قراءة انطباعية لكتاب ” رسائل الى أيلول ” لهدى جبار الغراوي
عبد السادة جبار*
من منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق صدر للقاصة “هدى جبار الغراوي” كتاب بعنوان: “رسائل إلى أيلول” وهو المؤلف السابع للكاتبة، إذ صدر لها عدد من المجموعات القصصية : كاريزما، قشعريرة، تشوهات، فقراء يتضورون قميصاً، مركز الدائرة جنوباً، إضافة إلى كتاب سيرة ذاتية بعنوان: “عكاز وأكثر من قدم”. يحمل ” رسائل الى أيلول ” تجنيس أدب الرسائل. يحتوي على (٤٦) رسالة يقع في (١٤٢) صفحة من الحجم المتوسط.
* انطباعات
صورة الغلاف لوحة كشفت عن محتوى الرسائل: شجرة خريفية تقف جذورها فوق الأرض وليس في الاعماق ، كأنها تعبّر عن مضمون تلك الرسائل التي غلب عليها الطابع السريالي والانطباعي والرمزي والشاعري أحياناً.
الإهداء: إلى أيلول
من هو أيلول؟ أهو الشهر، أم الحبيب، أم الرقم (٩)، أم الذات الخريفية؟
المدخل هو العتبة الأخرى الأكثر غموضاً: “أنا أعرف الهزائم كلها، حتى تلك التي تكون على شكل (نقطة) في نهاية العبارات.”
*وصف
إذن، نحن نطل على رسائل تحتاج إلى استعداد لتقبّل الألم، والشجن، والإحباطات. كل الرسائل تبدأ بعبارة: “عزيزي أيلول”، ولا تنتهي باسم المرسلة ولا بتاريخ محدّد، باستثناء الرسالة الأخيرة التي وُقّعت باسم ترقوة:
“عزيزي أيلول: لم يتبقَّ من انتظاري سوى أربعة أحرف
نقطة نقطة نقطة نقطة..
ترقوة ٢٣ أيلول ٢٠١٨ – الساعة الثانية ظهراً.”
لا يمكننا إحالة تلك الرسائل إلى الراوي أو المؤلف، إذ ثمة مرسل يشبه “السارد الداخلي” ترقوة، والمرسَل إليه مجهول أيلول. ولهذا لا يمكن اعتماد هذه الرسائل كوثائق تاريخية أو اعترافات للمؤلف، لأنها افتراضية في كل الأحوال. يغلب على تلك الرسائل الطابع السردي المشحون بالتخيّل والتوهّم. ورغم الإحساس بالمضامين الذاتية التي تنطوي عليها، فإن القارئ لا يستطيع أن يحيلها إلى وثائق حقيقية للكاتبة، كما نعرف عن الرسائل التي كتبها أو تبادلها بعض الأدباء والمفكرين. وربما يجد القارئ في تلك الرسائل بعضاً من ذاته. ليس ثمة تسلسل يربط الرسائل ببعضها، لا في تاريخ ولا في أحداث ولا في عناوين، أي أن القارئ يستطيع أن يختار منها أية رسالة على غير تعيين من دون أن يؤثر ذلك في مضمون الرسائل الأخرى..ولكن لايمكن ان يكون فكرة تامة عن الشخصية بدون ان يقراها جميعا ، اذ لا تشابه ولا تكرار في مضامينها كأن الرسائل كلها تجتمع لتشكل شخصية المرسلة.
* اللغة السردية
تمتلك هدى الغراوي لغة مميزة ؛ قدرة في التكثيف والاختزال، ودعم السرد بالإشارات والشاعرية غير المفتعلة. لكننا هنا أمام لغة تنطوي على أساليب متعددة: انطباعية، سريالية، تعبيرية، رمزية، وقليل جداً من الواقعية..واحيانا تلج عالما فيزيائيا لا نتوقعه. تصف مكانا محدّدا، ثم تنقلنا إلى كابوس، أو إلى حلم، أو إلى أفكار فلسفية، أو تحليل فيزيائي. مما يدفعنا للظن أن ترقوة ليست إنسانة طبيعية؛ يخامرنا الشك بأنها تكتب رسائلها من مصحّ. لكنها مع ذلك تكتب بلغة واعية صياغةً وإيقاعاً. وهذا ما يدفع القارئ إلى الظن بأن ترقوة ليست مجرد شخصية تعاني حالات نفسية، بل قد تتعمّد هذا الأسلوب للتعبير عن تلك الأعماق.
إذن، هي «رسائل متخيَّلة» أو «رسائل داخلية».
نصوص تستخدم شكل الرسالة، لكن غايتها ليست التوثيق أو مراسلة شخص بعينه، بل الكشف عن تجربة ذاتية أو حالة نفسية، بلغة أقرب إلى التداعي أو تيار الوعي.
* من الرسائل
حين تتصفح تلك الرسائل، تتوقف كثيراً عند مفارقات وتداعيات غريبة تدفعك للتفكير طويلاً:
“أتذكر قبل إحدى وعشرين سنة حين نسيت الطريق إلى البيت، التقيت بأبي صدفة، وبما أنه نسي أن يشتمني، مد يده إلى جيبه وناولني ديناراً واحداً وقال: ارجعي إلى البيت.” (الرسالة الثالثة – ص ١٧)
القارئ سيتأمل: (أتذكر.. حين نسيت.. صدفة..)
هذه العبارات تتزاحم للانتماء إلى هلوسات سريالية ، واخرى (الطريق.الاب .البيت) كانها رموز حميمية..
في الرسالة الخامسة نلمس عمقاً في التعبير يصف حدثاً واقعياً صغيراً بتفسير داخلي اعمق “لحظات، وإذا بذبابة تحطّ على أنفي. أمعنت النظر إليها حتى أحولت عيناي. قلت لها: مرحباً. فجأة فزعت من صوتي فطارت. عرفت حينها أن صوتي ربما يكون مزعجاً..”
وتستمر في وصف انتقالات الذبابة ، حتى تنتهي إلى:
“.. ودون أي مقدمات قالت: عليَّ أن أذهب الآن، وغادرت.”
أما في الرسالة التاسعة عشرة فتطرح سؤالاً على أيلول:
“لا أدرك لعبة الموت أو الجفاء معي. لا أدرك حقاً يا أيلول، أَنَحن تشوّهات خلقية في هذا العالم أم ماذا؟!”
(ص ٦٢)
هذا التساؤل قد يبدو طبيعياً في نهاية رسالة ملغومة بهلوسات، خوف وتردد وشكوك وذكريات قاسية عن المدرسة والمعلمين والتلاميذ.
في الرسالة السادسة والعشرين تقتحم ترقوة باب العلم والتفسيرات الفيزيائية :
“أتعلم أن رائحة المطر تنتج عن مخلوقات تشبه حبّة الفاصولياء بحجم أصغر، أحياناً كثيرة تكون عبارة عن خليط من عدة أشكال غير محددة تُسمّى (البكتريا).”
وتسترسل في الشرح لتدخل في تركيب رائحة الأرض والعطور، حتى انها توحي لنا كانها مدرسة لمادة علمية. لا أريد أن أمرّ على جميع الرسائل .لكن الرسالة الأربعين تضع ترقوة اصبعنا على بداية المتاهة او نهايتها :
“لقد طلبتُ منك مراراً ألا تتوسّل من أجلي. لا ترجُ السماء أن تنقذني من الوحدة. ولا تقل: أنا قلق عليكِ يا ترقوة. فحسب رأيك، أنا أعاني من اضطرابات نفسية.” (ص ١٢٢) كان هذا المقطع من الرسالة يفصح عن ذاتها عبر هذا الطلب..ويقربنا اكثر لنفهم هذه الشخصية
* خلاصة
في الواقع، هذه الرسائل التي ضمّها الكتاب لون خاص من أدب الرسائل لم أطلع على شبيهٍ له حسب اطلاعاتي المتواضعة . فهو يضعنا أمام حيرة: أهو سرد على شكل رسائل؟ أم تداعيات؟ أم أفكار خاصة تضعنا أمام تحليل لشخصية الكاتبة؟ أم أن الكاتبة تدفعنا للبحث عن ترقوة الكامنة في داخلنا، لعلّنا نضع أيدينا على المتجاهل أو المنسي أو المهمل في الأعماق؟!
*قاص وكاتب مسرحي









