الحرس القومي يهاجم جماهير الشعب
أما [الحرس القومي] الذي شكله الانقلابيون فقد اندفع أفراده إلى الشوارع، وهاجموا مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة، وبدؤوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم الثقيلة والخفيفة نحو كل من يصادفونه في طريقهم.
واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة، والشاكرية، والكاظمية، وباب الشيخ، وحي الأكراد، والحرية، والشعلة، لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم.
واصدر الانقلابيون بيانهم المرعب رقم 13 الذي يدعو قطعان الحرس القومي وتخويل وحداتهم المتآمرة إلى إلابادة العامة لكل من يتصدى للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، فكانت حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على مئات الألوف من المواطنين ، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد وصفي تعذيباً وقتلاً واعداماً المئات غيرهم !
خروج الشهيد عبد الكريم قاسم ورفاقه بعد تقديم ضمانات بسلامتهم من قبل الانقلابيين
تيقن الزعيم عبد الكريم قاسم ان استمرار التصدي لهؤلاء الخونة مع انعدام الدعم وشدة البرد و مشاق صوم رمضان لن يؤدي الا الى اراقة دماء الالاف من العراقيين الذين خرجوا للدفاع عن ثورة تموز وقائدها خصوصا وانه يعلم جيداً ان رأسه وحده هو المطلوب لهؤلاء المجرمين لما قدم للشعب العراقي من منجزات وحقق لفقراء العراق من رقي وعدالة , سمح للعديد من مرافقيه والجنود بالرحيل تحت جنح الظلام وازيز الرصاص والقصف المستمر مخبراً اياهم بأنه هو المطلوب الوحيد وعليهم المغادرة حقناً لدمائهم أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز ومكتسباتها ، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر]، المرافق الأقدم لقاسم والزعيم [عبد الكريم الجدة]، أمر الانضباط العسكري، وازاء هذه الخسائر المؤلمة قرر الزعيم عبد الكريم مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب القريبة من مبنى الوزارة، تحت جنح الظلام، وكان بصحبته كل من الزعيم [فاضل عباس المهداوي] رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، [وقاسم الجنابي] السكرتير الصحفي لعبد الكريم، والملازم [كنعان حداد ) . مقرراً انتهاء هذه الدماء بالخروج لقاء وعد قطعه الانقلابيين له ولرفاقه بمغادرة العراق و بالحفاظ على حياتهم ، وتسفيره إلى تركيا عن طريق الوسيط المفاوض صاحب جريدة الثورة يونس الطائي ليثبت فيما بعد زيف وعدهم وعدم صدقهم وبشهادة اقطاب الانقلاب انفسهم كطالب شبيب وهاني الفكيكي وعبد الستار الدوري وغيرهم وانهم كانوا قد بيتوا الحكم بإعدامه لانهاء الغضب الشعبي ضد الانقلاب والمقاومة الجماهيرية الكبيرة المستمرة حتى صبيحة يوم 9 شباط . ومن قاعة الشعب قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف وعدد من اقطاب الانقلاب , مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه ورعايته له.غير أن عبد السلام عارف أجابه بكل صلافة بكلمات نابية لا تدل على خلق، مما أثار غضب الزعيم طه الشيخ أحمد الذي أمسك بالهاتف من يد عبد الكريم قاسم ورد على عبد السلام عارف بما يستحق من كلمات الإهانة. قرر الانقلابوين وضع يونس الطائي تحت التوقيف ومنعه من مواصلة المفاوضة وهكذا انتهت الوساطة بخروج الزعيم عبد الكريم قاسم، ومعه المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد، وكانت بانتظارهم ناقلتان مصفحتان عند باب قاعة الشعب، وكان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، حيث نقل الزعيم عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي، وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة انهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى دار الإذاعة، وكان الزعيم عبد الكريم قاسم بكامل بزته العسكرية رافعاً يده محيياً الجنود، ولم يمسه أحد بسوء عند دخوله مبنى الإذاعة.
مهزلة محاكمة الزعيم وإعدامه مع رفاقه
إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة للزعيم عبد الكريم قاسم كانت محض هراء، فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه، وبحق رفاقه، وما كان للزعيم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين دون اتفاق و وعد ، ولكنه خُدعَ، وتصور أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أو أن يوفروا له محاكمة عادلة، وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف، والمتآمرين الآخرين على الثورة. وحال دخول عبد الكريم قاسم دار الإذاعة انبرى له عبد السلام عارف، وعلي صالح السعدي بالشتائم المخجلة، التي لا تصدر إلا من أولاد الشوارع فقد توجه السعدي إليه قائلاً : {لقد كانت عندنا حركة قبل أسبوعين، وأريد أن اعرف مَنْ أفشى لك بهذه الحركة، وهل هو موجود بيننا؟}.
وكانت تلك الحادثة قد أدت إلى اعتقال علي السعدي. وقد أجابه الزعيم عبد الكريم قاسم {غير موجود هنا بشرفي) .لكن السعدي رد عليه بانفعال قائلاً {ومن أين لك بالشرف ؟}، وهنا رد عليه عبد الكريم قاسم قائلاً :{إن لي شرفاً أعتز به ) . وهنا دخل معه في النقاش عبد السلام عارف حول مَنْ وضع البيان الأول للثورة، وكان كل همه أن ينتزع من الزعيم عبد الكريم قاسم اعترافاً بأنه ـ أي عبد السلام ـ هو الذي وضع البيان الأول للثورة، إلا أن الزعيم عبد الكريم قاسم أصر على أنه هو الذي وضع البيان بنفسه، وكانت تلك الأحاديث هي كل ما جرى في دار الإذاعة، وقد طلب الزعيم عبد الكريم قاسم أن يوفروا له محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية، تنقل عبر الإذاعة والتلفزيون، ليطلع عليها الشعب، إلا أن طلبه أهمل، فقد كان الانقلابيون على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة ، ويمنعوا أي قطعات من الجيش من التحرك ضدهم .ابلغ الانقلابيون الزعيم قاسم ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يفقد رباطة جأشه وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين، ومما ذكره المجرم المتآمر هاني الفكيكي عن تلك اللحظات في مذكراته قائلاً : ” عندما ابلغ قاسم بالقرار اعاد مطالبته بمحاكمة اصولية طاعنا في الحكم…عندها ايقن قاسم انه مواجه الموت وانني ذاهب ولكني لاادري ماذا سيحصل من بعدي… تقدم بعض الضباط لربط عيونه وعيون رفاقه الامر الذي رفضه مرددا : بدون جفيه( محرمة) اني قابل بدون جفية … تازم الموقف داخل الصالة وتوترت النفوس وكان الثار والموت ينبضان في عروق وانفاس الجميع بعد ان دخلت زمرة التنفيذ وارتفع صوت من نادى باخلاء الصالة … ومع انهمار ذخيرة الموت انطلق صوت قاسم هاتفا بحياة الوطن” وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم التاسع من شباط 1963، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم المقدم المظلي المجرم عبد المنعم حميد لاعدام الزعيم عبد الكريم قاسم فيما قام المجرم رعد الجده باعدام فاضل عباس المهداوي وقام المجرم الاخر الملازم نعمة فارس المحياوي بتنفيذ الاعدام بحق طه الشيخ احمد وخليل حداد وفي بعض الروايات قيل انه نفذ حكم الاعدام بالزعيم قاسم موجهين نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم، رافضين وضع عصابة على أعينهم وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي ليدخل العراق بعدها ليله المظلم الطويل تحت حكم البعث الفاشي وارهابهم وقسوة نهجهم الدموي! سارع الانقلابيون إلى عرض جثته، وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات. لقد أراد الانقلابيون التخلص من عبد الكريم قاسم وإعلان مقتله لمنع أي تحرك من جانب القطعات العسكرية ضد الانقلاب، ولإحباط عزيمة الشعب على المقاومة. كما أسرع الانقلابيون إلى دفنه تحت جنح الظلام دون أي معالم تذكر، في منطقة معامل الطابوق، خارج مدينة بغداد، إلا أن عددا من عمال معامل الطابوق الذين يعملون شعالة طوال الليل شعروا بوجود ثلة عسكرية في تلك المنطقة، فما كان منهم إلا أن ذهبوا بعد مغادرة الثلة العسكرية إلى المكان، حيث وجدوا ما يشبه حفرة القبر. دخلت الريبة في نفوسهم من يكون ذلك الإنسان؟ ولماذا جاؤوا به إلى ذلك المكان؟ وصمم العمال على فتح الحفرة فكانت المفاجأة جثة عبد الكريم قاسم. اخرج العمال الجثة على عجل وحملوها إلى مكان آخر، حيث حفروا له قبراً جديداً حباً واحتراماً لذلك الرجل الذي قاد ثورة 14 تموز. غير أن الزمرة الانقلابية أحست بما جرى، فقامت بالتفتيش عن الجثة، وتوصلت إلى القبر الجديد وأخرجت الجثة منه، ونقلتها تحت جنح الظلام لترميها في نهر ديإلى، بعد أن تم وضعها بصندوق صُب فيه الكونكريت لكي لا تطفو الجثة في النهر، ويعثر عليها أحد من جديد. إن ذلك العمل البائس لا يعبر إلا عن جبن الانقلابيين، وخوفهم من شبح عبد الكريم قاسم، حتى وهو ميت. ولم يكتفِ الانقلابيون بكل ذلك، بل انبرت أقلامهم القذرة، وقد أعمى الحقد قلوب أصحابها، بنهش عبد الكريم قاسم، وإلصاق شتى التهم المزورة به، والإساءة إلى سلوكه وأخلاقه، مستخدمين ابذأ الكلمات التي لا تعبر إلا عن الإناء الذي تنضح منه. فالزعيم عبد الكريم قاسم ، يبقى شامخاً كقائد وطني معادٍ للاستعمار، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع، وحرر المرأة، وساواها بالرجل، وحطم حلف بغداد، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أميناً على ثروات الشعب، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لإخوته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير. وها هم بعض الذين أساؤوا إلى شخصه، بعد أن هدأت الزوبعة الهوجاء، قد بدأت تستيقظ ضمائرهم، ويعيدوا النظر في أفكارهم وتصوراتهم عن مرحلة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز، بنوع من التجرد، لتعيد له اعتباره، وتقيّم تلك المرحلة من جديد.
رحم الله قائد ثورة 14 تموز المجيدة و مؤسس الجمهورية العراقية الخالدة
شهيد رمضان ومحرر العراق من الاستعمار الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم وسائر رفاقه الشهداء.
والخزي والعار لانقلابيي 8 شباط القتلة المجرمين عملاء الإمبريالية وأدواتها.








