لويس فؤاد العمار
تنبثق المنطقة من غزل الخيوط في الدكاكين العتيقة, ومن ثنايا أزقتها الغارقة في قدمها تنبعث روائح الماضي الذي لا زال يجثم على صدر المنطقة بتلك البيوت التي أن قدر لك دخولها ستجدها وقد تحولت إلى كهوف من الأزمنة السحيقة . هكذا هي المناطق البغدادية العتيقة التي تنام على رفوف عهود مضت وأضيفت إليها عهود أخرى. ومنطقة الصدرية تحاول أن تثبت حضورها المتألق في زمن الانترنت. فهي منذ أن وجدت وهي تصارع سنوات الزوال والحصار وتدنو دائما من سقف عليائها كإحدى المناطق التجارية والسكنية التي تنافس عليها التجار والمتبضعين سواء بسواء . هي المنطقة التي أجبرت الآخرين على المرور فيها وهي كشقيقتها الشورجة تعيشان تنافسا لا ينفك إلا وتعاد أسطورته من جديد . فهما معلمان تجاريان عاشا وسط نقاش طويل عن أي منهما الأقدم من الآخر ؟ وتسحبك أقدامك رغما عنك لتوقفك أمام دكان يبيع الأفاعي والسحالي(أليس هذا عجيبا) لكن أمام الحقيقة يتبدد العجب وتذوب الدهشة من على الوجوه المستغربة عيونها في البحث عما ترد وتفتقده في الأسواق الحديثة. أما عصافير الحب التي تضمها الأقفاص, حيث يجلس باعتها القرفصاء بجانبها فهم يحملون مفاتيح انطلاقها حين يهم احد الزبائن لابتياع عصفور عاش دهرا في قفصه يبحث عن حريته وهي مرهونة حتما بالذي سيجيء ويدفع ثمن الحرية . وتترك ناظريك ليستوعبا رحلة الدكاكين التي ما زالت سيمفونية الأمس البعيد تنشر أنغامها المحببة. ما بين أقفاص عصافير الحب المستندة إلى منطقة الدهانة وبين جانبها الآخر المفتوح على الشورجة وهو يتوسد جانبا من جامع الخلفاء حيث لا يستطيع احد أن يفضل منطقة على أخرى من بين منطقتي الصدرية والشورجة فهما منطقتان تجاريتان باعتبار أن لكل منهما خصوصيتها ولكن من المعتقد أن هناك بعض الاختلاف . فمثلا منطقة الصدرية وما يلحقها من مناطق (العوينة ورأس فضوة عرب وحي الأكراد والتسابيل )وغيرها من المناطق التي اشتهرت بصناعة الفخاريات وكذلك(المكانس) المصنوعة من خوص النخيل حيث تفترش النسوة أبواب البيوت العتيقة لينسجن تلك المكانس اليدوية فضلا عن محال القصابة وبيوت الطرشي . وهناك فرق بين محل يبيع الطرشي في الشورجة وبين بيوت هي أصلا تعمل الطرشي في الصدرية وتكون بذلك المصدر الرئيس لهذه المحال سواء في الشورجة أو في الميدان أو غيرها من المناطق كالاعظمية والأحياء البغدادية الشعبية الأخرى . الصدرية من حيث العمق الطوبوغرافي تشبه إلى حد ما مدينة كركوك, فهي تضم في أزقتها العرب والأكراد والمسلمين والنصارى واليهود والصابئة . ولعل الداخل إلى بيوتها يدرك عند معاينة طرازات أبنيتها أنها تحمل تصميمات ذات سمات طبعت بطبع ساكنيها آنذاك . حيث أن البعض من منازلها تحوي سردابا وإيوانا وغرفا تشمل الطابق السفلي والعلوي . وكذلك الشناشيل التي تتقدم المنازل إضافة إلى فروعها الضيقة التي تحمل طابعا تراثيا وشعبيا جميلا بأبنائها الذي يحملون عادات وتقاليد رائعة متوارثة عن آبائهم وأجدادهم. هذه المناطق بما تحمله من ارث عظيم ضارب في القدم تمثل اليوم بأبنيتها وأسواقها وأماكنها العتيقة الأخرى نقطة تراثية مضيئة في جبين بغداد الحضارات والتراث ..