شاكر السامر
وأصبح لموروثاتهم الفنية، تأثير واضح خصوصاً في النمط البغدادي، رؤىً في واقع وخيال الكثير من (الفنانين والفنانات ) الذين تلوهم في العقود الأخيرة من القرن الماضي ، وما زالت تلك التأثيرات طافحة على تقنيات وأساليب الفنان العراقي المعاصر ، مع تغيير طفيف في هيكلية الأفكار الفنية من خلال المزج بين الواقع والمتخيل .. ومن أجمل مَن جسد هذا التغيير، هي الفنانة السومرية العراقية الجميلة شكلاً ومضموناً ( شفاء هادي ) تغيير يستلهم ولا يمحى أو يلغى. لقد تأثرت الفنانة شفاء بمنهجية المدرسة البغدادية العريقة، تعبيراً حالماً وتجريداً شفيفاً ، ليس استنساخاً لهوية من سبقها، وإنما تكوين جديد ومجدد معاصر، ومن ينظر الى لوحاتها السومرية – البغدادية والتي أسمتها ( شذرات سومرية )، يجد كيف أنها استفادت مثلاً من حركة الجسد، التي أبدع فيها الفنان المرحوم ( جواد سليم ) وخصوصاً في شخوص ( نصب الحرية ) .ومن غريب الأمر بل أجمله، أن تحوّل تلك الحركة الجسدية النحتية لجواد، الى حركة جسدية رسمية لونية عند شفاء ، وهذا ما صوّرته الفنانة في أعمالها الأخيرة في لوحات كثيرة ومنها: ( جني المحصول والغلال ، بطالة ، السبي المطهّر ، فرحة الصياد ، شجن الناي ، إشراقة العمل ) ..
ومن بديع ما تألقت به، ليس فقط التماهي بين الواقع والخيال على مستوى واحد ، وإنما هو المزج أيضاً بين الماضي والحاضر وبين الوجه البغدادي والوجه السومري بشكل مدهش يثير رغبة التأمل، ومن يرى لوحاتها بإمعان حاد، تتضح له مدى البصمة الفطرية فيها بأسلوب عفوي جميل نابع من جذور الذات – الانثروبولوجيا – حيث علم الإنسان ودراسة القصص أي كل ما ينتجه الشعب البدائي الروحي المادي .. إذ خاضت الفنانة شفاء في هذا المجال، بحره المتلاطم بأمواجه، فخرجت الى سواحله بأبهى ماتملك من جمال روحي فني، وكأنها حورية البحر بسحرها الخرافي ..
* شفاء والتعبيرية التجريدية
وللفنانة المبدعة ( شفاء هادي ) تجارب ناجحة بأدواتها المتوفرة بين يديها وفق المدارس الفنية التعبيرية والتجريدية بنسبة معينة، بروح معاصرة غير جامدة، بل تجربة على مدى الرؤى والخيال ومساحة اللوحة على قماشها المألوف ..
وقد جربت كل ذلك بالألوان الزيتية والمائية الاكريلك وأقلام الخشب والحرق على خشب الزان، وما أكثرها إبداعاً لكثير من الشخوص الفنية والأدبية والرموز الإجتماعية ، وكذلك المعالم التراثية للبيئة العراقية بما تحمله من طابع تراثي وفولكلوري أصيل ، برغم صعوبتها واحتياجها الى قدرة خاصة وصبر وتأن فريدين تتمتع بهما الفنانة شفاء ..
* شفاء والمعارض
شاركت الفنانة شفاء قبل إقامة أي معرض لها في الكثير من المعارض المشتركة داخلياً في العراق، بعدة معارض ببغداد والمحافظات وبمناسبات مختلفة ، وكذلك شاركت في معارض أخرى خارج العراق، في امريكا وقطر ومصر … ونالت خلال تلك المعارض، شهادات تقدير وشكر عديدة ..
كما أقامت في ٢٠١٩/٨/١٩ معرضها الشخصي الأول ( بنات أفكاري ) برعاية وزارة الثقافة العراقية في قاعة الفنون التشكيلية ، وضم المعرض أكثر من (٤٥) لوحة، وكانت الثيمة التي اشتغلت عليها هي ( المرأة العراقية ) بمختلف مسمياتها الواقعية، وبأسلوب تعبيري جميل ، حظي باعجاب الجمهور ولقي ترحيباً واسعاً من المسؤولين والأوساط الشعبية والإعلامية ، وكتب عنها الكثير في الصحف مما جعلها رمزاً فنياً وطنياً وأيقونةً جمالية رائعة ..
* شفاء والإنتفاضة ..
لقد جسدت شفاء ببعض لوحاتها، أحداث انتفاضة تشرين ٢٠١٩ بلوحات عديدة مثل ( نريد وطن ، حادثة الوثبة .. وغيرها ) وفي لوحة تشرينية دونت شعارات ومطالب انتفاضة تشرين، لتؤكد هويتها وانحيازها الطبيعي العفوي لإرادة شعبها، وهذا بحد ذاته يؤكد أصالة روحها في مزاوجة تلقائية جمالية بين غايتين ( الفن للحياة – والفن للفن ) ..
* فنانة المرأة
تمتاز ( شفاء هادي ) بلغتها الفنية التحررية للمرأة توجهاً من واقعها المؤلم ، فبالرغم من تلمح آثار الحزن والتوجس من المجهول والمغيب في لوحاتها على وجوه شخوصها الأنثوية، إلّا أنها تؤكد رسالتها في ضرورة تحرير المرأة من ذلك الواقع الضاغط والمحبط والمؤلم لوجودها وإحساسها، بما يؤشر رغبتها في تحريرها من المعتقدات الإجتماعية السائدة والمحيطة بها قسراً وظلماً ..
إن إظهار جمال الجسد الأنثوي في لوحات شفاء، ليس الغرض منه الإغراء الجنسي – الفني ، بقدر ما هو كشف جمالي لعوالم وأسرار وخفايا المرأة ، وكأن كل لوحة تحمل قصة ذات طابع إجتماعي تفجر من خلالها مخزونها الإبداعي الأنثوي بصرخات روح ريشة أنثى تثير الدهشة وتوقظ في المتلقي ذائقة جمالية منحازة تلقائياً لإشعاعات الأنثى ، ولذلك، حين تفصح اللوحة عن مدى التشبث والتعلق الغريزي الروحي للمرأة بالحياة مع حبيبها الرجل من حيث ملابسها وقلائدها ووشمها وحرزها وطلاسمها وجزئيات بيئتها، فإنما تعكس صورة لواقع المرأة البسيط حد السذاجة، لتمنح هذه السذاجة طيبة نسوية شكلا وروحاً وسلوكاً، إضافة الى رمزيات ومدلولات أركولوجية (مستمد من علم الآثار والفنون القديمة ) .. وكل هذا في موضوعات وثيمات متكررة على مدى حياتها اليومية، مما شكل ذلك في حياة المرأة تراثاً عميقاً وشعبياً غمر مساحة واسعة من مجتمعنا العراقي ( الجنوبي السومري خصوصاً ) ، وما اظهار السمك والأسماك والبردي والبلم والنخيل في كثير من اللوحات، الّا دليل رمزي على التأصل الحضاري لروح شفاء عبر المرأة خصوصاً في أشكالها وأجسادها المتعددة في الحياة الجنوبية للوطن . إن هذا الإرتكاز على الموروث السومري لونياً والطابع التكويني لحركة المرأة جسدياً، أضفى على لوحاتها طابعاً مميزاً ومنحها بصمة لا يُكافئها أحد من فناني وفنانات جيلها الّا بنسب ضئيلة جداً، على الرغم مما تتمتع به زميلاتها، كل على طريقتها الخاصة من ألق الحضور والتباهي ..
كما وجدنا أن كثيراً من لوحاتها – عدا القليل منها – أن عيون المرأة أو الرجل مُسدلة الرموش مغمضة العيون ..ومن المؤكد أن هذا لم يكن عبثاً أو بدون قصدية رمزية من الفنانة شفاء، بل هي بصمة مضافة للوحتها، وحتماً إنها ترمز لمدى الحب الكامن في أعماق الروح والشغف العشقي الذي يعتري نفس العشاق ، والحرص الكبير على الإمساك وعدم التفريط به والحيلولة دون أن يفلت من عقال شرايين القلب وبالتعبير العراقي الدارج ( أضمك بعيوني ) ..
* طفولتها الفنية
تقول شفاء (إنها كانت في طفولتها تحاكي الرسم لتقليد بعض الفنانين الرواد ) ولكننا وجدنا أن ذلك التأثير قد تطور الى تأثير إيجابي، فالقراءة البصرية للوحاتهم قفزت منه الى التعبير التكويني الذاتي بخصوصية فنية دون اقتلاع جذورها الإيحائية من طينة وتربة منهجية أولئك الرواد .. فهي الآن لا تشبه نوري الراوي ولا جواد سليم ولا اسماعيل الترك أو حافظ الدروبي وخضير الشكرچي على الرغم من أننا نجد ملامح تلك الأسماء موزعة في ملامح لوحاتها خصوصاً وأنها تقوم بتدريس الفن لطالباتها في احدى الثانويات، وهذا مما زادها احتكاكاً في بيئتها الفنية، فهي تعالج المواقف الحياتية اليومية المستجدة ، وترصد ظواهرها بيئياً واجتماعياً لتلقيها على لوحتها ببلاغة ريشتها الرقيقة، ولكن بصيغة انعكاسات موروثة طرية غير جافة وخفيفة غير ثقيلة ، لأنها احترفت ما تود قوله في قصيدة على ما تبثه من مشاعر وأحاسيس على قماشها حركة ولوناً وتعبيراً. إن حبها للأدب عموماً والشعر خصوصاً( كما باحت لي ذات لقاء مرة في احد المعارض المشتركة ببغداد )، قد منحها شعوراً وحسّاً ناطقاً في تجسيد ما تراه وتشعر به على الشخوص التي تخطها في لوحاتها، حتى أصبحت تلك الأناسي تحاكيهم ويحاكونها، فتنبثق بعدها تفجيراً فنياً بصورة واقع وخيال.. هي تعالج الشكل بالحس والحس بالشكل برصد فريد يأخذنا لعالم ساحر مدهش ، وكأنها تقول شعراً في نص بصري جميل ..
* لوحاتها تزيّن الكتب
ولا بد من الإشارة الى أن لوحات الفنانة شفاء قد استهوت وجذبت بعض الأدباء، فقاموا بتزيين أغلفة إصداراتهم الأدبية بتلك اللوحات المعبرة عن متون ومضامين كتبهم مثل:( ميمون صالح في كتابه النصي: كُن موجة فقط / وشاكر السامر في روايته : صفحات الوداع / ورجب الشيخ في مجموعته النثرية : للأمس طعم الخلود) ..
* شفاء والشعر الغنائي
ولشفاء هادي شغف في استلهام الموروث الغنائي ( كونتوس هاراتيوس فلاكوس – Quintus Horatius Flaccus ) وتجسّد في لوحاتها ( گاعنه فضة وذهب واحنه شذرها ، مساؤكم فيروزي ، ماجينه يا ماجينه ، أنا وخلّي تسامرنا وحچينا ..)
* شفاء والمظاهر الإجتماعية والدينية والقصص الشعبية ( أنثروبولوجيا ) ..
ومن المظاهر الإجتماعية التي عكستها جماليا في لوحاتها( المرأة والمغزل ، الخياطة ، البائع الشعبي ، الصياد ، المرأة والقيثارة ، العود ، هويتي سومرية ، عازفة الكمان ، بائع الصحف ، بطالة ، فرحة الصياد ، عازف العود ، شجن الناي ، السبيُّ المُطهّر ، ذكريات لا تنسى ، جلسة مع الذات ، گعدة العصر ، .. وغيرها كثير ..)
* الأصول والدراسة والمستقبل
هي مواليد السبعينيات – ذي قار / العراق
حاصلة على شهادتي البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة – بغداد ، وكلية الإدارة والإقتصاد – بغداد
تربوية في تدريس الفن ..
وهي عضو في جمعية التشكيليين العراقيين ..
عضو في نقابة المعلمين – بغداد
عضو في نقابة الفنانين العراقيين
عضو في نقابة الصحفيين العرب
أعدها النقاد ( سمفونية تشكيلية ) وأطروا بها إعجاباً ودهشة .. وتعتز كثيراً بلقب الفنانة السومرية كتعبير عن اعتزازها بهويتها الوطنية العريقة في الحضارة والإبداع الإنساني ..
وليس لنا الآن إلّا أن نقول، إن الفنانة التشكيلية العراقية ( شفاء هادي ) مبدعة حقاً حيث تركت بصمتها الفنية الجمالية الخاصة وما زالت بماركة ( شفاء ) ، كرمز مهم في الحركة التشكيلية العراقية كأحد أبرز الفنانات المعاصرات المجتهدات على أعمال جديدة في الفن ، حتى غدت اليوم بجدارة فائقة تستحق الإعجاب والتقدير من الجميع .. إنها شفاء / شاعرة فن ولوحتها قصيدة .