” متى ينتهي صمتك ؟”
علي طعمــة
انتهى حديث هذا الصباح عن الابادة الجماعية لسكان غزة والانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان وحول الاخبار التي تناقلتها وكالات الانباء ،كان للحديث لون رمادي ممزوج بالغبار الذي ملأ النادي وراح يداعب الوجوه التي اتعبها حلم البارحة باشكاله وصوره المرعبة، امتد من المائدة التي أمامي حتى الباب الضيق المطل على ساحة المعهد ، خيط مطاطي يلتف حول عنق النخلة الوحيدة المتأملة على جادة الطريق، حتى اصبح الخيط الترابي كرة بحجم رأسي، بحجم المعهد، العالم، كانت خصلات شعرها تتناثر كسعف النخلة الوحيدة وسط هيجان العاصفة، عادة في مثل هذا الوقت قبل بداية الحصة الأولى تتناول افطارها المعتادة عليه، وبخطوات سريعة اتجهت صوب مائدتها – صباح الخير ..
تسلل الصوت المنزلق حتى الموائد الفارغة ثم الى الكراسي التي وضعت بشكل مقلوب توضيحا للاوجود، جلست امامها وهي تنظر الى قدح الشاي الفارغ، تململت في جلوسها، سحبت كراسها الصغير وطرحته جانبا متطلعة الى الجدار المنتصب خلفي، وبحثا عن حديث لقتل هذا الصمت قلت بعفوية:
_هل اتعبك الجدار؟ انتقلت عيناها من الجدار الى الكراسي والى قدح الشاي الفارغ، ومن غير شعور انفلت من بين شفاهي سؤال آخر :
_ هل اتعبك القدح الفارغ؟
وتفادياً للحرج، تظاهرت بالنظر الى الساعة التي في معصمي وبدأت افتعل حركات غريبة محاولا التقليل من حدة التوتر الذي انتابني ، واعلانا عن سخطي ازحت قدح الشاي الفارغ جانبا حتى تهشم فوق أرضية النادي الصلبة، وتعبيرا عن انفعالات لا جدوى منها حين يكون الصباح ارجوحة تتحرك في كل اتجاه وتحدث صوتا اشبه بموسيقى جنائزية، وبتجاهل فاضح خرجت من النادي متجهة صوب قاعة المحاضرة، بعد ان كان الاستاذ ينتظر قدوم الطلاب ، دخلت القاعة، اغلق الاستاذ الباب وبسرعة مذهلة نقلت خطاي وبطرقات خفيفة ومؤدبة فتح لي الاستاذ الباب، جلست بالقرب منها، بينما وقف الاستاذ الى جانب المنصة الهرمة يناقش ما تركناه البارحة:
_ هل عرفتم ما هي اخطر الحروب؟
ومن غير استئذان قال احد الطلاب:
_ الحرب الفكرية والثقافية..
وفجأة حمل الأستاذ خارطة الوطن العربي وسأل أحد الطلاب:
_ أين تقع نيويورك؟
ابتسم الطلاب جميعهم الا ان أحداً منهم آفاق صوتا يتناقض وجسمه النحيف بعد ان وقفت على المنصة قطة سوداء تحولت الى وحش شرس ثم الى نيويورك ملتصقة على الخارطة قرب قناة السويس شمال ليبيا، حاول الاستاذ طردها مرات عديدة لكنه لم يفلح، مضى وقت من الضوضاء والفوضى التي عمت القاعة، ومن غير شعور التفت اليها، رأيتها صامتة ،قلت في نفسي سيكون من الصعب أن افهم سر هذا الصمت الذي يشبه صمت الموتى في القبور، وبينما كان الاستاذ يرفع يده مشيرا الى الالتزام بالهدوء، ضرب المنصة بقوة وصاح علي بحزم:
_لماذا لا تصغي الي؟
_أريد أن افهم ما سر هذا الصمت…
_ماذا…تقصد؟
_ اقصد…صمت العرب..
وعند نهاية الحصة الأولى أحسست بأني بحاجة لإكمال الحديث معها رغم اني لا ادرك بعدُ سرَ صمتها الذي اثار دمي وايقظ ألم جسدي، وفي هذه اللحظات المتسارعة كدقات قلبي ليس أمامي سوى سؤال واحد:
_ هل ندخل النادي؟
انسحبنا من الساحة التي اثرنا الغبار فيها ، دخلنا النادي واسئلتي اللاهثة تمشي ورائي متسللا حتى الانزلاق من الصمت الذي يكشف عن الطعنات والآثار المحفورة في ذاكرتي ، تفضلي بالجلوس..
اصطدم صوتي بالجدار المنتصب أمامي عندما خرجت آخر الحروف المتبقية من حديثي الخجل المصحوب بالانفعالية المسالمة وانا أحدثها عن الوضع الأمني في البلاد، وعن القسم الداخلي وما يخبئ من قضايا لا تخطر على بال:
_الا ترين شريط الحياة أشبه بفلم سينمائي هش، أزمات تهز حاضرنا ومستقبلنا، ضحايا ،نزوح، تجويع، خوف، جموع تتراكض لا ماء لا غذاء لا دواء، متى ينتهي كل هذا؟
متى ينتهي صمتك؟
قالت من دون مبالاة:
_ نحن أصدقاء….
أصدقاء؟ هذا يعني انك ستبقين معي حتى اللحظات الأخيرة من سقوط أوراق الشجر وحتى يسقط المطر..وبانفعالات صبيانية تركتني وذهبت، حتى انطلقت من فمي التعب الكلمات التي لها معنى والتي ليس لها معنى، وها هو الهروب حتى المساء القاتم والقمر الكهل وتحت ظلمة بدايــــة هذا الليل الذي يتحول به رأسي إلى كتلة من خشب ملتصقة على السرير، أردت ان انبئها عن هرم هذا الليل الذي يتكئ، يسقط هنا وهناك خلف ابنية العالم واروقة المعهد الضيقة الطويلة، عن الطعنات الخارجة من خلف اشرعة الحياة ،عن خواء الليالي كلها، عن تعاسة اللغة التي تخسر دائما نعمة نشوئها، عن أخطائي التي تكبر معي، علي أن أقول ذلك غدا أو بعد غد.









