ثقافية

نسق التّعالق السرديّ

في قصص صلاح زنكَنه .. عتبة العنوان مثالاً

إخلاص كرجي  

تعدّ العنوانات عتبة بنائية في المتن النّصي الإبداعي, فيمكن أن تبوح بما يتضمّنه النّص من دلالات ومقاصد, أو أنّ الكاتب يسعى لتقديم فكرة مشفرة عبر صياغتها التي تتشكّل على وفق رؤية دقيقة وارتباطات مضمونيّة, فهي تعقد علاقة ابتدائية بين النّص والمتلقي, وتحقّق إشارة استدعائية وخطابا إغوائيا من أجل النفاذ إلى النص والتعرّف إلى أبعاده, ولصلاح زنكَنه رؤية دقيقة في تشكلات العناوين في مجموعته القصصية (المحنة والمواجع), إذ جعل من عناوينه سياقات موزاية للمتن السردي, فلها دلالات خاصة ومضامين ارتباطية وعلاقات عدّة, إذ يمزج أسلوبه السردي الموسوم بالواقعيّة والرّمزية، فيسعى لجعل العناوين مدخلا لفهم المحتوى العميق للنصوص في قصصه, فتعكس دلالات متنوّعة تخدم الخطاب وتوجه المتلقي نحوه، ومن ذلك أنّها تعزز البعد الإيحائي بالمأساة والمعاناة, فكثير من العناوين في المجموعة تحمل دلالات الحزن، الألم، والمأساة، مثل (مِحَنٌ , مواجع)، مما يشير إلى الأوضاع القاسية التي تعاني منها الشخصيات. بالإضافة الى الواقعية الاجتماعية, إذ تستخدم بعض العناوين لغة مباشرة لتعكس هموم المجتمع العراقي، فتشير إلى الفقر، الحروب، الاضطرابات السياسية، والمعاناة اليومية بإضفاء الرمزية والتلميح, يعتمد زنكَنه على عناوين تحمل أكثر من معنى، قد يرمز العنوان إلى تجربة شخصية أو جماعية، وقد يحمل بُعدًا فلسفيّا أو تاريخيًا, والأهم من ذلك هو البعد النفسي الذي تعكسه بعض العناوين, فهي تجعل المتلقي يمسك بمعاني الاضطرابات النفسيّة والشعورية، مثل الوحدة، القهر، والألم الذي تعانيه النّفس, فيلازم دلالات السّرد الذي يجسّد الواقع الذي تعيشه الشخصيات في ظل واقع مضطرب.

  يحمل عنوان في قصص صلاح زنكَنه تنوّعاً دلاليّاً يعضّد معاني السّرد, ويوجّه الخطاب بدلالات رمزيّة عدّة تسهم بالكشف عن مضامين تتعالق والنّص وتضيف إليه إضاءات جديدة، فعنوان (عطر امرأة ما) يجمع بين العطر والمرأة، وهما عنصران يوحيان بالإحساس والجمال والذكريات, ويمكن تحليل العنوان من زوايا عدّة تلازم الدلالة العامة وخطابها السردي, فالعطر رمز للهوية والذاكرة غالبًا ما يرتبط بذات المرأة، فالعطر رمز تقليدي لأنوثتها، وهو يحمل حضورها حتى في غيابها, كما أنّ  توظيف (امرأة ما), يوحي بعدم التّحديد لدلالة على عمومية التعيين الذاتي؛ مما يضفي نسقية الغموض والعمومية، وكأن المرأة هنا ليست فردًا معينًا، بل تمثل كلّ النساء, ولذلك نجد أنّ البطل يشير صراحة إلى ذلك: (( لقد أحسست بالهزيمة والاندحار كقائد عسكري يخسر آخر معركة يخوضها, وبقيت النّهار كلّه حزيناً أفكر بهذه المرأة العاتكه وعطرها الفوّاه)), لأنّ العطر يحدد دلالة الحضور المعلن بمعان التّعريف بالذات.

وكذلك يشير العنوان (محنة ومواجع) إلى الألم العاطفي والاضطراب النفسي الذي يمر به السارد، حيث يجسد الإحساس بالهزيمة والانكسار كما لو كان قائدًا عسكريًا يخسر معركته الأخيرة, هذه الاستعارة تكشف عن عمق المعاناة التي يشعر بها البطل، والتي ربما تكون نتيجة خيبة أمل عاطفية أو تجربة فقدان, أما المّرأة التي يصفها بـ (العاتكة, وعطرها بـ (الفوّاح)، فهي تبدو شخصية محورية في القصة، تترك أثرًا عميقًا في وجدان السارد, العطر هنا قد يكون رمزًا للذكريات العالقة أو الشوق المستمر لشخص أصبح بعيدًا. وربما تكون هذه المرأة جزءًا من تجربة حب ضائع أو علاقة انتهت بخيبة أمل, ولو وقفنا عند عنوان (الحياة حلوة) فسنجد أنّه يحمل دلالة متناقضة تجمع بين الألم والأمل, فهو يشير إلى أنّ الحياة مليئة بالمعاناة والمحن، لكنّها في النهاية تحمل جوانب جميلة تجعلها تستحقّ العيش, فيصف المشهد الذي عاينه بدقة: (( جلس عجوزان على مصطبة خشبية تحت مظلة انتظار الحافلة، كل منهما يحمل سمات زمنه—الرجل الوقور ذو الاعتداد بالنفس، والمرأة التي لا تزال تحتفظ بآثار جمالها رغم مرور الزمن. نظراتهما الضائعة في الأفق وعدم اكتراثهما بالمارة يضفيان إحساسًا بالعزلة الداخلية، كأنهما يعيشان في عالم خاص بهما, ربما محملًا بالذكريات والتجارب التي صنعت حكايتهما)), فقد يكون العنوان إشارة إلى أنّ الشخصيات في القصة عاشت حكايات مليئة بالمحن والمواجع، لكنهما على الرّغم من ذلك، يظلان شاهدين على أنّ للحياة طعمًا آخر، ربما في الذكريات، وربما في مجرد الاستمرار والتأمل في هذا العالم المتغير.

 كما يرتبط العنوان بالدلالة الوصفية, كما حدث في حديث العجوز (( إنّ الحياة رغم أنها غادرتنا ولم يبقى منها سوى الثمالة ولكن لنعيشها)), فهذه العبارة تعكس الفلسفة العميقة التي تتجلى في قصص صلاح زنكَنه، إذ ينظر إلى الحياة من زاوية تجمع بين الحنين والواقعية، لكنها في الوقت نفسه تحث على الاستمرار والتّمسك بلحظاتها المتبقية, العجوز في هذه القصة ربما تمثل الحكمة المستمدة من التجربة، فهي تعترف بأنّ الحياة لم تعد كما كانت، لكنّها لا تزال تستحق أن تُعاش، ولو حتى بما تبقى منها.

 ويلاحظ في قصة (الماضي), أنّ العنوان يحمل دلالة قوية تعكس جوهر النص، حيث يرمز إلى الزمن الذي تركه البطل خلفه، لكنه يعود ليجده مختلفًا تمامًا عمّا كان يتذكره. هذه الدلالة تتضح من خلال التغيرات التي يلاحظها في المكان والناس، مما يعمّق شعوره بالغربة والوحدة وتأثير الزمن, العنوان يشير أيضا إلى أن الماضي ليس مجرد ذكريات، بل هو كيان حيّ يؤثر على الحاضر والمستقبل، إذ يواجه البطل صدمة التغيرات التي لم يكن مستعدًا لها. المكان أيضا يمثل رمزا  مهما. فالبيت القديم الآيل للسقوط يمثل رمزيًا الذكريات التي لم تعد كما كانت، والأثر الذي يتركه الزمن على كل شيء, الحنين والعودة إلى الماضي تجلب مشاعر مختلطة من المأساة والألم، فالبطل يواجه وجهاً من الماضي يحمل آثار الزمن، لكنّه في النّهاية ينهار في أحضان تلك الذكرى الحية، في مشهد يجسد الارتباط العاطفي العميق على الرّغم التحولات. واشارة اخيرة للموت والقدر في الصورة الأخيرة حيث تحتضنه المرأة كما لو كان في (القبر) تعكس فكرة الاستسلام للماضي، وربما دلالة على أنّ العودة إليه قد تعني النّهاية أو الذوبان فيه. العنوان إذًا ليس مجرد إشارة زمنية، بل هو مفتاح لفهم رحلة البطل النفسيّة وما يواجهه من مشاعر الحنين، الاغتراب، والأسى.

   كما يحيلنا عنوان (الوحشة) على دلالات تلازم مضمون القصة وخطابها السردي، فيمكن  فهمه على مستويات خطابية متنوّعة تعلن البعد القصدي الذي يسعى لإثباته في ذهن المتلقي وتجسيد الواقع بالنسبة لمن له رؤية تختلف عن السائد, فهو في وحشة دائمة إذ لم يجد أفقا يتمفصل على مدركاته ومفاهيمه, فالوحشة تشير إلى الشعور بالوحدة والعزلة، وهو البُعد الذي يعكس حالة الشّخصيتين في القصة: الرّجل الأعمى وهو يستشعر الوحدة، والمرأة التي تعيش وحيدة في بيتها, فالعنوان يهيء للقارئ حالة من الغموض والاغتراب الذي تعايشه الشخصيات, فهو يرتبط بالمكان الجديد الذي يتعثّر فيه ذلك الرجل فيرمز إلى الضياع أو المجهول، بينما يبرز صوت المرأة فيخبره أنّه في بيتها, ليكون رمزًا للإرشاد أو الفخ, ولذلك صار يفيد من دلالات نضج بها القصّة فتطرد عنه شعور الوحشة, فيده التي تلمس يدها النّاعمة تعكس تجربة حسية جديدة أو وهماً بالدفء والحميمية، مما يجعل الوحشة شعورًا مزدوجًا بين الرغبة في التواصل والخوف من المجهول, وهكذا فالقصة تفتح باب التأويل حول العلاقات الإنسانية بين العزلة والاحتياج، خصوصًا أن الرجل، على الرغم فقدانه البصر، إذ يجد في وجود المرأة شيئًا مريحًا لكنه في الوقت نفسه غير مألوف, لذا صار حدث المواجهة لحظة إدراك الرجل الأعمى أن الفتاة التي ملأت قلبه بالسّعادة فيفهم أنها تشاركه حالة الوحشة, فهو يعيش في الظلام، وهي عمياء أيضًا يجعله يواجه حقيقة لم يكن مستعدًا لها, وهذه اللحظة لحظة صدمة، لكنها تحمل أيضًا معنى أعمق، وهو أن الحب والسعادة لا يحتاجان إلى البصر، بل إلى الإحساس والتواصل الحقيقي بين الأرواح, بناءً على ذلك، فإن العنوان يعكس جوهر القصص وخطابها السّردي، حيث يستعد القارئ للدّخول إلى عالم مليء بالتّجارب المؤلمة التي تحمل أبعادًا إنسانيّة واجتماعيّة ويرى نفسه انعكاسا لها, وتشويق القارئ من خلال العنوان الذي يثير فضول المتلقي؛ لمعرفة طبيعة المحن والمواجع التي تتناولها القصص؛ مما يجذب الانتباه إلى المحتوى الدرامي لتلك القصص.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان