ـــ الجزء الثاني ــ
ونحن نتذكّر إلى اليوم روح التضامن العالية التي أظهرها العرب عموماً، والعراقيون مثلاً، مع التشيليين إثر الانقلاب العسكري الفاشي الذي أطاح بحكومة الاشتراكي سلفادور الليندي عام 1973 وأدى إلى مصرع عدد من المثقفين والفنانين ومنهم المغني فيكتور جارا ومن ثمة الشاعر الكبير بابلو نيرودا. وكنّا نشعر بألم وحزن شديدين كما لو أننا فقدنا أحبتنا وأقرب الناس إلى نفوسنا؛ ومازالت آثار هذه الصدمة ماثلة إلى اليوم في ضمائر من عاصر تلك الأحداث. وكنّا نشعر بالتعاطف أيضاً مع المعلمين والموظفين الألمان الغربيين الذين كانوا يطردون من وظائفهم بسبب انتمائهم إلى الحزب الشيوعي الألماني. لكن مطالبة المثقف باتخاذ مواقف سياسية مبدئية ومواجهة الحكّام الطغاة، عرباً أو غيرهم، إلى جانب عمله الإبداعي ليس بقضية بديهية، ولا يرى فيها بعض المثقفين إلزاماً أخلاقياً. بدأ الأديب الألماني البارز غونتر غراس، الحائز على جائزة نوبل، كتابة سيرته الذاتية بكتابه الذي أثار جدلاً كبيراً في عام 2006، ويحمل عنوان “عند تقشير البصل”. في هذا الجزء الأول من سيرته تحدث الروائي عن تطوعه وهو صبي في الجيش النازي والتحاقه بفرقة من أشد الفرق النازية دموية ووحشية، وهي فرقة الإس إس. أثار هذا الكتاب عاصفة سياسية في وجه الكاتب لأنه صمت طيلة هذه السنوات عن ماضيه النازي، ولأنه كان يدعو قدامى النازيين دوماً إلى الاعتراف بأخطاء الماضي وتحمل المسؤولية. صمت غراس بعد “تقشير البصل” سنوات، ثم واصل كتابة سيرته الذاتية بجزء ثان كان عنوانه “الصندوق”. وذات مرّة سألتُ الشاعر العربي أدونيس عن السبب الذي دعاه إلى اختيار مقتطفات من أقوال وفتاوى مَن أسماه بالشيخ الإمام محمّد بن عبد الوهّاب مؤسس المذهب الوهابي المتعصّب والمتخلف فكريّاً، وجعله في مصاف رجال النهضة، ووضع له مقدمة إضافية. فأجاب ببساطة مذهلة بأنّ المثقف العربي لم يكن يوماً سوى موظّف في الدولة العربية الإسلامية، وذلك منذ أوّل انقلاب عسكري في تاريخ المنطقة، ألا وهو انقلاب سقيفة بني ساعدة (حين تمت مبايعة أول الخلفاء الراشدين بعد موت النبي محمد). وأضاف أدونيس بأنّ هذا الوضع لن يتغيّر مستقبلاً أيضاً طالما بقي الحاكم نفسه. وقد يكون السيّد أدونيس محقّاً إلى حدّ بعيد في هذا الرأي. لكننا نعلم أيضاً بأنّ هناك الكثير من المثقفين العرب والمسلمين الذين قاوموا السلاطين والظالمين على مرّ العصور ودفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم. ثمّ إنّ هذا العالم سيكون تعيساً وهزيلاً أخلاقياً لولا هذه التضحيات الجسيمة والمواقف الشجاعة التي اتخذها المثقفون والفنانون على مرّ العصور. ولا بأس أن نستشهد بالجواهري الذي قال في قصيدة عن أبي العلاء المعرّي “لثورة الفكرِ تأريخٌ يحدّثنا / بأنَّ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا”. ولا يقتصر انعدام روح التضامن على العرب وحدهم، بل يشمل جميع الثقافات التي نعرفها، وينطبق هذا على المثقفين الألمان بدرجة خاصة، لأنهم شهدوا تجربة غنية ومليئة بالعنف والقمع والمقاومة. بيد أنّ هناك من حوّل هذا الماضي المرير إلى منفعة شخصية فردية، مستغلاً التاريخ والسياسة وأحزابها وحرية النشر ودورها. وكشف الكاتب الشهير غونتر غراس على سبيل المثال عن ماضيه النازي وانخراطه في كتائب القتل الهتلرية المعروفة باسم سلاح “إس إس” Waffen SS السيئة الصيت، وذلك بعد استلامه جائزة نوبل للآداب وليس قبلها. وكان غراس قد ملأ ألمانيا ضجيجاً فيما يتعلق بالتصدي للنازية الجديدة وتوفير الحماية للاجئين في البلاد، لكنه أخفى هذه الحقيقة التاريخية المهمة، فأحدث شرخاً أخلاقياً في الوسط الثقافي وكذلك في صفوف اليسار الألماني. وشعرتُ بندم شديد لأنني ترجمت أحد أعماله المهمة إلى اللغة العربية وهو “طبل الصفيح”. وكانت عبارته المخادعة بأنّ الأدب يمدّ الجسور إلى الآخرين ويربط الشعوب بعضها ببعض فيجعلنا نشعر بعاطفة جياشة إزاء الآخرين قد أوقعت بي أنا العربي الذي مازال غرّاً ويؤمن بأهمية المروءة والإخلاص والتضامن مع الضحايا. وبما أنّ غراس أخفى هذه الحقيقة، وربما حقائق غيرها، عديدة عقوداً طويلة حتى حصوله على جائزة نوبل فإنه فقد بذلك الكثير من مصداقيته وإنسانيته.
لكنني أودّ الحديث هنا عن زيارة غراس ونخبة من المثقفين الألمان إلى اليمن في عهد الدكتاتور علي عبد الله صالح، حيث أنفق حزبه الحاكم على المثقفين الألمان ومنهم فولكر بروان ودورس غرونباين وهانس ماغنوس إنسنسبيرغر ويوأخيم سارتوريوس وميشائيل كروغر وغيرهم مئات الآلاف من الدولارات. فقدم هؤلاء الكتّاب تزكية لحاكم عربي مستبد لقاء رشوة مالية مسمومة، وفعلوا ذلك بغرور وعجرفة أوروبيين يثير الاشمئزاز والغثيان.