ثقافية

سرديات ضد المحو.. أدب الواقع في قائمة “بيلي غيفورد”سناء عبد العزيز

مع استمرار الحروب والاضطرابات في زلزلة العالم، تأتي الكتب الواقعية لتذكرنا بأن السرد لم يكن يومًا مجرد تسجيل للأحداث، بل مرآة لهشاشة الإنسان وتفرده في آن واحد. ومع الإعلان عن القائمة الطويلة لجائزة “بيلي غيفورد” لهذا العام، التي تهدف منذ تأسيسها إلى الاحتفاء بأفضل ما يُكتب في مجال الأدب الواقعي وإتاحة هذه النصوص أمام جمهور أوسع، نجد أنفسنا أمام اثني عشر كتابًا أشبه باثني عشر مصباحًا، كل واحد منها يلقي ضوءه على زاوية مختلفة من التجربة الإنسانية: من المذكرات التي تخلد الخسارات الصغيرة، إلى السير التي تستعيد رموز الفن، مرورًا بالتحقيقات الصحافية والتاريخية التي تفتش في ندوب الحرب وعورات السياسة. إننا حيال تنوّع استثنائي، ينطلق من الداخل إلى الخارج، مراده الإحاطة بحجم الكائن البشري في مواجهة قسوة الواقع، من دون أن يتخلى عن قدرته على ابتكار الجمال وتجديد الأمل.

بين الاعتراف والتخييل

تقف المذكرات، باعتبارها جنسًا أدبيًا، عند تخوم الذاتي والموضوعي، حيث يلتقي الخاص بالعام. وربما لهذا السبب اعتبرها كثير من النقاد من أكثر الأشكال الأدبية قدرة على الجمع بين الصدق والخيال؛ فهي تكشف عن الحياة الداخلية للكاتب، وفي الوقت ذاته تنفتح على قضايا اجتماعية وتاريخية أوسع.

ضمت القائمة الطويلة لجائزة “بيلي غيفورد” هذا العام ثلاث مذكرات مميزة.

الأولى “الأشياء في الطبيعة تنمو ببساطة” (Things in Nature Merely Grow) للكاتبة يي يون لي، المرشحة للقائمة النهائية لجائزة بوليتزر. وقد رأى فيها الحكام عملًا “لا يشبه أي كتاب آخر”، بفضل لغته “الجميلة” و”غير العادية” التي تأخذ القارئ إلى أعماق المأساة الشخصية. في الإطار نفسه، تعود الصحافية الأميركية باربرا ديميك، الفائزة السابقة بالجائزة، بكتاب “بنات بستان البامبو” (Daughters of the Bamboo Grove)، الذي يحمل “طابعًا إنسانيًا” في تناوله سياسة الطفل الواحد في الصين. فرضت هذه السياسة منذ أواخر السبعينيات للحد من الانفجار السكاني، غير أنها تركت وراءها ندوبًا عميقة في النسيج الاجتماعي، إذ شهدت البلاد ملايين حالات الإجهاض القسري والتخلي عن الأطفال وانكسارات لا تُحصى في حياة الأسر. ومن خلال قصص عائلات مزقتها هذه التجربة، تكشف ديميك تبعات قرار سياسي قاصر، مبرزة كيف تتحول القرارات الكبرى إلى مآسٍ صغيرة تتراكم في البيوت وعلى الأسرّة الملطخة بالدماء.

الثانية الكاتبة الأسترالية هيلين غارنر فلفتت الانتباه بيومياتها “كيف تنهي قصة: يوميات مجمعة” (How to End a Story: Collected Diaries)، التي حظيت بتقدير خاص لصراحتها في توثيق انهيار الزيجات. غارنر لا تكتفي في كتابها بسرد تفاصيل الانفصال كحادثة شخصية، بل تفتح المجال على أسئلة أوسع حول هشاشة العلاقات وحدود الصراحة في الأدب، وكيف يمكن للنص أن يحوّل التجربة الأكثر ألمًا إلى لحظة تأمل غنية بالمعنى. إنها ببساطة كتابة تتخلى عن الأقنعة، كما وصفها النقاد، حيث تختفي الحدود بين الاعتراف والفن، وهو ما يضع غارنر في سياق تقاليد كبرى لكتابة اليوميات عند مفكرات مثل سيمون دو بوفوار، التي وثّقت تحولات الذات عبر عقود، بما عكس ملامح جيل بأكمله، أو فرجينيا وولف التي جعلت من يومياتها مختبرًا للتجريب، بما يحوّل الاعتراف إلى مدخل لفهم الوجود الإنساني بكل تعقيداته.

حيوات تُروى من جديد

إذا كانت المذكرات تنبع من الداخل وتنشغل بـ “الأنا” المهووسة بجحيمها، فإن السيرة الغيرية تتجه إلى “الآخر”، لتعيد الحضور لشخصيات أدبية أو فنية أو تاريخية. من هنا برزت في قائمة هذا العام ثلاث سير لشخصيات مؤثرة. في كتابه “الأعماق اللامتناهية: تينسون الشاب، العلم وأزمة الإيمان” (The Boundless Deep: Young Tennyson, Science and the Crisis of Belief) يفحص البريطاني ريتشارد هولمز، كيف واجه الشاعر اللورد تينسون أسئلة العلم التي زعزعت يقينه الديني في القرن التاسع عشر، بينما قدّمت البريطانية فرانسيس ويلسون في “الشرارة الكهربائية: لغز مورييل سبارك” (Electric Spark: The Enigma of Muriel Spark) سيرة رائعة عن واحدة من ألمع الروائيات البريطانيات. أما الكاتب البريطاني إيان ليزلي فقد نسج في عمله “جون وبول: قصة حب في الأغاني” (John & Paul: A Love Story in Songs)، سيرة موسيقية تحتفي بعلاقة الصداقة والإبداع التي جمعت بين جون لينون وبول مكارتني، وكيف تحوّلت إلى إرث موسيقي شكّل وجدان جيل كامل عبر ظاهرة فرقة البيتلز.

التاريخ المعاصر بعين الشاهد

في الأعمال الصحافية والتاريخية المرشحة على قائمة “بيلي غيفورد” يبدو أن الحاضر لم يعد من الممكن استيعابه إلا من خلال الشهادات الحية التي يلتقي فيها السرد الأدبي بالتحقيق الصحافي. فكتاب “الثوريون: قصة المتطرفين الذين اختطفوا سبعينيات القرن العشرين” (The Revolutionists: The Story of the Extremists Who Hijacked the 1970s) للصحافي البريطاني جيسون بيرك، نجح في “إضفاء بعد شخصي على أحداث تاريخية هائلة”، متتبعًا أثر الحركات الراديكالية التي هزت عقد السبعينيات وأعادت تشكيل السياسة العالمية، مع التركيز على قصص الأفراد الذين دفعوا ثمن التطرف، وفقًا لتصريحات لجنة التحكيم المكوّنة من محرر الأدب في صحيفة “التايمز” روبي ميلين، والمؤرخ براتيناف أنيل، والصحافية إينايا فولارين، والكاتبة والمؤرخة لوسي هيوز هاليت، والصحافية الثقافية في صحيفة “الإيكونوميست” راشيل لويد، والمؤلف وكاتب السيرة الذاتية بيتر باركر.

الثالثة على نحو موازٍ، تقدّم الكندية ليز دوسيت، مراسلة الحرب في “بي بي سي”، في كتابها “أفضل فندق في كابول: تاريخ شعبي لأفغانستان” (The Finest Hotel in Kabul: A People’s History of Afghanistan)، قصة الصمود الأفغاني وسط الحروب والاضطرابات، متخذة من فندق إنتركونتيننتال، الذي ظل منذ العام 1969 شاهدًا على تحولات متعاقبة، محورًا لسرد التفاصيل اليومية وسط الصراعات. ومن خلالها تكشف عن قدرة البشر على المقاومة والصمود. أثنى النقاد على كتاب دوسيت لنجاحه في الجمع بين البحث التاريخي الدقيق والسرد الحميم، مؤكدين أن مثل هذه الأعمال تجعل التاريخ المعاصر أكثر قربًا ووضوحًا للقارئ، حيث يصبح صوت الشاهد الإنساني ندًّا قويًا لصوت المؤرخ التقليدي.

بين الحرب وأزمة الهوية

إلى جانب المذكرات والسير الذاتية والأعمال الصحافية، تحتل أوروبا موقعًا محوريًا في اهتمامات ثلاثة من المؤلفين المدرجين في القائمة الطويلة، لتغدو القارة العجوز ساحة يستعاد فيها الماضي لقراءة تحوّلات الحاضر. في كتابه “بين الأمواج: التاريخ الخفي لثورة بريطانية بامتياز” (Between the Waves: The Hidden History of a Very British Revolution 1945-2016) يستكشف الصحافي البريطاني توم ماكتاغ، مسار الشكوك العميقة تجاه أوروبا في الوعي البريطاني، من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. بينما يعيد الكاتب البريطاني آدم ليبور في “الأيام الأخيرة لبودابست: جواسيس، نازيون، منقذون، ومقاومة” (The Last Days of Budapest: Spies, Nazis, Rescuers and Resistance) رسم ملامح مدينة تحاصرها الحرب العالمية الثانية، وتتجاور فيها قصص الجواسيس والنازيين والمقاومة مع حكايات المنقذين الذين خاطروا بحياتهم. أما البريطاني آدم ويموث في كتابه “الذئب الوحيد: السير على خطوط الصدع في أوروبا” (Lone Wolf: Walking the Faultlines of Europe)، فيوثّق رحلة ملحمية لذئب قطع المسافة من سلوفينيا عبر جبال الألب وصولًا إلى إيطاليا، في سرد يجمع بين متابعة أثر الحيوان ورسم صورة عن الصدع البيئي والسياسي الذي تعيشه القارة. هكذا تتشابك الكتب في هذه القائمة الطويلة كخيوط خريطة أدبية واسعة، كل نصّ منها يحاول أن يجيب عن سؤال واحد: كيف نحكي عن العالم؟ المذكرات تتسلل إلى الداخل، وتحوّل الاعتراف الفردي إلى شهادة إنسانية، بينما السير الذاتية تعيد وجوه الفن والأدب إلى مرآة الحاضر، طمعًا في اكتشافها من جديد. التحقيقات الصحافية والتاريخية تتجول في أرشيف الحروب والسياسة، لكشف المسكوت عنه. وفي المحور الأوروبي، يقف القارئ أمام انقسامات القارة العجوز، بينما يمدّ كتاب مثل “الأسرى والرفاق” البصر إلى ما وراء الغرب، ليعرّفنا أن التاريخ، بكل عبوديته واستغلاله، لا يحمل وجهًا واحدًا، بل وجوهًا متعددة، يصطدم بها الإنسان في كل زمان ومكان. وقد اختيرت هذه القائمة من بين أكثر من 350 كتابًا غير روائي صدر خلال عام واحد، ورغم الجدل الذي رافق الجائزة، مثل رفض الكاتب الأسترالي ريتشارد فلاناغان استلام الجانب المالي منها في العام 2024، في انتظار مناقشات مع المنظمين حول أخلاقيات شركة “بيلي غيفورد” الاستثمارية وعدم التزامها بخفض استثماراتها في الوقود الأحفوري، تظل واحدة من أبرز الجوائز العالمية للكتب الواقعية، وقد حصدتها على مر السنوات السابقة أسماء لامعة مثل أنتوني بيفور وكاثرين رونديل.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان