انسلّ الروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز من دنيانا مساء الخميس 17 أبريل الجاري بيُسرٍ شعريّ شبيه بشعرية كتاباته وسحرها. ماركيز، الحائز على جائزة نوبل للآداب 1982، استطاع عبر مجموعة من الروايات التي جابت آفاق العالَم أن يحرِّرَ الكتابةَ من مألوفاتها التخييلية ومن إكراهات نظريات الفن، وأن يشحنَ جملتَه السرديةَ بإيحاءات طُهرانية تتكئ على الواقع، وتغوص في تفاصيل معيشه لترتقي بحمولاته الاجتماعية والثقافية مراقي القداسة. ولعلّ هذا ما منح تلك الكتابات، على غرار روايته “مئة عام من العزلة” صفة الرَّسولية، حيث اعتُبرت من أهمّ ما كتب في تاريخ اللغة الإسبانية، ومثّلت في الأدب العالمي استعارةً متوهّجةً استشرت في المتخيل الكتابي شرقا وغربا وأثّرت في توجّهاته الفنية الكبرى. بل إن النظر في روايات ماركيز، ينبئ بكون هذا المبدع قد أعاد النضارة إلى كثير ممّا اهترأ من أشياء هذا الكون وبثّ المعنى في أغلب موجوداته؛ فألفاظ وعبارات مثل البحر والعزلة والقلق الإنساني والتوتّر اليومي والذكريات ومفارقات الحياة، كادت تفارق في النصّ المركيزي دَلالاتها المعجمية لتنال لها هوية معنوية جديدة تتفتّح فيها خزائن العجيب والغريب والمدهش أمام المتلقّي وتصيبه بخدر قرائيّ لذيذ هو من كتابات ماركيز علامتها المائزة.
اهم الاخبار
ثقافية
مقالات وشهادات في رحيل الكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز
- 19 أبريل, 2014
- 20 مشاهدة
الحقيقة – وكالات
مفيد نجم: الواقعية السحرية عربيا
لم يكن فوز غابرييل غارسيا ماركيز بجائزة نوبل العام 1982 عن رائعته( مئة عام من العزلة )حدثا عاديا كما يحدث في كل عام، بل كان مناسبة هامة لاكتشاف روائي من طراز خاص عمل على تدشين تحوّل مرحلة جديدة في تاريخ الرواية الواقعية، عندما استطاع بمهارة الصانع الحاذق أن يمزج الواقعي بالسحري والغرائبي بحيث يبدو كل منهما امتدادا للآخر وجزءا من نسيجه السردي والحكائي الذي يغتني به في عالم استطاع ماركيز أن يتمثل خصوصيته الثقافية والاجتماعية ويمنحها هذا الطابع الخاص من الدهشة والجمال والسحر الذي ترك أثره الكبير والواسع على مستوى الاهتمام العالمي بالرواية في تلك القارة المجهولة التي يتحدّر منها بصورة عامة، وعلى تجربته الروائية التي ستعززها إنجازاته اللاحقة في أعماله التالية خريف البطريرك وليس للكولونيل من يكاتبه والحب في زمن الكوليرا بصورة خاصة. لقد استطاع هذا الفوز أن يضع رواية أميركا اللاتينية وصاحب رواية مئة عام من العزلة في صدارة المشهد الروائي العالمي. لذلك كان من الطبيعي أن يجد فيها الروائيون العرب الذين يتحدّرون من ثقافة مشابهة، ومن واقع يماثل في قضاياه الاجتماعية والسياسية واقع تلك القارة ما يدفعهم إلى مراجعة اختياراتهم ومفاهيمهم حول الرواية الواقعية التي شكلت الرواية الغربية مرجعية أساسية لهم بدت محاولات اختراقها من خلال الاستعانة بالتراث السردي العربي القديم عاجزة عن تحقيق هذه الغاية المنشودة من قبل البعض من الروائيين العرب. لقد استطاع ماركيز عبر أعماله المدهشة أن يشكل إغراء مثيرا يدفع بهؤلاء بالعديد من الروائيين العرب إلى الالتفات إلى مناطق مجهولة من ثقافتهم وحياتهم، التي كانوا يعيشونها لاكتشافها ومحاولة تمثل ما تنطوي عليه من سحر وغرائبية لكنها رغم اجتهاد البعض في هذا الجانب، ظلت تلك الأعمال خاضعة لتأثير أعمال ماركيز بصورة واضحة دون أن تحاول تعميق وتطوير الإنجاز الكبير الذي حققته رواية الواقعية السحرية بصورة تستطيع الرواية العربية أن تبلور معه ملامح خاصة بها، تعكس وعيا جماليا نابعا من قدرة الروائي العربي على توطين هذا النهج السردي والحكائي، ومنحه هويته النابعة من خصوصية الواقع وجمالياته على الرغم من أن الواقع العربي يمتلك تراثا سرديا شفويا وكتابيا ثريا جدا. لاشك أن عبقرية ماركيز وموهبته الكبيرة هي التي ساهمت إلى حدّ كبير في جعل تلك الحكايات التي كان يستمع إليها من جدته عندما كان صغيرا في إثراء مخيلته السردية وفتح آفاق واسعة من الجمال والسحر أمامها، عرف بخبرة الصانع الحاذق كيف يطوّرها، ويرتقي بها إلى هذا المستوى العالي من السحر والدهشة والجمال. من هنا فإن محاولات الرواية العربية للاستفادة من الإنجازات السردية والحكائية عند ماركيز وروائيي أميركا اللاتينية الكبار الآخرين تحتاج إلى الانتقال من طور التأثير إلى طور الإبداع والإضافة. لكن ذلك لا يلغي ما أضافه هذا التأثير إلى رصيد الرواية العربية التي تحرّرت من هيمنة السرديات الغربية المطلقة عليها.
نصري حجاج: ماركيز الذي أحببنا
نقاد الأدب العرب كانوا يتداولون ما يكتبه نقاد العالم الغربي حول روايات ماركيز في ذلك الوقت، حين قرأنا ماركيز لأول مرة في السبعينيات، لم نكن نعلم يقينا بأننا نعيش في ظل بطاركة ديكتاتوريين ربما هم أبشع وأعنف ممن وصفهم ماركيز في كتبه كلها. كنا نعيش في وهم الأنظمة التقدمية والأنظمة الرجعية وكان يسارنا الفلسطيني والعربي قد أقنعنا ونحن في بدايات التعرف على الفكر اليساري أن الأنظمة التي تكشفت عن وحوش متعطشة لدماء شعبها هي أنظمة معادية للأمبريالية والصهيونية وعليه تكفي هذه الصفة وحدها كي لانرى طغيانها ووحشيتها ضدّ شعوبها. وهكذا صار وصف غابرييل غارسيا ماركيز للديكتاتور الأميركي اللاتيني يخص ذلك الجزء من العالم الثالث وحده وهكذا لم نتماه سوى مع الظلم والقهر الذي تعرضت له تلك الشعوب في تلك القارة وأحببنا ماركيز وسعينا إلى تلقف كلّ كتاب مترجم له وقراءته بنهم. وصار ماركيز شقيقنا في السعي إلى الخلاص والحرية. صار نقاد الأدب العرب يتداولون ما يكتبه نقاد العالم الغربي حول روايات ماركيز. ولقد اهتمت الدوائر الثقافية النقدية الغربية بإنتاج هذا الكاتب في سياق مرحلة كانت تشهد فيها دول أميركا اللاتينية سعي تلك الشعوب إلى الحرية من الديكتاتوريات والطغم العسكرية أو “الجونتا”. كما كان متداولا وقتها والمدعومة عادة من الولايات المتحدة الأميركية عبر أطراف محلية ومؤامرات كانت تصوغها وكالة المخابرات المركزية الأميركية ضدّ القوى المناهضة للطغم العسكرية الظالمة. ذلك في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين المهيمنين على مشهد القرن العشرين. برز لنا ماركيز في كتاباته كممثل عبقري لما يدور من صراعات أفقية بين شعوب مستعبدة وأنظمة فاسدة وقاتلة فأحببناه حُبا خارج صفة الكتابة ونظريات النقد الأدبي وخاصة لما كان يجمعه من صداقة حميمة مع فيديل كاسترو وثوريي تلك المرحلة في تلك البقعة من العالم وتعاطفه مع قضايا الشعوب المقهورة والفلسطينيين خاصة.
لكتابات ماركيز نكهة خاصة
وربما كان العالم جميعه بدأ في السبعينيات ينظر إلى أميركا اللاتينية بعين العطف على شعوبها للتخلص من الطغم الفاشية الحاكمة وبضرورة الانتقال إلى الحياة الديمقراطية المفقودة هناك وربما كان انقلاب العسكر بمساعدة وكالة المخابرات الأميركية ضدّ الحكومة الاشتراكية المنتخبة في تشيلي ومقتل رئيسها المنتخب سلفادور الليندي والعودة إلى الديكتاتورية العسكرية في ذلك البلد جرس إنذار لبداية مرحلة جديدة تعيشها أميركا اللاتينية صار فيها التغيير الديمقراطي ضرورة ملحة وخاصة تنامي وتعزيز نفوذ قساوسة لاهوت التحرّر في الكنيسة الكاثوليكية الذين وقفوا مع الطبقات المحرومة وناهضوا الأنظمة العسكرية الحاكمة المدعومة أميركيا. في هذا الجو العام صار لكتابات ماركيز نكهة خاصة وحظي الكاتب وكتاباته بأهمية قصوى على مستوى العالم. وربما في تلك اللحظة؛ أي في بداية ثمانينيات القرن الماضي صارت جائزة نوبل للآداب تتويجا لهذا التوجه ولهذه الأفكار التي بدأ العالم يحملها تجاه ما يجري في أميركا اللاتينية ففاز بها الكاتب الكولومبي 1982. كل هذا الوصف للمشهد العام كان جزءا مما تراه عيوننا، نحن الذين، ننظر إلى كل جزء مما يجري في العالم من حولنا كأنه أمر شخصي يهمنا كوننا نعيش صراعا قد يكون من أصعب الصراعات التي شهدها الكون. وهكذا أحببنا ماركيز وأحببنا كتبه ورواياته. ولكن روايته الصادرة في العام 1981 “وقائع موت معلن” والتي ترجمت إلى العربية بـ”قصة موت معلن” كانت نقطة تحوّل في تعزيز حبنا لهذا الكاتب الكولومبي. فقد قدم ماركيز شخصية “سانتياغو نصّار” ذي الأصول العربية والذي يُقتل على أيدي بيدرو وبابلو بيكاريو شقيقي أنخيلا ببكاريو التي كانت عشيقة سانتياغو نصار وهو من فضَّ بكارتها.
في هذه الرواية كانت تجربتنا الأولى في معرفة شخصية عربية إيجابية في رواية غير عربية يتعاطف معها كل من يقرأ الرواية لأن الكاتب قدَّم هذه الشخصية بشكل جمالي رائع يجبرك على التعاطف معها. ربما لم يتناول النقاد العرب بالتحليل تلك الشخصية العربية في رواية ماركيز على الرغم من أن العرب المشارقة قد عرفوا طريق الهجرة إلى أميركا اللاتينية منذ القرن التاسع عشر ونهاية القرن الذي سبقه خلال الحقبة العثمانية في بلادنا. لقد جعلنا ماركيز في تلك الرواية نقترب أكثر من عوالمه الإنسانية والأدبية حين لمسنا حبه لتلك الشخصية وصفا وتحليلا.
من خلال متابعتي لما كتبه ماركيز وللمقابلات التي أجريتها معه ما أزال أتذكر معلومة أدلى بها في إحدى مقابلاته الصحفية. فقد أمضى شطرا طويلا من حياته في المنفى بالمكسيك وأوروبا وفي منزله بالمكسيك. قال ماركيز في تلك المقابلة: “إنه منذ عاش هناك ضبط درجة حرارة الغرفة التي يكتب فيها بحسب درجة الحرارة في أراكاتكا ماجدلينا في كولومبيا حيث مسقط رأسه. حتى ولو كانت درجة الحرارة مرتفعة جدا أو منخفضة كثيرا فهو لم يكن يعمل إلا حسب أحوال الطقس في البلدة التي ولد فيها”. هذه المعلومة كانت دائما تتقاذفها ذاكرتي في منافيَّ التي عشت فيها وإن كنت لا أعرف قريتي الأصلية بفلسطين، إلا أنني كنت دائما أتوق إليها، وتعويضا عن هذا التوق كانت درجة الحرارة في مخيّم عين الحلوة هي مقارنتي الدائمة لدرجات الحرارة في المنافي البعيدة التي أعيش فيها.
هل تستطيع أن تسحر حمص
غياب الكاتب الكبير يحب أن يكون مدخلا للقراءة لا للعماء لو كان ماركيز ما يزال على قيد الكتابة إبان انطلاق الثورة السورية وقرر ان يكتب رواية بطريقة الواقعية السحرية ماذا كان سيكتب، وكيف كان سيستطيع أن يجر الشخصيات والوقائع والحوادث والمشاهد إلى السكن في بنية رمزية مسحورة، من دون أن يكون ذلك تقزيما للمشهد لا توسيعا له؟ إذا شاء ماركيز إلقاء نظرة سحرية على حمص المدمرة على سبيل المثال كيف كان سيراها بعدساته السحرية. كيف من الممكن للكاتب أن يسحر مدينة شبه مدمرة بالكامل؟ وماذا سيكتب عن لسان أبنائها وشهدائها وحجارتها ومعالمها وتاريخها؟.
لعبة الترميز السحري في هذا المقام ماذا ستقول وماذا ستخدم ؟ هل ستصب في مصلحة الجلاد أم ستنصف الضحايا؟ هل يمكن على سبيل المثال لناج من حمص أن يقرأ نصاً مكتوباً بطريقة الواقعية السحرية ويرى فيه وجوه أهله وأحبائه الذين رحلوا ومعالم ذاكرته المسحوقة تحت ركام البراميل المتفجرة؟ ماذا سيكون موقف الجلاد منه؟ هل سيعتبره خطرا عليه وإدانة له ام سيعتبره نوعا من الثرثرة التي يجتهد في إشاعتها لأنها كفيلة بخنق روح النقد والاحتجاج؟ عندما يشيح الكاتب بنظره عن الواقع ويراه غير كاف ولا بد من تعديله وتطويره وصولا إلى جعله سحريا، ألا يكون بشكل من الأشكال يرفض أن يراه. ثوب السحرية لا يترك للشخصيات والوقائع شيئا فهي تبدو إزاءه هزيلة هشة مفتقدة للرونق والجمال، فمن سينظر الى المرأة العادية حين تطل الأميرة المسحورة؟ غياب الكاتب الكبير يحب أن يكون مدخلا للقراءة لا للعماء. اعتقد أن من واجبنا لحظة رحيل ماركيز ان نحتج عليه، وان نحذّر من استعماله في سياقات لا تقع ضد الأدب فحسب ولكن ضد الإنسان الذي يمثل جوهر أي عمل أدبي عظيم. ربما تكون المأساة السورية حجة دامغة ضد الواقعية السحرية، لأن أي كاتب يغمض عينيه ليتخيل أمام فيضان هذا الهول الذي يكاد يكون عصيا على الالتقاط يساهم في بناء نظرية الجلاد التي تقول إن لا شيء يحدث هنا، وإن هناك جنة تختفي خلف الخراب لا يراها هؤلاء الذين ماتوا لأنهم أموات في الأساس. أمهات حمص الحقيقيات أجمل من الأميرات وأطفال سوريا أجمل من الملائكة. عزيزي السيد ماركيز هل تستطيع أن تسحر حمص؟
شادي علاء الدين
*سينمائي من فلسطين
شرف الدين ماجدولين: لن يرويها
بعد اليوم
لم تكن اللغة الأسبانية محتاجة لأمجاد منذ أمد بعيد، فهي لغة الرومانثيرو وحكي البيكاريسك الذي انحدرت منه تقاليد الرواية الحديثة، كان لغة مكتفية بشخص اسطوري اسمه “ميغيل دي ثيربانتس“، كتب تحفة خالدة عن الوجود الإنساني بتفاريع شتى، لهذا لا يمكن أن نفكر في الرواية ، كفن، وكقدر جمالي لعصرنا الحديث دون العودة لتفاصيل كلام “الكيخوطي” مع “صانشو بانصا”، كلام جعل الرواية حضنا عبقريا جديدا للحوار، الذي صادره المسرح، وجعله في صيغة أحادية مشهودة الآن وهنا، … جعل الحوار ملتبسا دوما بمعاني تتجدد بتجدد سياقات القراءة. من هنا أتفهم ذلك القدر الكبير من الترجمات التي تناولت هذا النص الآسر. وكأننا نعيد النظر مع كل زمن في فهمنا لجاذبية وعمق اللغة الأسبانية. لكن هذا المجد بات في عرف النقد مسألة تتعلق بالتقاليد، وبقواعد الجنس الروائي وإمكاناته النثرية، جنبا إلى جنب مع التحققات الفيلولوجية وتطور اللغة. بعبارة أخرى بات مجدا متحفيا، نزوره كما نزور اللوفر، لنتعرف ونكتشف عراقة انتهت. و أزعم أن زمنا طويلا مضى، بات فيه الأدب الأسباني على قدم المساواة مع هوامش أدبية عديدة، افتقد فيه لتلك الاستمرارية التي ضمنها روائيون استثنائون متواترون للأدب الروسي والأدب الفرنسي على سبيل المثال. وفجأة سيقود “غابرييل غارسيا ماركيز“ جوقة كاملة من التعابير الروائية التي ستلحق الرواية المكتوبة بالأسبانية بتراث “ميغيل دي ثيربانتس“. جوهرية عمله تتجلى في هذا السياق شبيهة بما أنجزته الكتابة الأفرو-أمريكية في الرواية الإنجليزية، أي أن تحيي لغة كلاسيكية على اختراقات مستلحقين بها، وتتعيد أمجادها عبر كتاب غير أصليين تاريخيا، شيء شبيه بما أحدثه روائيون وشعراء أكراد وأمازيغ، حين جددوا دهشتنا في قراءة الأدب العربي.