د. عقيل الناصري
والواقع أنه منذ العام 1929، أي منذ زوال الحزب اللاديني، ابتعد الشيوعيون كلياً عن موضوع الدين… ووصل الجدل على صفحات (كفاح السجين الثوري) إلى نهايته بهذا الإعلان الحاسم. وكان المحررون يقصدون بعبارة: موقفنا معروف تجاه معتقدات الناس، السياسة الطويلة الأمد للشيوعيين العراقيين، القاضية بتجنب توجيه أيه إساءة إلى الدين أو إلى القوى الدينية والإمتناع، بشكل عام، عن الحديث عن هذا الموضوع في العلن مهما كان الثمن “. ( التوكيد منا- الناصري)
** الفتاوى الدينية في الجمهورية الأولى :
في البدء لعبت ثورة 14 تموز دوراً في قلب الاوضاع الاجتصادية والسيافكرية، اي بمعنى أنها حاولت تبديل القديم تبديلا شبه كاملا، وقد ألغت طبقات بذاتها كطبقة الاقطاع وفئتي ملاكي الأراضي الكبار والكمبرادور، وحاولت إنشاء نظام اجتماعي جديد يقوم على اسس العدالة الاجتماعية النسبي يصب في مصلحة الفقراء وذوي الدخل المحدود، وأغلبهم من الشيعة، من خلال تغيير أسس توزيع الثروة الوطنية بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، وبناء اقتصاد وطني متعدد الانماط ذو توجه رأسمالي موجه وتحرير الثروة النفطية من استغلال الشركات الاجنبية واستخدام عوائدها لمصلحة المجتمع، وتحرير الفلاح من جور الاقطاع وغيرها من الاهداف الحاسمة للمجتمع العراقي وسعادة إنسانه سعادة حقيقية. وعلاوة على ذلك “… لم يمارس قاسم سياسة طائفية، فقد اختار رؤساء المؤسسات وكبار موظفي الدولة من بين الذين يتمتعون بسمعة وطنية وتأريخ نزيه وأصدر تعلميات مشددة إلى لجان القبول بتجاوز الأعراف الطائفية للترشيح في الكليات العسكرية. فالمساواة كانت واحدة من المبادئ التي نادى بها عبد الكريم قاسم. إن سياسة عبد الكريم قاسم بالحكم جعلت أبناء الشيعة وخصوصاً في بغداد يمتعضون من الانقلاب الذي أطاح بحكومة عبد الكريم قاسم، من المناطق التي قاومت الانقلاب، مدينة الثورة والشواكة والكريمات والشاكرية والكاظمية وعقد الأكراد ذات أغلبية شيعية … “. هذا من الظرف الداخلي.
أما من الظرف الخارجي، فقد كانت “… ثورة 14 تموز أنزلت بالاستعمار أكبر ضربة قاصمة تلقاها بعد الحرب العالمية الأخيرة في الشرق العربي، فأحدثت تبدلاً جذرياً عميقاً في الوضع السياسي العام في المنطقة، وقلبت الخطط الاستعمارية العدوانية رأساً على عقب، ومدت حركة التحرر العربي بروح ثورية جديدة هائلة أثارت الرعب والفزع في جميع الاوساط الاستعمارية والرجعية في العالم… “، ولهذا تكالبت على النظام الجمهوري الأول المطامع واستخدمت كل الوسائل العنفية واللا عنفية، بما فيها الفتاوى الدينية التي أثارت التناقضات الاجتماعية والسياسية والفكرية، ومهدت السبيل إلى زعزعة الوئام والسلم الاجتماعيين، من أجل اعادة الاوضاع الاجتصادية والسياسية وبالأخص الفكرية الى عهدها السابق في مرحلة الملكية. بحيث تكاثرت على الثورة المحاولات الانقلابية حتى بلغت 39 محاولة في عمرها الزمني القصير والبالغ 1666 يوما، أي بمعدل كل 42 يوم محاولة انقلابية . هذا من جهة ومن جهة أخرى، من المعلوم أن الحزب الشيوعي العراقي وعموما الحركات التقدمية واليسارية لم يقدم احد على أن مبادئهم و”… عقيدتهم على انها عقيدة ايمانية, وهي في نفس الوقت لا تدعو للايمان بالغيبيات التي يؤمن بها الناس, وبعض من اعضاء الحزب بل يترك العضو يحدد اختياراته الايمانية, فهذه الاحزاب متكونة من المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي, ولم يدان او يطرد من اعضاء الاحزاب العلمانية عضو يلتزم باداء الطقوس الدينية … “.
** مواقف الأحزاب الإسلامية والمرجعية من ثورة 14 تموز:
لقد ظهرت الحركات والأحزاب الإسلامية العراقية، بدءًا من الزمن الملكي بالنسبة إلى الأخوان المسلمين، بعد أن تم تأسيسه في مصر في آواخر العقد الثالث من القرن الماضي، بسبب انتشار العلمنة وانتشار الأفكار التحررية في عموم الوطن العربي إذ بدأت سيرورة تكوين امتدت لعقود من الزمن، وتعاظمت بفعل التحولات الرديكالية في أرجاء المعمورة والتي أعقبتها حركة التحرر العربية في مصر 1952 والعراق 1958 ولبنان في النصف الثاني من الخمسينيات وسوريا بعد إعادة انتخاب شكري القوتلي وعودته إلى الحكم بعد سلسلة الانقلابات العسكرية. ولهذا “… لم تستقبل قيادة جماعة الإخوان المسلمين في العراق قيام ثورة 14 تموز 1958 بالابتهاج والتأييد، ويبدو أن مرشد الجماعة الشيخ محمد محمود الصواف الذي وصف الثورة، بالثورة المشؤومة ويوم الثورة باليوم الأسود، أخذ يفكر بالخروج من العراق ويتوقع اعتقاله وذلك لعلاقته السابقة بعدد من كبار المسؤولين في النظام الملكي ولتقديمه برنامجاً دينياً من الإذاعة العراقية.
لقد اتخذ الإخوان المسلمون موقفاً مضاداً للتوجه الشيوعي ولسياسة عبد الكريم قاسم، وقد ظهر ذلك واضحاً في نشاطاتهم التي شهدتها الساحة السياسية، فقد اضطرت الجماعة عند ازدياد النشاط الشيوعي إلى أن تجمد نشاطها ظاهرياً، وأخذت تعمل باسم واجهات مثل: (الجبهة الإسلامية) و (الرابطة الإسلامية) و ( الكتلة الإسلامية). وأصدرت بياناً لتنظيماتها بتأييد قيام الوحدة العربية: لأن العمل للوحدة من صميم الدين الإسلامي ومصلحة المسلمين، ولأن خصام الجماعة مع جمال عبد الناصر وخلافها معه لا يبيحان لها الوقوف ضد الوحدة، كما أن قيام الوحدة معناه وقاية العراق من أن يصبح شيوعياً، ومن هذا المنطلق تعاون تنظيم الجماعة في الموصل مع حزب البعث والقوى القومية الأخرى.
واصدر الإخوان المسلمون في 1 كانون أول 1958 بياناً باسم (الجبهة الإسلامية) حذروا فيه الشعب العراقي من التيار (الشيوعي المدمر) ووصفوا فيه الشيوعيين بــ (العملاء الحمر)، وناشدوا مجلس السيادة ورئيس الوزاراء وعلماء الدين والشباب تحديد موقفهم من ازدياد النفوذ الشيوعي وأعمال الشيوعيين ( التخريبية). ثم أصدر الأخوان المسلمون باسم ( الجبهة الإسلامية أيضاً) منشوراً آخر في 21 كانون أول . ومما جاء فيه: أن الآمال التي علقها الشعب على الثورة لم تحافظ على قوتها وروعتها، بل بدأت تضعف ، لأن الشعب شعر أن الثورة” قد أخذت تستغلها فئة فوضوضية مهرجة هي فئة الشيوعيين من عمر موسكو… وناشد عبد الكريم قاسم بعدم السماح للشيوعيين باستغلال شخصه لأنهم يعملون على عزله، وحذرته من أن يكون ضحية من ضحاياه… واتخذت جماعة الإخوان المسلمين من المنابر والمساجد والجوامع مكاناً لمهاجمة الفكر الشيوعي وقامت جريدة (لواء الأخوة الإسلامية) التي صدرت في 22 كانون الثاني 1959 بدور واضح في هذا المجال. ووجهت الجبهة الإسلامية في آواخر كانون الثاني 1959، نداءً إلى الشعب تحت عنوان ( لمصلحة من هذه التفرقة)… وبعد اطلاق سراح محمد محمود الصواف،غادر العراق إلى سوريا في أيلول 1959 وأخذ يعمل من هناك لإسقاط النظام في العراق… “. ومما يذكر أن الاخوان المسلمين قد عملوا على تأليب الوضع عنفياً منذ عام مرحلة تأسيس حزبهم عام 1928 في مصر بالمعونة البريطانية.
ومما يذكر بصدد هذا الموضوع فقد “… كانت وتيرة العتف المقترن بالدين ظاهرة إستثنائية منذ الثمانينيات. فقد قامت الإيديولوجيات العلمانية والدينية، بدرجة متساوية، بشرعنة العتف المنظم الذي يستهدف المدنيين، أي الإرهاب. ولقد ساهمت جميع الأديان الرئيسية بهذه الزيادة الحادة في العنف السياسي، ولكن السمعة المشينة طبعت مجموعة صغيرة واحدة: هي القاعدة ورجل واحد هو أسامة بن لادن. واستناداً إلى أحد الباحثين ففي العام 1980 سجلت الولايات المتحدة منظمة دينية واحدة لا غير كانت ضالعة في الارهاب، بينما في العام 1988 سجلت ثلاثين منظمة كان نصفها منظمات دينية. ولقد إزدادت نسبة المجموعات الإرهابية الدينية من 16 من أصل 49 منظمة في العام 1994، إلى 26 من أصل 56 منظمة في العام 1995 … “.
وبعد أن اجيز الحزب الإسلامي فان السيد محسن الحكيم “… كان مستعداً للقتال بأيادي الآخرين، فلقد شجع تشكيل جماعة العلماء دون أن ينغمس بشكل مباشر فيها، بصفته عضواً لا راعياً. كما حث أبناءه على إدانة الإصلاح الزراعي في حين لم ينبس ببنت شفة ضده بصورة علنية. وأخيرا، فإنه كان أحد رعاة تأسيس حزب إسلامي سني، لكنه لم يَدَعْ مطلقاً لأي رجل دين شيعي ينخرط في إنشاء تنظيم حزب إسلامي شيعي… إن حقيقة وجود حزب إسلامي يقوده سنة، إنما يرعاه شيعة كذلك… لقد كانت لـ (الحزب الإسلامي) هجومية كاملة خلال مدة حياته القصيرة. فلقد بدأ حملته التحريضية ضد الشيوعيين بمذكرتين حماسيتين (قدمت الأولى في 31 ايار/مايو 1960 والثانية في 25 تموز/يوليو1960) تناديان بضرورة حظر (الحزب الشيوعي) وأسلمة القوانين تحت إشراف لجنة من العلماء والخبراء الدينيين. فما كان من (جماعة العلماء) في النجف إلا أن أيدت المذكرة المؤرخة في 31 ايار/مايو من دون أن تعرب عن أي انتقاد مباشر للحكومة… “.
أما موقف حزب التحرير الاسلامي، فلم يكن له رصيد شعبي لا قبل الثورة ولا بعدها، فقد “… كانت له تشكيلات صغيرة في الموصل وبغداد والرمادي، ولم يكن لها أي تأثير في الأحداث، حتى أنهم لم يشتركوا في التجمع ( القومي- الديني) الذي شكل في الموصل في مطلع سنة 1959، ونادرا ما شارك أعضاؤه في النشاطات المعادية للشيوعيين ولنظام حكم قاسم… “.
أما الأحزاب الدينية الشيعية فلم تكن قائمة عند حدوث الثورة وبخاصة حزب الدعوة الإسلامية، ولهذا اعتبر أن موقف المرجعية الدينية في النجف وكربلاء يمثل ماهية مواقف هذه الأحزاب. إذ “…مرت الحركة الإسلامية الشيعية بثلاث مراحل من التطور: فقد بدأت بصفة حركة أصولية تسعى إلى إسلام كلّي جامع في وجه إيديولوجيات علمانية غربية، أي السعي لإيجاد منظومة فكرية متقنة، تحتفظ بالمبادئ والعقائد القديمة مع ما تمثّلها من مصالح إجتماعية. وتحت تأثير نظام حكم الأخوين عارف السلطوي العسكري، والسني في معظمه، غيرت الحركة مسارها باتجاه اتباع سياسة محلية قائمة على الاحتجاج ضد التمييز الممارس ضد الجماعة (الطائفة). فتكون بهذا قد تحولت إلى النموذج الثاني، نموذج الخصوصية المذهبية. أما المرحلة الثالثة من التحول إلى الراديكالية فقد ظهرت إلى الوجود خلال الحكم الشمولي العلماني للبعث، تحت تأثير الثورة الإيرانية وهي التي كانت تتويجاً لتحولٍ جذري في الثقافة السياسية في الشرق الأوسط أي صعود النزعة الإسلامية الشعبوية. ولا شك في أن العنصرين السابقين(نموذج الإسلام الكلّي الجامع والنموذج الخصوصي-المذهبي) لم يختفيا بل تداخلا بالحركة الجديدة مع إيدولوجيتها وإستراتيجيتها الجديدتين… ”
وفي العراق المعاصر كانت استقلالية المرجعية الدينية تحديدا الشيعية وبصورة أدق زمنياً بعد( فشل) ثورة العشرين في تحقيق أهدافها، بمثابة خط أحمر فلا يتدخلون بالشؤون السياسية، بعكس ما هو سائد الآن و”… يبدو أن النشطاء الشيعة الإسلاميين، وربما اللبرالين منهم، من كلا الجيلين الأقدم والأحدث، متفقون على الساسة الشيعة في عشرينيات القرن الماضي كانوا قد ارتكبوا خطأً فادحاً حينما فقدوا حظوة القوة الإستعمارية، بريطانيا العظمى، التي كانت تملك مفاتيح تشكيل النظام السياسي – تشكيلا بعيداً عن إرضاء الشيعة. أما الآن فإنهم يعتقدون بأن الوقت قد حان لإصلاح ذلك الخطأ… “.
لكن”… ان نقص الاستقلالية وضع المرجعية عائمة ويتعامل معها السياسيون حسب المصلحة, وتشبهت بدور الازهر الذي تعامل مع اليسار واليمين ووجد التبريرات الدينية جاهزة والايات التي تخدم هذا الغرض وذاك كثيرة, وامسى ذيلا خلف السياسي. بعد وفاة السيد ابي الحسن الاصفهاني، ضعفت هذه الاستقلالية واندمجت المرجعية رويدا رويدا بالسياسة, وظل خوفنا مبررا من أن السيد السيستاني سيكون آخر مرجع تقليدي للشيعة في هذا القرن, نسأل الله ان يمده بالصحة ويدرأ الفتنة وبدع السياسة. فبعد وفاة السيد جواد البرجوردي في قم دعم شاه ايران مرجعية الحكيم, لاضعاف المعارضة الدينية في ايران, ونقل المرجعية خارج ايران لتوفير مسافة مامونة, وكانت الطريقة المعتمدة في ترشيح مرجع ما, هي ان يرسل شاه ايران برقية تعزية موجهة للعالم الذي يرغب الشاه ترشيحه لهذا المنصب, ويكون صاحب البرقية هذا هو الاكثر حظا في نيل المرجعية… لكن السيد الحكيم كان الابرز في التعاطي مع سياسة الشاه… “.
وبالعودة إلى شخصية السيد محسن الحكيم وعلاقته بالوسط الاجتمافكري والسياسي الديني.. فقد حلل ابعادها المفكر الاسلامي غالب الشابندر بالقول: “… إن شخصية المرجع الديني الأعلى السيد الحكيم، كانت علامة فارقة في تاريخ المرجعية الدينية في العراق. ولكن هذا لا يعني أن هذه العلامة خالصة تماماً أو معصومة عن الخطأ، بل لي شخصيا مجموعة ملاحظات نقدية على هذه الشخصية، وقبل كل شيء.. أحدس أن شخصيته في مجموع توجهاتها المثيرة إلى الانتباه، إنما كانت بعد ثورة 14 تموز، أما قبلها فليس لهذه الشخصية الكبيرة وجود مثير في الواقع السياسي، رغم أنَّ مرجعيته كانت أوسع مرجعية شيعية موجودة آنذاك.. وفي اعتقادي أن هذه الشخصية برزت بوصفها المثير للاسباب الاتية:
1 – طبيعة التغيير الذي حصل في المجتمع العراقي بعد حركة الضباط الأحرار 1958 وما جرَّ هذا التغيير من تداعيات وانبثاقات سياسية جديدة مثيرة ومحفزة بشمل لا يمكن إغفاله.
2 – وجود شخصية علمية حادة الذهن متطلعة متشبعة بفكر الغرب تلك هي شخصية محمد باقر الصدر، لا استبعد أن هذه الشخصية العظيمة كانت داينمو خفياً يحرك السيد محسن الحكيم في مواقفه وفتاويه، وربما كان ذلك عن طريق تحريك ابن السيد محسن الحكيم (الشهيد محمد باقر الحكيم ) الذي يعد من التلاميذ البارزين في حلقة محمد باقر الصدر الدينية والحركية.
3 -التحولات الجديدة التي بدأت تطرأ على العالم العربي والإسلامي وفي مقدمتها التحرك القومي ومفاجآت الظرف الإيراني وأحداث الباكستان الطائفية، وفي هذا السياق أشير بطبيعة الحال إلى أوضاع العراق في كردستان. الذي أتصوره أن شخصية السيد محسن الحكيم بعد 14 تموز، صنعتها الظروف ولم تصنعها القابليات الفكرية والتطلعات السياسية في ذات السيد الحكيم بشكل مطلق، رغم نبوغه الهائل في العلوم الدينية، وأعود لارجح بأن محمد باقر الصدر كان هو الداينمو الخفي وراء (الحكيمية) في أكثر تجلياتها وممارستها المثيرة والمؤثرة… “.( التوكيد منا- الناصري)
علماً بأن علاقة المرجعية المتمثلة بالسيد محسن الحكيم بحكومة ثورة 14 تموز، كانت جيدة ومزدهرة ، رغم ان المرء يستغرب “… لتصرفات الحكيم ابان حكم قاسم اتجاهه, فمنذ قيام الثورة تصرف السيد سلبيا اتجاهها, فلم يرسل مثلا رسالة تآييد بعد قيام الثورة, في حين ارسل السيد الحمامي والبغدادي والشيخ كاشف الغطاء وعدد آخر من العلماء من مناطق العراق المختلفة برقيات تهنئة مختلفة المضامين, لكن السيد الحكيم لم ينس ارسال برقية تهنئة وبهجة لانقلابيي 14 رمضان التي قتلت شهيدا صائما وابنا بارا للشعب العراقي اضافة للمجازر التي افتتحها عهد البعث والسيد ايضا لم ينس ارسال برقية لايقاف اعدام الطبقجلي وزملائه واخرى لايقاف اعدام السيد قطب واخرى لايقاف قانون الاحوال الشخصية, واخرى بحرمة الحرب في كردستان بعد ان تحالف مصطفى البرزاني مع الشاه ضد عبد الكريم قاسم… “، ومع قادة الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963. وعلى سبيل التوكيد فقد أثار إزدياد النفوذ التأثيري للقوى التقدمية بخاصة الحزب الشيوعي العراقي، وبخاصة الابعاد السياسية والفكرية، والموجة العلماتية التي سادت بعد الثورة، قلق الحوزة الدينية في عموم العراق وبخاصة مدينة النجف، فأسسوا جملة من المتصدين لهذا النفوذ التأثيري وقاموا بالعمل على ثلاث جبهات:
الأولى: إصدار التوضيحات النظرية لماهيات الإسلام، عندها استدعى السيد الحكيم نجله السيد مهدي وأبلغه بخطورة الموقف “… مؤكداً له( إني أرى الكثير من الناس أصبحوا شيوعيين. وقد ظللوا الناس بحجة ان الإسلام يدعو إلى المساواة بين الفقير والغني وان الشيوعية تعمل كذلك. وعليه فقد صار الكثير من الناس شيوعيين وخصوصاً الشيعة بحجة أن علي بن أبي طالب عليه السلام مدرسة للفقراء والمستضعفين والمحرومين والشيوعية تدافع عنهم) وأضاف: ( نحن بحاجة إلى كتاب يقارن بين الشيوعية والإسلام لإيضاح الحقيقية للناس مشيراً إلى إمكانية كتابة الكتاب من قبل السيد محمد باقر الصدر… ” ليظهر التمايز بين الفلسفتين ونقاط التقاطع بينهما).
والثانية: تشكيل حزب إسلامي سياسية شيعي، ألا وهو حزب الدعوة الاسلامية، وغائيتهم المقصودة محاربة الشيوعية وطرح الحلول الاسلامية كعلاج للمشاكل الاجتصادية والسياسية تحت شعار الإسلام هو الحل، إذ “… بعد احتدام التنافس والصراع بين التيارين الشيوعي والقوى الديمقراطية من جهة، وتيار القوى القومية والدينية المحافظة من جهة أخرى في أعقاب ثورة 14 تموز، تأسس حزب الدعوة الإسلامية في تشرين أول 1958 وتغلغل أولاً بين رجال الدين وحاول أن يستقطب بين صفوفه الشباب، وتأثر منذ البداية بأجواء الصراع السياسي والحزبي الذي ساد العراق… أما حزب البعث، فأخذ ينظر إلى حزب الدعوة وأدبياته كحليف وقتي يمكن استغلاله والإستفادة منه في تنافسه وصراعه ضد ازدياد نفوذ الحزب الشيوعي واتساعه… ”
والثالثة: تفعيل وتنشيط الفتوى الدينية لمحاربة الفكر التقدمي وبخاصة الماركسي منه وهذا في اعتقادنا الأهم، وازدياد قوتها التأثيرية على القوى الشيعية على وجه التحديد، نظرا لأنتشار الفكر التقدمي في عموم المنطقة الجنوبية والفرات الأوسط، للعوامل التالية من الناحية العملية وممارسة حكم ثورة 14 تموز:
– إزدياد مؤيدي الفكر التقدمي واليساري تاريخيا والظهور العلني لهم والتأثير على الساحة السياسية ؛
– ما أنجزته الثورة من أهداف وبخاصة ما يعود بالنفع إلى الفئات ذات الدخل المحدود والفقيرة ؛
– اتساع الموجة العلمانية الحداثوثة التي سادت الاوساط الاجتماعية المدينية بالأساس وتأثر الشباب بها ؛
– التناقض التناحري بين الرؤية الفلسفية للمؤسسة الدينية والفكر التقدمي وبالأخص الفكر الماركسي ؛
– مساهمة المرأة في الحياة السياسية والفكرية وتأسيس منظماتها الخاصة ؛
-إرتباط مصالح المؤسسة الدينية وعلاقاتها مع الطبقات المستغلِة من اقطاعيين والملاك الكبار والتجار ؛
– ولارتباط مصالح المرجعية الفئوية عامةً مع القوى الاجتماعية والطبقية المتضررة من ثورة 14 تموز؛
– كثرة الانتماء للحزب الشيوعي، الذي أصبح ظاهرة اجتماسياسية ومن مظاهر التباهي والافتخار ؛
– مساهمة أغلب التيار القومي ومنهم أحزاب: الاستقلال والبعث وحركة القوميين العرب والرابطة القومية، في نشر هذه الفتاوى والترويج لها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من أجل تصعيد حملة التنكيل بقوى اليسار بمختلف توجهاتها ومنظماته وكذلك الأخوان المسلمين وحزب التحرير الاسلامي وحزب الدعوة ؛
– مساهمة كل من مديرية الامن العامة والاستخبارات العسكرية، المدربة على ضرب قوى اليسار تاريخياً، بخلق شتى الاسباب للإيقاع بالتقدميين وزجهم في السجون، بما فيها ما له صلة بالتدين ومؤسساته والمبالغة في نشر الدعايات الكاذبة عنهم وتضخيم الأعمال الصبيانية التي تقوم المجاميع المحسوبة على الشيوعيين.
آنذاك بدأت المرجعية في هذه الفترة تحديداً بغية أن “… تتلمس طريقها نحو إستعادة قوتها ونفوذها الشعبي، كما ازدادت الحركة الفكرية الإسلامية نشاطاً، وكل ذلك يأتي في ضمن حركة مراجع الدين للخروج من العزلة والضعف الذي كانت عليه هذه المؤسسة الدينية. وكانت الظروف التي توفرت بعد ثورة 14 تموز 1958 مناسبة لتحقيق ذلك وربما كان هذا الشعور الذي ساد الوسط الديني في النجف والذي دفع إلى هذا التأييد الواسع لحركة التغيير في النظام السياسي… لم يدم التوافق والارتياح الذي أظهرته المرجعية الدينية في النجف لحكومة ثورة 14 تموز، طويلا. وكان كل طرف ينظر إلى الأمور معتمداً ايديولوجية مختلفة، إضافة عن الآخر، إذا لم تكن متعارضة إلى حد بعيد، فرجل الدين يعتمد في رؤيته على قاعدة فكرية دينية بينما السياسيون خاصةً الثوريين الذين جاؤوا إلى السلطة بنهاية عصر الاستعمار وبداية نشوء الحكومات الوطنية ينظرون برؤية تميل في أكثر الاحيان إلى التحرر والتجديد وتدمير القديم والبناء العلماني للدولة متأثرين بالأنظمة السياسية الغربية الحديثة… وكان بعضهم لا يخفي توجهاته اليسارية الاشتراكية، وكان هذا الاختلاف الفكري كافياً لتصعيد الخلاف والصراع بين المؤسسة الدينية والحكومة الجديدة… وكان موضوع إنصاف المرأة من المواضيع الرئيسية عند القادة الجدد وهذا ما تمثل بإصدار قانون الأحوال الشخصية الجديد… حيث بدأت المؤسسة الدينية في معارضة علنية لحكومة عبد الكريم قاسم… “.
………………………………………………
الهوامش
*** من كتاب جديد للمؤلف والموسم: فصول من ملاحقة اليسار في العراق المعاصر 1921-1964 .
59 – حنا بطاطو، الكتاب الثاني، صص. 361 و364، مصدر سابق.
60- للمزيد راجع إطروحة طالب الدكتوراه حيدر نزار عطية، المرجعية الدينية في النجف الأشرف ومواقفها السياسية من عام 1958-1968، اطروحة غير منشورة، معهد التاريخ العربي ؛ د. وسن سعيد الكرعاوي، السيد محسن الحكيم، دراسة في دوره السياسي والفكري في العراق 1946-1970، مؤسسة آفاق للدراسات، بغداد 2009..
61 – د. وسن سعيد الكرعاوي، السيد محسن الحكيم، ص.157، مصدر سابق.
62 – إبراهيم كبة، هذا هو طريق 14 تموز، ص. 24، مصدر سابق.
63- للمزيد من المعلومات، راجع كتابناعبد الكريم قاسم في يومه الأخير، بثلاث أجزاء، ط. 2، مصدر سابق.
64 – محمد باقر الحسيني، السيد عبد الكريم، ج. 2، المنشور في الحوار المتمدن بتاريخ 27/4/2007، مصدر سابق
65 – د. عبد الفتاح علي البوتاني، العراق: دراسة في التطورات السياسية الداخلية، ص. 189، مصدر سابق.
66- فالح عبد الجبار، العمامة والآفندي، ص. 14 الهامش، مصدر سابق.
67 المصدر السابق ، ص.205. علما بأن الحزب الاسلامي انتخب السيد الحكيم رئيسا فخريا له بعد أن لمس قادة الحزب من توجهات الحكيم المعادية للفكر اليساري وبعد فتواه بتحريم الشيوعية.
68 – د. عبد الفتاح علي البوتاني، العراق: دراسة في التطورات السياسية الداخلية، مصدر سابق، ص. 190
69- المصدر السابق، ص. 530.
70 – فالح عبد الجبار، العمامة والافندي، ص. 16، مصدر سابق.
71 – محمد باقر الحسيني، السيد عبد الكريم قاسم قدس والزعيم محسن الحكيم، مصدر سابق.
72 – غالب الشابندر، خسرت حياتي، الجزء الأول، ص. 125، دار البيضاء – بيروت 2017.
73 – محمد باقر الحسيني، السيد عبد الكريم قاسم (قدس)، ج.1، مصدر سابق ؛ وحول تحالف قيادة الحركة الكردية، مع قيادة انقلاب شباط 1963، راجع مذكرات فؤاد عارف، ، مصدر سابق. وبصدد علاقة الحركة الكردية مع التدخلات الخارجية: “… كان الأكراد، وبدعم من المخابرات الأمريكية، قد بدأوا عام 1961 انتفاضة ضد الحكومة المركزية التي كان يقودها قاسم . ولكن بعد الانقلاب البعثي، تغيّر الموقف الأمريكي تجاه الأكراد (كالعادة)، إذ قام الأمريكيون بشحن أسلحة من إيران وتركيا إلى كركوك لتمكين الجيش العراقي من قمع الأكراد في نيسان، ابريل 1963. ولزيادة الألم على الجرح، طلب الأمريكيون علانية من الأكراد وقف الانتفاضة، بعد أن كانوا قد طلبوا منهم في بداية العام 1963 دعم الانقلاب ضد قاسم… “. د. كمال ديب، زلزال في أرض، ص.87، مصدر سابق.
74- د. وسن حسن الكرعاوي، السيد محسن الحكيم، ص. 178، مصدر سابق.
75 – د. عبد الفتاح البوتاني، العراق: دراسة في التطورات السياسية الداخلية، ص. 191، مصدر سابق.
76 – لقد سبق وأن نشر آية الله العظمى البروجردي فتوى أعلن فيها أن مشروع الاصلاح الزراعي في إيران الشاه، كان يتناقض مع كل من الشريعة والدستور الإيراني. ولهذا فالمؤسسة الدينية في العراق كانت قد وقفت ضد مشروع الاصلاح الزراعي منذ صدوره في 30 أيلول في العام 1958.
77 – د. حيدر نزار عطية، المرجعية ، صص. 41-63، مصدر سابق.