رحيم يوسف
في فترة من فترات حياته، جرب كتابة الشعر ، باعتباره ابنا بارا للوسط الثقافي العراقي الذي انتمى له في مقتبل عمره وما يزال كذلك ، وقرات له بعض النصوص في ثمانينيات القرن الماضي ، ثم انصرف عن ذلك مؤقتا بعد تخصصه في النقد الموسيقي والمسرحي. المشعل كان مهتما باناقته جدا وفي كل الظروف التي يمر بها وهو يرتدي البدلة الرسمية حتى وان كان مفلسا ، ذلك الإفلاس الذي رافقه طويلا في فترة الحرب والهروب من الخدمة العسكرية ، فاصر في مرة على شراء بدلة زرقاء بدينار ونصف ، والمبلغ كان كل ما يملكانه هو وكاظم ، ثم لم يستطيعا تدبير ثلاثين فلسا لركوب حافلة مصلحة نقل الركاب الا بشق الأنفس ليتعرضا لموقف لا يحسدان عليه كاد ان يعرضهما للاعتقال لولا عناية الله ، لكنه اعتقل بعد ذلك في العام ١٩٨٧ مع كاظم لازم ، وحكم عليه بالسجن لعام ونصف، وهو غالبا ما يتحدث بالعربية الفصحى بتمكن الواثق مع ان الحديث بها يعد من الحالات الغريبة احيانا لكنه يصر على ذلك .
عانى من العوز كثيرا شانه شان الجميع في سنوات القحط كما اسلفت ،فكان احيانا وبصحبة كاظم لازم يبحث عن حلول آنية لليلته عن طريق الاصدقاء ، وتلك الحلول كانت شائعة حين يؤازر الجميع بعضهم البعض بسبب ذلك، وفي الكثير من الأحيان، تستعصي الامور لكنها تحل بطرق لا تخلو من الطرافة ، فمرة وهو على موعد مع المفكر الراحل عزيز السيد جاسم الذي تربطه به علاقة وثيقة، لكن السيد لم يأت على الموعد لاسباب يجهلها ، وفجاة وجدا الحل برؤية الشاعر حسين الحسيني وهو يجلس وحيداً والذي كان يذوب في النساء، وهو يلهج دائما( قل ماتشاء الا احاديث النساء )، تقدما من المائدة وبعد التحية ، بادره كاظم:
0ابو علي اكو سيدة جميلة سالت عليك.
وفي هذه اللحظة تفتق الكرم الحاتمي من قبل الحسيني ليعمر المائدة منتشيا للقاء مرتقب، وهو يحاول الحصول على عنوان السيدة المفترضة ، عندها اخبرا الحسيني بالعنوان:
-اول ما تنزل الجسر باتجاه العطيفية ، تدخل اول فرع على اليسار ، ثاني بيت بالفرع.
وبعد ثلاثة ايام عرف بان الحسيني يبحث عنهما وهو عصبي جدا بسبب المقلب الذي وضع فيه ، فلقد ذهب في الساعة الثانية فجرا الى العنوان واخذ يطرق الباب ، فخرج اليه احد الجيران ليخبره:
-اخي شجاي اتدك وقالق الناس ، هذا البيت مهجور صار سنتين.
فلم يهدأ الحسيني ، مما تسبب بحرمانه وكاظم من الوصول لذلك المشرب لاكثر من شهر ونصف ، ولعل هذا الموقف ومواقف اخرى من العوز، حفزت المشعل لتقديم كل مايستطيع لاصدقائه ومعارفه ، عندما تسلم رئاسة تحرير صحيفة الصباح .
( واعرف انك الخاسرالوحيد يا فلاح ).
هذا ما علق بذاكرتي حينما قرأ نصا في امسية شعرية اقيمت في قاعة عثمان الموصلي في معهد الفنون الجميلة للدراسة المسائية في العام ١٩٨٦ مع مجموعة من الاصدقاء ( علي منشد ونصيف الناصري وعماد الصباغ وانا معهم ) كان ايامها يعيش دوامة حب لم يستمر طويلا الا انه كان حافزا لكتابة الشعر الذي انجز فيه مجموعة شعرية قيد الصدور .
كنت عرفته في اواخر السبعينيات وتوطدت علاقتي به مع كاظم لازم ، وعرفني بالراحل الكبير المفكر عزيز السيد جاسم في حانة صغيرة تقع في شارع السعدون بالقرب من مسرح الستين كرسي وفرقة مسرح اليوم ، مع انني لم استغل فرصة التقرب من السيد جاسم للاسف الشديد وخسرت بذلك الكثير حتما.
وهو يتحدث عن الغد حالما كعادته ، كان كاظم لازم متيقنا باننا صباح الغد سنسمع البيان رقم ١ والذي سينهي دكتاتورية صدام حسين والدبابات تملأ الشوارع ، دخل علينا فلاح الى حانة القصر الفضي وجلس لكنه كان متعجلا وهو يدعو كاظم للمبيت معه في بيت اخته في منطقة المسبح ببغداد ، ثم التفت صوبي وهو يسال باللغة العربية الفصحى كما يتحدث عادة:
رحيم هل تطهو جيدا.
فاجبته وانا اضحك:
-صدك جذب غير اني طاهي درجة اولى.
ومع انني لا افقه شيئا في فن الطبخ الا انني وللطرفة كنت اقول بين الاصدقاء بانني مؤلف كتاب ( الطبيخ المسبوك فيما ياكله العامة والملوك ) .
كان البيت واسعا وحديثا ، ويختلف تماما عن البيوت التي نسكنها في المدينة والتي نحشر فيها الواحد فوق الاخر ، كنت وكاظم نشعر ببعض الثمالة عند مجيئنا معه ، وبعد بضعة كؤوس ، طلبا مني القيام لاعداد العشاء ، دخلت الطبخ الواسع المرتب ، وامسكت بإحدى المقالي الكبيرة ووضعتها على الموقد ، ثم اخرجت كيسا كبيرا من اللحم المفروم من البراد ، والقيته في المقلاة بعد ان وضعت السمن ، وفرمت عددا من رؤوس البصل واضفتها ، وبعد لحظات اضفت للمقلاة طبقة كاملة من البيض واضفت الماء ، وجلست اراقب الفقاعات وهي تخرج من المقلاة ، اطفات النار وقدمتها امامهم ، وتركتهم وذهبت لاغط بنوم عميق ، حين صحوت من النوم ، كانت عيونهم حمراء من السهر ووجهيهما مصفرين ، فلم يناما طوال الليل ، وهما يتقيئان حتى الصباح وهما يلعنان الساعة التي طلبا فيها مني ان اطهو ، وبعد مرور تلك السنوات ما زالت الحادثة عالقة في ذاكرة المشعل فقد علق على منشور لي بمناسبة العام الجديد :
رحومي الحبيب سأطهو لك أطيب أكلة في هذا العام بمناسبة سلامتنا .
انتمى المشعل في ايام شبابه الى فرقة المسرح العربي مع عباس الحربي وكاظم لازم الا انه لم يفلح باجادة التمثيل ولعلها مهنة تفوق امكانياته التي تصب في مجال اخر غير التمثيل ، فعمل بعد ذلك في الصحافة لسنوات عديدة وكتب كثيرا في النقد الموسيقي والمسرحي في مجلة الف باء والعديد من الصحف الاخرى والمجلات الفنية وابرزها جريدة الرأي الاردنية ومجلة الاسرة العصرية الاماراتية وصحيفة الزمان اللندنية ومجلة الموسيقى العربية الصادرة في القاهرة -معهد الموسيقى العربية ، مؤكدا قدرته على الكتابة في هذا المجال المهم ، فكتب عن العديد من الالحان والاغنيات ، واصدر كتابين متسلسين عن مجلة الاسرة العصرية وهما ( كاظم الساهر والاغنية العراقية و مراكب متنوعة من الغناء الخليجي ) وكذلك عشرات المقالات النقدية المسرحية في صحف الثورة والقادسية اضافة لعمله في مجلة الف باء ولاحقا في العديد الالكترونية كالحوار المتمدن وايلاف وروداو وغيرها من المواقع ، وبذلك اكتسب خبرات واسعة اهلته للعمل في صحيفة الصباح الناطقة باسم الحكومة العراقية بعد سقوط الدكتاتورية ، ثم ليتسلم رئاسة تحريرها لاحقا ، وتمكن من ادارة شؤونها ، كصحفي متميز واداري ناجح ، فشهدت الصحيفة ذروة نجاحها في تلك الفترة وارتفعت مبيعاتها بصورة كبيرة كما افاد لي أحد محرريها ، وقدم خدمات كبيرة للعديد من اصدقائه ، عبر تعيين العديد منهم ، باستحقاق او بدون استحقاق ، مع انني لم اغتنم تلك الفرصة الكبيرة حينما اخبرني صبيح عفوان بذلك وفضلت البقاء عاطلا ، ليس ذلك فحسب فقد كان المشعل سباقا في مواقفه معهم ومنهم الصديق جاسم لطيف الذي اخبرني باكثر من موقف مشرف وقفه معه المشعل في الكثير من المحن التي مر بها .
كتب الصديق كاظم الجماسي عموداً صحفياً بعد مشاهدته رئيساً لكتلة برلمانية فازت بالانتخابات عبر الشحن الطائفي وهو يصرح لوسائل الاعلام: فزنا فوزا ساحقا.
ولا اريد التحدث عن ذلك الفوز الذي كان ايذانا بالخراب الذي حل بالبلاد لاحقا ، لكنني اتحدث عن العمود الذي كتبه الجماسي في الصحيفة بعنوان ( فوز ساحق ) وفي صباح اليوم التالي بعث المشعل في طلب الجماسي وقال له وهو يخرج من درج مكتبه مبلغ الفي دولارا امريكيا ويسلمها له:
كاظم الجماعة منتظرينك بالباب ، مناه عالباب الخلفي وكبل على اربيل.
ولعل هذا الموقف يحسب بالاف المواقف للمشعل مع العديد من اصدقائه كما ذكرت ، وكذلك موقفه مع الصديق الشاعر احمد عبد الحسين الذي كتب عمودا عن حادثة سرقة مصرف الزوية المعروفة للجميع فقطع المشعل زيارته للقاهرة ، وعاد مسرعا للوقوف الى جانب احمد الذي كاد ان يغيب ويفقد حياته بسبب ذلك العمود المعنون ب ( ثمانمائة الف بطانية ) والذي يشير بوضوح لتورط السياسي العراقي عادل عبد المهدي بالحادثة وفق دلائلها وقت حدوثها .
المشعل وبعد صدور كتابه الاخير ( الخوف من التغيير في العام ٢٠١٤ وهو كتاب فكري سياسي اجتماعي يعد العدة الان لاصدار اكثر من اربعة كتب منجزة في الفكر والسياسة والفن ، اضافة لمجموعة شعرية ذكرتها سابقا.