غالبا ما اقرأ وينتابني القهر أثناء القراءة كأنني معنية تماماً بما يتضمنه أي مخطوط ، كيف أتعلم القراءة بموضوعية وبعيداً عن الانحياز المطلق للشخصيات داخله؟
كثيراً ما يرهقني تجاوز حدث أو مشهد وعبارة
لذلك أقلع عن القراءة لأسابيع بغرض التعافي من معضلة البحث عن ماضي النص والكاتب؟ …
هل النص حكاية خيالية؟
هل الشخصيات فعلت ما فعلته حقاً ؟
هل للنصوص التي تقع تحت يدي رسالة يترتب إيصالها بهذه الطريقة المجحفة بحق انفعالاتي ومشاعري وضوضائي الداخلية؟
ذاك وأكثر بعض ما اعتراني بعد نص السُكرة لسمير الشحف.
نص باستطاعتك البقاء منكباً عليه حتى تنهيه…
ليس للحدث التاريخي المضمن في النص ملامح واضحة بحيث تشغلك مهمة التدقيق في صحة ما كتب، إنما الأحداث التي تدور ضمن حبكة درامية مغالية بالبساطة في اكتشاف نوازع النفس البشرية التي تقود الى اكتشافات كبيرة قد تكون مصيرية.
اكتشافات تجعلك تدرك كم أنت مخطئ أو ساذج أو متلقن لا تجرؤ على الخطو باتجاه كسر حاجز الخوف داخلك والإمعان في خوض تجربتك الخاصة بمنأى عن المحيط والمركز والوسط، بعيداً عن قناعات الجماعة وابتكارات السياسة، والخطوات المعلبة في اسطوانات محكمة الإغلاق والوصد بغرض الإبقاء عليك في دائرة التردد.
إن رواية السُكرة تضعك أمام احتمالات غاية في الأهمية لاكتشاف ذاتك واكتشاف صفاتك النفسية الحقيقية بعيداً عن التزييف والتجميل، إنها عمل روائي قادر بشخصياته الماثلة أمامك كنماذج إنسانية على تعرية الصورة الضبابية التي تنظر بها نحو داخلك العميق.
تستطيع أن تلمس خطاطاً لديه من الوعي الكبير ليسلط الضوء على تابو الجسد الإنساني كمعضلة لا تحتاج إلى حل، فقط تحتاج إلى إدراك وفهم وتطلع حقيقي شفاف إلى الأفكار والرغبات المجازة إنسانياً وأخلاقياً، حتى دينياً.
إننا أمام اختبار للرجولة والأنوثة بالانطلاق من المجتمع الحاضن أولاً، ومن الثقافة والخبرة والوعي البشري ثانياً.
فقط عليك استجماع شجاعتك لتعرف أن الذكورة والأنوثة هما رأس مال حقيقي، استثمارهما قد يفتح لك أبواباً عميقة في داخلك السحيق.
تتطرق الرواية إلى فكرة الوطن والانتماء برؤى متعددة، ولكن أكثر ما لفت انتباهي هي فكرة أن الوطن الذي لا يمنح الحرية لأفراده لا يمكن لجيوش العالم أن تحميه أو تحافظ عليه كتركيبة متجانسة، الأوطان الحرة هي الأوطان التي تمنح أفرادها شعور الأمان دون الحاجة إلى مدرعات وجيوش واغتصاب لعقل الجماعة بأن حب الوطن هو في الانغماس في حمايته والتسارع للتضحية من أجله.
شخصيات جذابة أثارت حفيظتي وجعلتني اتعقبها بذكاء، لامست شعوري وأمسكت بي متحفزة، قدمها الكاتب بطريقة حرة وجريئة، محافظاً على المسافة بين الشخصية والمتلقي.
شخصيات على بساطتها، قائمة بحد ذاتها في مجتمع قروي بدائي متحفظ يدعي الانفتاح والديمقراطية والمدنيّة.
إن غاية العمل الروائي تقديم حكاية بطريقة إبداعية قائمة على تكثيف حدث حقيقي عن طريق الخيال الذي يثبت تفرد الراوي من خلال تحميل الشخصيات أجسادها الحكائية بأبعاد نفسية واجتماعية صادقة ومدروسة .
وهنا نحن أمام شخصيات صادقة قدمت نفسها باختلاف جوانبها بكل شفافية وجرأة دون اسفاف او جرح المتلقي عند الخوض بالجوانب المعتمة لها .
هذا ما دفعني لتصديق كل جزئية استناداً إلى الطرح الواقعي والجريء المتمكن للانتقالات النفسية للشخصيات ضمن مجتمع يحارب العفوية ويطمس الفطرة السليمة لتكريس مثالية كاذبة .
كل مرة اكتشف فيها مبدعاً تجمعني به جغرافيا المكان أشعر بالفخر بأن في هذه البقعة لا يولد إلا الحالمين والمبدعين والمتجددين.
السكرة نص هادف مترف بالثقافة والانعكاسات النفسية لشخصيات ستلمس قربها وواقعيتها وتواجدها قريبا منك.
السكرة لسمير الشحف رواية فائزة بجائزة المزرعة الأدبية صدرت العام ٢٠٠٩.
