسد، أو يظهر كهندسة أولية للانتماء. البيت هنا ليس مأوى مادياً فقط، بل رمز للهوية وللمكان الأول.
وهنا يمكن أن نستعيد مقولة إدوارد سعيد عن المنفى: «المنفى هو العيش مع عذوبة بعيدة، مع إدراك مُستمر أن البيت هناك، لكنه ليس هنا».
لوحات جعفر ليست مُجرد تشكيلات، بل هي وثائق جمالية – وجودية عن رحلة الإنسان في بحثه عن بيت داخلي. إنها تحاور الذاكرة كما تحاور المنفى، وتحوّل الحنين إلى لغة بصرية نابضة بالشعر.
في النهاية، يمكن القول إن أعماله تذكّرنا بما قاله درويش: «وطني ليس حقيبة، وأنا لستُ مُسافراً». لكنها تهمس أيضاً بما قاله أدونيس: «الغربة أن يصبح الوطن غريباً عنك».
وبين هذين الحدّين، يتأرجح خطاب جعفر، جامعاً بين الجرح والحنين، الغياب والحضور، الفن والشعر.
الكائنات في لوحاته ليست بورتريهات فردية، بل أطياف إنسانية مُبسّطة. هذا التبسيط استراتيجية جمالية تحوّل الكائن إلى رمز كوني، مفتوح على تأويلات مُتعددة.
الوجوه المرسومة، بخطوطها المقتضبة وعيونها الصامتة، لا تنتمي إلى فرد بعينه، بل إلى الجماعة الإنسانية ككل. هي أقنعة تكشف أكثر مما تخفي، وجوه بلا تفاصيل لكنها مُمتلئة بالذاكرة.
هذا التداخل بين الأجساد والوجوه يطرح سؤالاً إنسانياً: هل نحن كائنات مُستقلة أم أننا نذوب في الكلّ؟ هنا يظهر البعد الشعري: اللوحة أشبه بجوقة تنشد حضورها الداخلي عبر العيون المُشرعة على الفراغ. والإيقاع البصري والتكرار في الوجوه والأشكال يمنح اللوحة موسيقى صامتة، تجعل المُتلقي يعيش الإيقاع كما لو كان جزءاً من جوقة إنسانية واسعة.
– البعد الفكري والإنساني:-
1. ثنائية الانتماء والاغتراب:-
الشخصيات في اللوحات متقاربة جسدياً لكنها بعيدة وجدانياً. هنا يكمن السؤال الوجودي: هل الغربة هي فقد المكان أم فقد التواصل الإنساني؟
2. الهوية والذاكرة:-
أعمال جعفر تكشف عن قلق الهوية في زمن العولمة: كيف نحافظ على جذورنا ونحن نعيش في فضاء كوني؟ كيف نصون بيتنا الداخلي ونحن نحمل البيت كجرح لا يندمل؟
3. البعد الوجودي:-
في العمق، هي لوحات عن الإنسان المُعاصر: المنفي، الحالم، الباحث عن معنى. إنها إعادة صياغة بصرية لأسئلة فلسفية: من نحن؟ ماذا يبقى حين نفقد المكان؟ وأي بيت يسكننا ونحن نسكن الغياب؟
تجربة الفنان جعفر طاعون ليست مُجرد ممارسة تشكيلية، بل وثيقة جمالية – وجودية. فهي تُحوّل الحنين إلى لغة بصرية، وتكشف عن ثنائية الوطن والمنفى، الفرد والجماعة، المحلي والكوني.