ملف خاص

"داعش".. تنظيم أم دولة أم شرذمة شذاذ ومهووسين!

الجزء الأخير

 

الكاتب- مجهول* 

 

ترجمة- علاء الدين أبو زينة

 

تعززت قوة “داعش” الآن أيضاً بالترسانة المذهلة من الأسلحة التي استولت عليها الحركة من الجيشين العراقي والسوري الهاربين -بما فيها الدبابات، وعربات الهامفي، وقطع المدفعية الكبيرة. وقد بينت التقارير التي نشرتها كل من “النيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال”، و”رويترز” و”فايس نيوز” على مدى الاثني عشر شهراً الماضية أن الكثير من السنة العراقيين والسوريين يشعرون الآن بأن “داعش” هو الضامن الوحيد المعقول للنظام والأمن في الحرب الأهلية، وأن هذه الحركة تشكل دفاعهم الوحيد ضد الانتقام الوحشي من حكومتي دمشق وبغداد.

لكن الدليل هنا مربك ومتعارض أيضاً. ففي فيلمها الوثائقي الذي أعدته لمحطة “بي بي سي” عن الموصل، تتصور يالدا حكيم أن الوحشية الهائلة هي كلمة السر في هيمنة “داعش”. ومع ذلك، وفي كتابه “الخلافة الرقمية”، يصف عبد الباري عطوان (بكلمات ماليس روثفن) “منظمة مدارة جيداً، والتي تجمع بين الكفاءة البيروقراطية والخبرة العسكرية، مع الاستخدام المتطور لتكنولوجيا المعلومات” (2). ويتحدث زيد العلي في سرده الممتاز عن تكريت، عن “عدم قدرة (داعش) على الحكم”، والانهيار الكامل لإمدادات الكهرباء، والماء، والمدارس، وبالتالي أحوال السكان الذين يعيشون تحت حكم المجموعة في نهاية المطاف” (3). وتبقى “التفسيرات” التي تشير إلى موارد الحركة وسلطتها تدور في دائرة في النهاية. والحقيقة هي أن قدرة الحركة على استقطاب الدعم الواضح، أو القبول لدى السكان المحليين، وأن تسيطر على الأرض، والإيرادات الحكومية المحلية، والنفط، والمواقع التاريخية، والقواعد العسكرية، كانت نتيجة لنجاح الحركة في احتكار التمرد وليست سبباً له.

 

في كتابهما “الدولة الإسلامية في العراق وسورية: دولة الإرهاب”، يقدم ستيرن وبيرغر تحليلاً رائعاً لاستخدام الحركة أشرطة الفيديو ووسائل الإعلام الاجتماعية. وقد تعقبا حسابات “تويتر” الفردية، وبينا كيف دأب أصحابها على تغيير أسماء المستخدم الخاصة بهم، واستغلال مناسبة كأس العالم لإدراج صورهم لقطع الرؤوس في الدردشات حول كرة القدم، وتمكنوا من ابتكار تطبيقات جديدة وأتموا عملية النشر الآلي من أجل تكثير أعدادهم. وبيّن ستيرن وبيرغر أن ما لا يقل عن 45.000 حساب مؤيدة للحركة كانت موجودة على شبكة الإنترنت في أواخر العام 2014، ويصفا كيف حاول المستخدمون التحايل على مديري “تويتر” عن طريق تغيير صورة الملف الشخصي من أعلام “داعش” إلى صور القطط. لكن ذلك يطرح ببساطة ذلك السؤال الأكثر جوهرية عن السبب في أن إيديولوجية الحركة وتصرفاتها -مهما كان مستوى البراعة في إنتاجها وتوصيلها- استطاعت أن تحظى بالقبول الشعبي في المقام الأول.

كما لم تكن هناك أي تفسيرات أكثر إرضاء أيضاً لماهية الشيء الذي يجتذب 20.000 مقاتل أجنبي ممن انضموا إلى الحركة. في البداية، ألقي باللوم في العدد الكبير الذي جاء من بريطانيا على عدم بذل الحكومة البريطانية الجهد الكافي لاستيعاب المجتمعات المهاجرة؛ ثم ألقي اللوم في حالة فرنسا على ضغط الحكومة الفرنسية ودفعها القوي من أجل استيعاب ودمج المهاجرين. لكنه بدا في الحقيقة أن هؤلاء المقاتلين الأجانب قد نبتوا من كل نظام سياسي أو اقتصادي يمكن تصوره. جاؤوا من دول فقيرة جداً (اليمن وأفغانستان)، ومن أغنى الدول على وجه الأرض (النرويج وقطر). وينبغي أن يعترف المحللون الذين قالوا إن المقاتلين الأجانب هم صنيعة الاستبعاد الاجتماعي، أو الفقر، أو عدم المساواة، بأن هؤلاء المقاتلين يظهرون بالكثرة نفسها من الديمقراطيات الاجتماعية في المنطقة الاسكندنافية، بقدر ما يظهرون من الملَكيات (الآلاف من المغرب)، والدول العسكرية (مصر) والديمقراطيات الاستبدادية (تركيا)، والديمقراطيات الليبرالية (كندا). ولم يبد مهماً ما إذا كانت حكومة ما قد حررت الآلاف من الإسلامويين (العراق)، أو أودعتهم السجون (مصر)؛ ما إذا كانت الحكومة المعنية قد رفضت السماح لحزب إسلامي بكسب انتخابات (الجزائر) أو سمحت بانتخاب حزب إسلامي. ومع ذلك، فإن تونس، التي خبرت عملية الانتقال الأكثر نجاحاً من الربيع العربي إلى حكومة إسلامية منتخبة، أنتجت من المقاتلين الأجانب أكثر من أي بلد آخر على الإطلاق.

لم يكن الارتفاع الكبير في أعداد المقاتلين الأجانب أيضاً مدفوعاً بتغير أخير في السياسات العراقية الداخلية، أو في الإسلام نفسه. لا شيء جوهريا تحوّل وتغير في خلفية الثقافة أو المعتقد الديني بين العام 2012، عندما لم يكن هناك أحد من هؤلاء المقاتلين الأجانب في العراق تقريباً، وبين العام 2014، عندما أصبح هناك 20.000 منهم. كان التغيير الوحيد هو أنها أصبحت هناك فجأة منطقة من الأرض متوفرة لاستقطاب هؤلاء المقاتلين وإيوائهم. ولو أن الحركة لم تسيطر على الرقة والموصل، فإنه يحتمل كثيراً أن يكون عدد كبير من هؤلاء الرجال قد واصلوا حياتهم ببساطة هناك حيث كانوا، مع معايشة درجات متفاوتة من الضغط -كما يفعل مزارعو الألبان في نورماندي، أو موظفو المجلس في كارديف. وهكذا، نجد أنفسنا متروكين مرة أخرى مع الحشو وتكرار الشي نفسه: إن “داعش” موجود لأنه يستطيع أن يكون موجوداً -وهؤلاء المقاتلون الأجانب هناك لأنهم هناك.

أخيراً، قبل عام من الآن، بدا من المعقول أن نعلق الكثير من اللوم عن صعود الحركة على إدارة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الكارثية للعراق. لكن ذلك لم يعد ممكناً الآن. فخلال العام الماضي، تم تعيين زعيم جديد أكثر إيجابية واعتدالاً وشمولية، حيدر العبادي، رئيساً للوزراء؛ وأعيدت هيكلة الجيش العراقي تحت إدارة وزير دفاع سني جديد؛ وتم استبعاد الجنرالات القدامى؛ وتنافست الحكومات الأجنبية على تقديم المعدات والتدريب للجيش العراقي. وظهر نحو ثلاثة آلاف من المستشارين والمدربين الأميركيين في العراق. وقدمت كل من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة وآخرين ضربات جوية هائلة ومراقبة مفصلة. وانضمت قوة القدس الإيرانية، ودول الخليج، والبشميرغة الكردية إلى القتال على الأرض.

لكل ذلك، كان من المتوقع أن تُرد الحركة على أعقابها وأن تخسر الموصل في العام 2015. وبدلاً من ذلك، تمكنت الحركة في أيار (مايو) من الاستيلاء على تدمر في سورية -وبالتزامن تقريباً- على الرمادي، على بعد ثلاثمائة ميل في العراق. وفي الرمادي، تمكن ثلاثمائة من مقاتلي “داعش” من طرد آلاف الجنود العراقيين المدربين والمجهزين جيداً بالعدة والعتاد الثقيل. ولاحظ وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر:

 

“لقد أظهرت القوات العراقية فقط عدم وجود إرادة القتال. لم يكن هناك تفوق عليهم في العدد. في الحقيقة، كانت أعدادهم تفوق القوات المعارضة بكثير، ومع ذلك فشلوا في القتال”.

الآن، تسيطر الحركة على “دولة إرهابية” أكثر اتساعاً وأكثر تطوراً بكثير من أي شيء يمكن أن يكون جورج دبليو بوش قد حرضّه في ذروة “الحرب الكونية على الإرهاب”. في ذلك الحين، تم استخدام احتمال أن يستولي المتطرفون السنة على محافظة الأنبار العراقية لتبرير زيادة عديد القوات الأميركية بمقدار 170.000 جندي، وحجم الإنفاق العسكري السنوي الذي زاد على 100 مليار دولار سنوياً. والآن، بعد سنوات من تلك الزيادة، لا تسيطر حركة “داعش” على الأنبار فحسب، وإنما أيضاً على الموصل ونصف أراضي سورية. وتسيطر المجموعات التابعة لها على مساحات شاسعة من شمال نيجيريا، ومناطق كبيرة من ليبيا. وقد قتل الآن مئات الآلاف من الناس وتشرد الملايين؛ وتم إضفاء الشرعية على أهوال وفظائع لا يمكن أن تتصورها حتى حركة طالبان الأفغانية نفسها -والتي من بينها إعادة إنتاج اغتصاب القاصرات واستعادة العبودية. ولم تعمل هذه الكارثة على إزالة الحدود بين سورية والعراق فقط، وإنما استنفرت القوى التي تخوض الآن حرباً بالوكالة بين العربية السعودية وإيران في اليمن.

لعل أوضح الأدلة على أننا لا نفهم هذه الظاهرة، هو عجزنا المستمر عن التنبؤ -والأقل من ذلك السيطرة- على هذه التطورات. من استطاع أن يتكهن بأن قوة الزرقاوي ستنمو بعد أن دمرت الولايات المتحدة معسكراته التدريبية في العام 2001؟ وقد بدا للجميع تقريباً أن من غير المحتمل أن تتمكن الحركة من إعادة تجميع نفسها بهذه السرعة الكبيرة بعد موته في العام 2006، أو مرة أخرى بعد زيادة عديد القوات الأميركية في العام 2007. كما أننا أصبحنا نعرف الآن المزيد والمزيد من الحقائق عن الحركة وأعضائها، لكن ذلك لم يمنع معظم المحللين من الاعتقاد في وقت قريب لا يبعد أكثر من شهرين خليا، أن الهزائم في كوباني وتكريت قلبت الموازين ضد الحركة، وأن من غير الممكن أن تتمكن من الاستيلاء على الرمادي. إننا نفوت شيئاً ما في الحقيقة.

جزء من المشكلة قد يكون أن المعلقين ما يزالون يفضلون التركيز على التفسيرات السياسية والمالية والمادية، مثل مسألة التمييز ضد السنة، والفساد، والافتقار إلى الخدمات الحكومية في المناطق التي احتلتها الحركة، وكذلك استخدام “داعش” المفرط للعنف. وبذلك، يجد المتلقون الغربيون أنفسهم بالكاد مضطرين إلى التركيز على مسألة القبول الإيديولوجي المحير الذي تتمتع به “داعش”. وقد تفاجأت أنا نفسي عندما رأيت التأثر العميق -حتى عند خصم سوري لحركة “داعش”- لدى مشاهدة فيلم فيديو يعرض كيفية تدمير “داعش” لـ”حدود سايكس-بيكو” بين العراق وسورية، القائمة منذ العام 1916، وكيف أنها استمرت في إعادة توحيد القبائل المنقسمة على جانبي الحدود. كما فتنتني الإدانة التي صدرت عن أحمد الطيب، إمام الأزهر وشيخه الأكبر، -وواحد من بين رجال الدين الأكثر توقيراً في العالم: “هذه المجموعة شيطانية -يجب تقطيع أطرافهم أو صلبهم”. ثم أذهلني رثاء بن لادن للزرقاوي: “إن قصته ستعيش للأبد مع قصص النبلاء… وحتى لو أننا فقدنا واحداً من كبار فرساننا وأمرائنا، فإننا سعيدون بأننا وجدنا رمزاً…”.

لكن “إيديولوجية” حركة “داعش” لا تشكل أيضاً تفسيراً كافياً. لقد فهم تنظيم القاعدة أفضل من أي أحد آخر ذلك المزيج الغريب من الآيات القرآنية، والقومية العربية، والتاريخ الصليبي، والإحالات الشعرية، والعاطفية، والرعب الذي يمكن أن يحرك ويدعم مثل هذه الحركات. ولكن، حتى قادة القاعدة أنفسهم كانوا يعتقدون أن نهج الزرقاوي المخصوص غير عقلاني، وغير ملائم ثقافياً، وغير جذاب. وفي العام 2005، على سبيل المثال، أرسل قادة القاعدة رسائل تنصح الزرقاوي بالتوقف عن نشر فظائعه على الملأ. وقد استخدموا مصطلحات استراتيجية حديثة وغريبة: “أكثر من نصف المعركة يحدث في ميدان الإعلام” -وقالوا له إن “الدرس” المستخلص من أفغانستان كان أن طالبان خسرت لأنها اعتمدت -مثل الزرقاوي- على قاعدة طائفية ضيقة للغاية. ولم يكن قادة القاعدة فقط من السلفيين الجهاديين الذين افترضوا أن مؤيديهم الجوهريين يفضلون التعاليم الدينية الجدية على سعوط الفيديوهات (تماماً كما افترض الطيب على ما يبدو أن أي حركة إسلامية لن تُقدم على إحراق طيار عربي سني حياً في قفص).

يتعارض الكثير مما فعلته حركة “داعش” بوضوح مع الحدوس والمبادئ الأخلاقية للعديد من مؤيديها. ونحن نستشعر –من خلال مقابلات حسن حسن ومايكل فايس المتأنية- أن مؤيديها يدركون، جزئياً على الأقل، هذا التناقض. ومرة أخرى، يمكننا أن نضع قائمة بالمجموعات الخارجية المختلفة التي قدمت التمويل والدعم لمجموعة “داعش”. لكنها ليست هناك أي صلات منطقية من الإيديولوجية، الهوية، أو المصالح، والتي ينبغي أن تصل بين إيران، وطالبان، والبعثيين ببعضهم بعضا أو بحركة “داعش”. بدلاً من ذلك، تشير كل واحدة من هذه الحالات إلى أن المؤسسات المنقسمة بوضوح في اللاهوت والسياسة والثقافة، ترتجل على الدوام شراكات قاتلة، بل وحتى هازمة للذات.

ليس المفكرون، والتكتيكيون، والجنود والقادة في الحركة التي نعرفها باسم “داعش” واضعي استراتيجيات عظيمين؛ وفي كثير من الأحيان تكون سياساتهم عشوائية، متهورة، بل وحتى منافية للعقل؛ وبغض النظر عما إذا كانت حكومتهم ماهرة، كما يقول البعض، أو أنها تعيسة، كما يجادل آخرون، فإنها لا تقدم نمواً اقتصادياً عبقرياً أو عدالة اجتماعية مستدامة. إن لاهوت، ومبادئ وأخلاقيات قادة “داعش” ليست قوية متماسكة ولا هي قابلة للدفاع عنها. وسرعان ما نجد مسبارنا التحليلي وهو يصطدم بالقاع مباشرة وعلى الفور.

لطالما وجدت نفسي في كثير من الأحيان تحت إغواء القول إننا نحتاج ببساطة إلى معلومات أكثر وأفضل عن الحركة. لكن ذلك يقلل من شأن الطبيعة الغرائبية والمحيرة لهذه الظاهرة. ولنأخذ مثالاً واحداً فقط: قبل خمس سنوات، لم يكن حتى أكثر المنظرين السلفيين تزمتاً ليدافع عن إعادة إنتاج العبودية؛ لكن “داعش” طبقتها في الحقيقة. وليس ثمة شيء، منذ انتصار المخربين في شمال أفريقيا الروماني، والذي بدا مفاجئا جدا، وغير مفهوم وصعب على النقض والتفكيك مثل صعود “داعش”. ولم يستطع أحد من محللينا، ودبلوماسيينا، وضباط استخباراتنا، وساستنا، أو صحفيينا أن ينتج حتى الآن تفسيراً ثرياً بما يكفي –حتى من باب الإدراك المتأخر- والذي كان ليتنبأ بصعود هذه الحركة.

إننا نخفي هذه الحقيقة عن أنفسنا بإنتاج النظريات والمفاهيم التي لا تحمل أي تدقيق متعمق. ولن نتمكن من معالجة هذا الواقع ببساطة من خلال مراكمة المزيد من الحقائق. إنه من غير الواضح ما إذا كان بوسع ثقافتنا أن تطور في أي وقت ما يكفي من المعرفة، والدقة والخيال والتواضع، لفهم ظاهرة “داعش”. لكن علينا أن نعترف بأننا الآن مرعوبون فقط، ونهبٌ للحيرة.

 

*(نيويورك تايمز ريفيو أوف بوكس) عدد 13 آب 2015

 

قد يهمك أيضاً