د. عصام عسيري
مقدمة:
لم تكن الحرب الباردة مجرد صراع أيديولوجي وعسكري، بل امتدت إلى ميادين الاقتصاد والثقافة، بما في ذلك الفن. ومن أبرز الجوانب غير المطروقة في سرديات تلك الحقبة: كيف لعبت الأعمال الفنية دوراً في تسوية بعض أشكال التعويضات المالية أو السياسية التي فُرضت على الاتحاد السوفيتي وحلفائه بعد الحرب العالمية الثانية، أو في مراحل لاحقة من العلاقات مع الغرب. هذا المقال يسلّط الضوء على واحدة من أغرب ملفات التفاوض الدولي، حيث تحوّل الفن من تعبير جمالي إلى وسيلة لتسوية النزاعات وموازنة الحسابات.
الفن كتعويض: إرث الحرب العالمية الثانية
بعد الحرب العالمية الثانية، فرضت دول الحلفاء المنتصرة تعويضات على الدول المنهزمة، بما في ذلك ألمانيا والنمسا ودول أوروبا الشرقية التي أصبحت لاحقاً تحت النفوذ السوفيتي. استخدم الاتحاد السوفيتي، في المقابل، مصادرات فنية ضخمة من ألمانيا النازية كجزء من “العدالة الانتقامية”، مدعياً أن هذه الأعمال هي بمثابة تعويض ثقافي عن الدمار الذي لحق بالمدن السوفيتية.
وبينما صادر الغرب أعمالاً فنية من مناطق نفوذه في ألمانيا، اتخذ الاتحاد السوفيتي الآلاف من اللوحات والمنحوتات من متاحف مثل “بيرغامون” و”دريسدن” الألمانيين، وتم نقلها إلى موسكو وسانت بطرسبرغ، حيث لا تزال بعض تلك القطع حتى اليوم محور نزاع ثقافي وسياسي.
دفع الأعمال الفنية ضمن تعويضات للحلفاء:
رغم أن الاتحاد السوفيتي لم يُهزم عسكرياً في الحرب، فإن تعويضات فرضت على دول ضمن المعسكر الشرقي لحساب الحلفاء. ومن الأمثلة الملفتة:
1. رومانيا وألمانيا الشرقية:
في بعض الحالات، لعب الفن دوراً غير مباشر في تسويات مالية. ألمانيا الشرقية، تحت الوصاية السوفيتية، سلّمت أعمالاً فنية إلى الاتحاد السوفيتي كجزء من مدفوعات تعويضية، وقد قام السوفييت لاحقاً بمقايضة بعضها مع متاحف أو دول غربية مقابل عملات صعبة أو تقنيات صناعية.
2. فن مهرب مقابل ديون:
في ثمانينيات القرن العشرين، ومع ازدياد الأزمة الاقتصادية في المعسكر الشرقي، بدأت بعض الدول الاشتراكية في بيع أعمال فنية مهمة من مقتنياتها التاريخية لمشترين غربيين لسداد ديونها. في كثير من الأحيان، كانت هذه الأعمال قد وصلت إليها كجزء من غنائم الحرب أو نتيجة استيلاء الدولة على ممتلكات الأسر الأرستقراطية أو الثرية عمومًا.
مثال بارز: في العام 1990، قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، أُثيرت فضيحة في ألمانيا الغربية حول بيع لوحات تعود لعصر الباروك والألق الفني تم تهريبها من روسيا إلى الغرب بشكل سري لتسوية ديون شركات سوفيتية.
ملف خاص: الفن ضمن حسابات الحرب الباردة
في بعض الحالات، لم تكن الأعمال الفنية تُستخدم فقط كتعويض مادي بل كأداة سياسية. استخدمت السلطات السوفيتية اللوحات الغربية التي تم الاستيلاء عليها للتفاوض غير المباشر مع الدول الغربية. مثال ذلك:
في نهاية الحرب الباردة، قدمت الحكومة السوفيتية أعمالاً فنية من المجموعة الخاصة للكرملين كهدايا دبلوماسية مقابل دعم سياسي أو لتليين مواقف الغرب في قضايا مثل سباق التسلح أو الانفراج النووي، من بين تلك الاعمال روائع الفن العالمي.
إعادة الأعمال ومطالبات الغرب:
مع تفكك الاتحاد السوفيتي العام 1991، بدأت مطالبات دول أوروبية باسترجاع الأعمال الفنية التي نُهبت أو صودرت من قبل السوفييت. كانت بعض هذه المطالبات مبنية على اتفاقيات دولية، مثل اتفاقية لاهاي 1954 لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة.
ألمانيا، على سبيل المثال، طالبت بإعادة لوحات دريسدن الشهيرة، وبعضها أُعيد فعلاً في التسعينات، لكن عددًا كبيرًا لا يزال محتجزًا في روسيا، حيث تعتبره موسكو تعويضًا شرعيًا.
الفن مقابل الديون: حالة الاتحاد الروسي
في التسعينيات، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الروسية، ظهرت تقارير عن استعداد الحكومة الروسية لمقايضة أعمال فنية من المتاحف الوطنية مقابل مساعدات مالية أو سداد ديون سيادية. ورغم نفي موسكو الرسمي، ظهرت عدة صفقات سرية مع جامعين غربيين. أبرز مثال:
بيع سري لنسخ نادرة من مخطوطات وقصاصات فنية من متحف بوشكين ومكتبة لينين إلى مشترين من فرنسا وسويسرا مقابل دفعات نقدية أنقذت بعض مؤسسات الدولة من الإفلاس المؤقت.
رأي النقاد والمؤرخين:
يرى المؤرخ الفني البريطاني Andrew McClellan أن “الفن حين يدخل في حسابات الجغرافيا السياسية يفقد براءته”، مضيفاً أن استخدام الفن كتعويض يشير إلى مكانته الرمزية كأداة للهيمنة الثقافية، وليس فقط كأصل مادي.
ويشير المؤرخ الروسي نيكولاي كراسنوف إلى أن الشعب الروسي نفسه ضحية لهذا الاستخدام السياسي للفن، حيث حُرم من الوصول إلى كنوز فنية ضخمة بقيت حبيسة المخازن أو بيعت بصمت.
خاتمة:
في زمن الحرب والسلم، ظل الفن أداة للتعبير والرمزية، لكنه في تاريخ الاتحاد السوفيتي والغرب تجاوز ذلك إلى لعب أدوار اقتصادية وتعويضية. لقد شكّل الفن عملة بديلة عظيمة بعظم لوحات رافاييل ورامبرانت، ومخزونًا من القيمة استخدم في تسويات معقدة لا تزال أصداؤها تتردد في المتاحف ودهاليز السياسة الثقافية الدولية حتى اليوم. ورغم إعادة بعض الأعمال، لا تزال آلاف القطع محتجزة أو مفقودة، شاهدة على عالم تعامل مع الجمال كتعويض.









