هو عبد الكريم قاسم محمد البكر الزبيدي، ولد في 21 كانون الأول 1914، من عائلة فقيرة تسكن محلة المهدية وهو حي فقير يقع في الجانب الأيسر من مدينة بغداد. أبوه جاسم محمد البكر الزبيدي -جرى تغييره إلى قاسم- وأمه كيفية حسن اليعقوبي.. له شقيقان هما (حامد قاسم) شقيقه الأكبر ويعمل كاسباً في بيع الحبوب والأغنام ،وشقيقه الأصغر ( لطيف قاسم ) الذي كان نائب ضابط في الجيش العراقي ،وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم، أما والده فكان يعمل نجارا، كما كان يردد عبد الكريم دائماً في خطبه، ويفخر بكونه ابن ذلك النجار الفقير. انتقلت عائلته إلى بلدة الصويرة ،وهي بلدة صغيرة في جنوب العراق ،وكان عمره 6 سنوات ،ولكن العائلة ما لبثت أن عادت إلى بغداد عام 1926 ،حيث أكمل عبد الكريم دراسته الإعدادية، وتخرج منها عام 1931، واختار بعد تخرجه أن يعمل معلماً ،لمساعدة عائلته ،وتعيّن بالفعل في إحدى قرى الشامية وهي بلدة صغيرة تقع في جنوب العراق ،وقضى في التعليم سنة كاملة ،غير أن مهنة التعليم لم ترضِ طموحه ،فقد كان ،وهو ابن العائلة الفقيرة ،يتطلع إلى طموح بعيد المدى ،يحقق حلمه في إحداث تغييرٍ عميق في حياة الشعب العراقي وفي تحرير العراق من ربقة الاستعمار من جهة ،وفي معالجة مشكلة الفقر من جهة أخرى ،وفكر عبد الكريم قاسم في ترك مهنة التعليم ،والتحول نحو الجيش الذي كان يرى فيه أمل الشعب في إجراء التغيير الحقيقي والجذري المنشود بعد أن عجزت انتفاضات الشعب المتتالية عن تحقيق هذا الهدف . كان لقريبه العقيد الطيار ،محمد علي جواد ،قائد القوة الجوية آنذاك ،،دور في دخول عبد الكريم قاسم الكلية العسكرية عام 1932 ،حيث تخرج منها بتفوق ،في 15 نيسان من عام 1934 ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ في الجيش ،وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة رئيس (نقيب) حيث دخل كلية الأركان في 24 كانون الثاني 1941 وتخرج منها بتفوق عام 1943. في 4 تشرين الأول 1950 أُرسل عبد الكريم إلى لندن للمشاركة في دورة عسكرية للضباط الأركان أنهاها بتفوق، وعاد إلى العراق ،وتدرج في رتبته العسكرية حنى بلغ رتبة زعيم ركن (عميد ركن )،وكان آخر مركز شغله في المؤسسة العسكرية هو آمر اللواء التاسع عشر الذي كان له شرف قيادة ثورة 14 تموز عام 1958 .شارك عبد الكريم قاسم خلال خدمته العسكرية في حرب فلسطين آمراً لأحد الأفواج وأبدى بطولة نادرة في معركة (كفر قاسم )، غير أنه عاد من تلك الحرب ناقماً على السلطة الحاكمة في بغداد ،التي خذلت الجيش ،ومنعته من تنفيذ مهامه ،وتحقيق آمال الأمة العربية في الحفاظ على عروبة فلسطين ،فقد قُيدت حركة الجيش ،ومنع من القيام بمهامه بسبب التواطؤ المعروف بين بريطانيا والحاكمين بأمرهم في بغداد ،فلم تكن حرب فلسطين سوى مسرحية نفذها الحكام العرب آنذاك ،بإخراج أنكلو أمريكي ،من أجل تحقيق وعد بلفور ، وزير خارجية بريطانيا، الذي وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين .
تبلور الثورة في فكر الزعيم
ولدت تلك الحرب وسلوك الحكام العرب لدى عبد الكريم قاسم سخطاً مشروعاً على النظام العراقي وخيانته لمصالح الوطن ومصالح الأمة العربية ،وجعلت فكرة الثورة تختمر في تفكيره ،فكرس جهده لتنفيذ هذه الفكرة حتى تحقق له ذلك صبيحة 14 تموز 1958 . كما أن الأحداث التي تلت حرب فلسطين في العراق ،والتي كان على رأسها وثبة كانون المجيدة في نفس ذلك العام ،ووثبة تشرين المجيدة عام 1952 ،وعقد حلف بغداد ،وانتفاضة عام 56، إبان العدوان الثلاثي على مصر ،والتي قمعها الحاكمون بالحديد والنار، جعلت الشعب العراقي وقواه الوطنية، والعناصر الوطنية الثورية في الجيش ،وفي المقدمة منهم عبد الكريم قاسم يفقدون أي أمل في إصلاح أوضاع البلاد سلمياً ،ووجدوا أن العمل الثوري هو السبيل الوحيد لإزاحة الفئة الحاكمة من الحكم ،وأن السبيل لذلك لا يمكن أن يتم إلا بتدخل الجيش .وهكذا جاءت ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ،والتي قادها بنجاح ،عبد الكريم قاسم مدعوماً بكل فئات الشعب ،من قوميين ،وديمقراطيين وشيوعيين ،خرجوا جميعاً صبيحة ذلك اليوم لإسناد الثورة ودعمها ،مستعدين للتضحية والفداء من أجل نجاحها ،وديمومتها،ومن أجل تحقيق آمال وطموحات الشعب العراقي في الحياة الحرة الكريمة .
باكورة إنجازات الثورة
استطاعت حكومة الثورة التي شكلها عبد الكريم قاسم أن تحقق الكثير من الإنجازات ،في عامها الأول ،كان في مقدمتها قانون الإصلاح الزراعي ،الذي كان بحد ذاته ،ثورة اجتماعية كبرى حيث حررت الفلاحين الذين يمثلون 75% من الشعب العراقي ،من نير الإقطاعيين وخلقت علاقات إنتاجية جديدة ،وألغت قانون العشائر المتخلف ،حيث أصبح سكان الريف شأنهم شأن سكان المدن جميعاً خاضعين للقانون المدني .ولأول مرة في تاريخ العراق ،نصّ دستوره المؤقت الذي أصدرته حكومة الثورة ،على أن العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ،وفي ذلك خير تأكيد على حقوق الشعب الكردي القومية ،وقد تم استقبال الزعيم الكردي (مصطفى بارزاني) ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي ،استقبالاً رسمياُ وشعبياً كبيراً ،وتمّ منح العائدين رواتب شهرية ،وجرى إسكانهم في بيوت بنيت لهم حديثاً ،وتمّ إسكان القائد الكردي مصطفى بارزاني في قصر نوري السعيد ،وجرى تأمين كافة احتياجاته ،بما يليق به كزعيم كبير للشعب الكردي. وجاء قانون الأحوال المدنية الجديد ليحرر المرأة ويجعلها على قدم المساواة مع الرجل .فكان بحق ثورة اجتماعية أخرى ، وفي المجال السياسي ،أقدمت حكومة عبد الكريم قاسم على إخراج العراق من حلف بغداد ،وتحرير العملة العراقية من منطقة الاسترليني ،فكان ذلك نقلة نوعية كبرى في طريق التحرر من الهيمنة الإمبريالية ،وعودة العراق إلى الصف العربي ،وتقديمه لكافة المساعدات لحركة التحرر العربية ،وخاصة لفلسطين والجزائر ،واستطاعت حكومة عبد الكريم قاسم أن تقيم علاقات متوازنة مع جميع البلدان الأجنبية ،ومنها دول المعسكر الاشتراكي بعد أن كانت حكومة نوري السعيد قد قطعتها فيما مضى.
محاولات الانقلاب
أما في المجال الاقتصادي ،فقد كان تشريع قانون رقم 80 لسنة 1961 أخطر ضربة وجهها عبد الكريم قاسم لشركات النفط ،حيث تمت بموجب القانون استعادة 99,9% من الأراضي الداخلة ضمن امتياز شركات النفط ،والحاوية على احتياطات نفطية هائلة ،وإصدار قانون شركة النفط الوطنية ،بغية استغلال مكامن النفط وطنياً . لقد كان المؤمل من الثورة أن يتجذر عمقها بالسير إلى الأمام من أجل تحقيق ما يصبو إليه شعبنا ،لكن الانشقاق الذي قاده عبد السلام عارف، الشخصية الثانية في قيادة الثورة والذي دعمه جانب كبير من القوى القومية والبعثيين، ومحاولة تلك القوى فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية بالقوة عن طريق اللجوء إلى التآمر المسلح ،أعاق تجذر الثورة وتطورها، فقد جرت ثلاث محاولات انقلابية ،والثورة ما تزال في عامها الأول ،وأدى سلوك عبد السلام عارف إلى شق وحدة الشعب ،وجبهة الاتحاد الوطني ،وتحول ذلك التعاون ،والتآلف بين القوى الوطنية إلى حالة من الاحتراب العنيف .استطاع عبد الكريم قاسم ، بمؤازرة من الحزب الشيوعي آنذاك أن يتجاوز كل المؤامرات والمخاطر التي كانت محدقة بالثورة ،حيث سخر الحزب كافة إمكاناته لدعم الثورة وقيادتها دون قيد أو شرط .لقد كان على تلك القوى أن تناضل معا من أجل قيام مجلس تشريعي ينتخبه الشعب، بكل حرية، ومن أجل سن دستور دائم للبلاد، يصون حقوق الشعب وحرياته ،والرجوع إلى ممثلي الشعب في البرلمان عند تقرير مصائر البلاد ،واعتماد مبدأ الديمقراطية في الحياة السياسية. كان عبد الكريم قاسم، شأنه شأن أي إنسان آخر ،له إيجابياته ،وسلبياته معاً، فليس هناك من استطاع الطعن في وطنيته، وأمانته وحرصه على ثروات البلاد ،ومصالح الشعب ،ولم يستطع انقلابيو 8 شباط 1963 ،أن يجدوا أية تهمة تمس أمانته ووطنيته .لكن عبد الكريم قاسم ،كانت له طيبة قلب وحسن نية، وهي التي أوقعته في المكيدة التي نصبها له الإمبرياليون وعملاؤهم ،وماتبعه من تأثيرات طالت فئات الشعب جميعها وأوصلتهم الى حيث خطط المغرضون من إزاحة الشخص العادل والنزيه من سدة الحكم.
كيد الإقطاعيين
بحكم صفاء نية عبد الكريم قاسم في تقييمه لطبيعة الصراع بين قوى الثورة وقوى الردة، ولاسيما بعد دحر الطبقة الحاكمة ،من كبار الملاكين والإقطاعيين ،الذين قضت الثورة على سلطانهم ،وخاصة بعد إصدار قانون الإصلاح الزراعي، أصبحت هذه القوى أكثر شراسة ،بعد إقصائها من الحكم ،وأكثر استعدادا للتعاون والتنسيق مع الإمبرياليين من أجل اغتيال الثورة وقيادتها .لقد تغلبت طيبة عبد الكريم قاسم في سياسة التسامح مع أعداء الثورة، وأخطأ في اعتماده على عناصر غير أمينة على مصالح الشعب والوطن ،وأخطأ بسياسة (فوق الميول والاتجاهات) وسياسة (التوازن) بين القوى التي تحمي الثورة وتدافع عنها، وبين التي سعت منذُ البداية للتآمر عليها ، كما أن وسع صدره وعفويته ومخافة ربه قادته الى سياسة (عفا الله عما سلف) .فقد بلغت سياسة عبد الكريم إلى حد إعفاء كل الذين تآمروا عليه ،وحاولوا ،ونفذوا محاولة القتل ،ليدبروا انقلاب 8 شباط1963، وليقُتل على أيديهم فيما بعد .كما أنه أخطأ في تقديره لمكائد الإمبرياليين الذين استفزهم إصدار قانون رقم 80 لسنة 961 ولم يتعظ من أحداث إيران على عهد (الدكتور مصدق) ،والانقلاب الأمريكي الذي قاده ( الجنرال زاهدي) عميل المخابرات الأمريكية ،بعد إقدام مصدق على تأميم النفط الإيراني حيث لم يتخذ الإجراءات الكفيلة لصيانة جبهة الاتحاد الوطني ،وزجها في المعركة ضد الإمبريالية ،فكان تحرك الإمبرياليين ،أسرع منه ،واستطاعوا إسقاط حكومته .ورغم اتباع عبد الكريم قاسم اسلوب جازي الاساءة بالاحسان، وما تمخض عنه من أحداث أودت بحياته، فإنه يبقى شامخاً ، كقائدٍ وطنيٍ مخلص، معاد للاستعمار ،نذر حياته في سبيل تحرير وطنه، من نير الإمبريالية وسعى إلى إسعاد شعبه والنهوض بالعراق في مختلف المجالات الاقتصادية ،والاجتماعية ،والثقافية ،والصحية ،محققاً العديد من الإنجازات رغم قصر عمر الثورة ورغم الظروف التي أحاطت بها، ولو قدر أن تمتد الحياة بالشهيد عبد الكريم قاسم ، ولو لم تقع الأحزاب السياسية كافة بأخطائها تلك، وسبل تعاملها معه، لكنا شهدنا الشعب العراقي اليوم يعيش في أرقى المستويات التي تعيشها الشعوب المتقدمة في العالم أجمع.
مواقف لم يكررها مسؤول عراقي
– في حي الاعظمية اقترب صبي من سيارة الزعيم وبصق على زجاج السيارة، فما كان من المرافق الاقدم العقيد وصفي طاهر, الا وركض خلف الصبي واقتاده الى الزعيم، الا ان الزعيم سأل الصبي قائلا: ماذا يعمل والدك؟ فرد الصبي: عاطل عن العمل. هنا اخرج الزعيم ورقة نقدية من فئة العشرة دنانير واعطاها للصبي بعد ان ربت على رأس وطلب منه ان ينطلق لوالده.
– ذات مرة كان الزعيم يمشي في زياراته الليلية الشتوية في المناطق الشعبية مع احد مرافقيه, وكان الزعيم يتدثر بمعطف عسكري وبدون رتب. وحين وصل كراج علاوي الحلة وقت الفجر قرر ان يتناول فطوره عند امرأة في الخمسين من عمرها ومعها ابنتاها تبيع القيمر والشاي. فجلس الزعيم قبالة المرأة وهي لاتعرف من هو. فسألها الزعيم, هل لك معيل يعيلكم انت وبناتك؟ فردت عليه زوجي معاق في حرب فلسطين سنة 1948, ونحن نسكن في بيت من الطين في منطقة الوشاش, وانا الوحيدة مع هاتين البنتين نعمل في هذه المهنة منذ خمس سنوات. فرد عليها الزعيم وهل شكوت حالك للزعيم, وهنا ردت عليه بعصبية (انعل ابو الزعيم)! وقد تغيرت ملامح وجه الزعيم, ليقول لها (يمه انا صديق الزعيم وهاي ورقة مكتوبة له وان شاء الله الزعيم ماراح يقصر وياج). بعد يومين من اللقاء بهذه المرأة جاء الملازم اول كنعان خليل ليخبرها بأن هذه ورقة مكتوبة بخط الزعيم تقول: كل من تقع هذه الورقة بيده توصيل صاحبها لمقر تواجدي. وبعد ان اخبر المرافق الزعيم بذلك طلب احضارها فورا. وبعد دخولها لغرفته حيته بأجمل التحايا. وطلب من المراسل جلب نفر كباب من مطعم الاخلاص وكان سعر النفر الواحد ستين فلسا وبعد وصول الطعام ,جلس الزعيم امامها وهو يشرب كوب الشاي المخلوط بحليب.وبعد الانتهاء من الفطور, طلب حضـور مدير الشعبة الرابعة في وزارة الدفاع وكذلك مدير عام التقاعد، ووجههما بتخصيص راتب تقاعدي لزوجها مقداره خمسون دينارا شهريا. و طلب من مدير الشعبة الرابعة بأن يخصص لعائلتها دارا من دور الطوبجي. وبعد انصراف هذين المسؤولين, اخرج من جيبه كل مايملك 17 دينارا. فشكرته المرأة وارادت تقبيل يده فابى ذلك وقال لها: ( هل عرفت صاحب الزعيم الذي كتب لك هذه الورقة؟) فردت عليه (لا والله بس هو طيب مثلك) فرد عليها بابتسامة (يمه انا صديق الزعيم) لتثور المرأة باكية (انت الزعيم وانا شتمتك!!؟).
– في منتصف ليلة من الليالي زار مدينة الثورة ورأى رجلا مع ابنته يحفر بئراً، وكان الرجل داخل البئر، وقف الزعيم عند رأسه وسأله: ماذا تفعل في هذا الليل؟ فأخذ الرجل يتهجم على الزعيم، ولم يكن يعلم ان الزعيم هو الواقف فوق رأسه، وعندما علم ذلك ارتبك واخذ يعتذر، فقال له: يارجل لايهمك ولكن لا يجوز ان تسب الموتى..! وبعد ايام قليلة وصل الماء الى المنطقة.
– كان رجل يبيع الكبة في شارع الكفاح بعربته، وكان كلما مر الزعيم في شارع الكفاح يسلم عليه، وفي احد الايام لم يره وفي اليوم الثاني والثالث كذلك، ما دفع الزعيم ان يسأل عنه من صاحب المقهى فقال له انه مريض، فقرر الزعيم ان يزوره. وعندما وصل الخبر لبائع الكبة جاء الى العمل، وعندما شاهده الزعيم نزل من سيارته وسلم عليه وسأله عن احواله، وقال له: يارجل انت بعدك شباب، وتبرع له بمبلغ عشرة دنانير.
– في احد الايام ترك سيارته الخاصة وركب في مصلحة نقل الركاب، وكانت المصلحة انذاك درجتين الدرجة الاولى خمسة عشر فلساً والثانية عشرة فلوس، فجلس الزعيم بالدرجة الثانية ودفع عشرة فلوس، غير ان الجابي امتنع عن اخذ المبلغ فقال له الزعيم: خذ هذه اموال الشعب.
– طلبت منه اخته الحصول على دار فذهب بها الى خلف السدة (الميزرة) وقال لها انظري الى هؤلاء متى ما حصلوا على دار سيكون دورك بعدهم.
14 تموز ونزاهة عهد الزعيم
لقد أجبرت نزاهة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم باقي مسؤولي الدولة ان ينصاعوا لأمره بانتهاج النزاهة في مؤسساتهم، إذ سعى الزعيم أن لاتكون النزاهة مجرد تكثيف لناحية فردية تختص به شخصيا وحسب؛ وما يؤديه هذا التوجه الى حصره في زاوية أخلاقية مجردة و ضيقة، ذلك ان العهد الذي قاده منذ صبيحة 14 تموز عام 1958 برمته، قد نبع ثم اتسم بعدئذ بهذه الصفة المبدئية الرفيعة طيلة تلك الفترة القصيرة التي عاشها ذلك الحكم الوطني. فنزاهة الزعيم قاسم لم تتقوقع حول نفسها في دائرة الذات، بل انها شملت مجمل قرارات وخطوات النظام بأكمله. لقد شملت وانعكست بالتالي على كل جزئيات السلطات المعبرة عن إرادة الدولة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وان مرد ذلك يرجع اساسا لأهم منبعين لتلك النزاهة وهما: (الصدق مع الذات والعدالة في التطبيق). ومن البدهي ان النزاهة لا تكمن في الجانب المادي الملموس وحسب، بل تطغى على مجمل العوامل المعنوية التي تحرك وقائع الماديات. فلو رجعنا الى ابرز انجازات ثورة 14 تموز، نجدها لا تبتعد كثيرا عن مفهومي الصدق والعدالة، فالقانون رقم 80 الذي حدد المناطق النفطية وانتزع حقوق الشعب من الشركات الاجنبية الكبرى وقانون الاصلاح الزراعي الذي أنصف الفلاحين، وقانون الاحوال الشخصية الذي حقق للمرأة شيئا من أحلام المساوة، وإنشاء المصانع والمعامل على قدرالامكانيات المتاحة والذي فسح المجال واسعا امام الانتاج الوطني ودفع بالعمال للتفاني في سبيل ادامة وتطوير ذلك الانتاج الجاد المثمر، ناهيك عن انشاء مستشفيات الجمهورية في عموم المحافظات، وبناء المساكن لمختلف الطبقات وبخاصة الفقيرة منها عن طريق الجمعيات المتخصصة. ان هذه وغيرها كثير لقادرة على اعطاء الصورة الحقيقية الفاعلة لما عملت عليه ثورة 14 تموز من خلال عدسات ناظور النزاهة التي لم تكن تهدف الى نفع مادي او كسب شخصي، بل كان جل مطامحها منصبا اساسا على تكريس الفعل الفردي ليكون عملا شعبيا شاملا، دونما تفريق او تمايز بين جهة او اخرى.
ان هذه النزاهة بالذات قد فعلت فعلها المتين من خلال ابرز اركان السلطة الذين بذلوا ما في وسعهم ليكونوا اقرب الى مفاهيم زعيم البلاد في هذا الجانب الاساسي من تصرفاته واخلاقياته، وذلك من خلال قيامهم بواجباتهم ومسؤولياتهم المناطة بهم بأمانة وشرف. فالذين عاصروا مجريات تلك الحقبة واحداثها وما احاط بها من تفاصيل، لم يسمعوا ابدا عن فساد مالي او اداري قد دب بين صفوف تلك الصفوة الحاكمة على اختلاف انتماءاتها وطوائفها، كما لم يسمع أحد -حتى من قوى المعارضة- ما يشير الى فضائح مالية كبرى حدثت ايام تلك الثورة المجيدة.
اما القضاء العراقي فقد كان مثالا يحتذى به في العفة وطهارة الوجدان واليد، فلم يدر في الأوساط القانونية او الاجتماعية يومها ما يشيرالى عدم نزاهة احد القضاة او تلبسه بتهمة الرشوة، او استغلال المحسوبية او المنسوبية لاصدار قرارات لاتتفق مع القانون او تتجاوز حدود النص، وما قضية الحزب الاسلامي العراقي (كمثال على ذلك) ببعيدة عن صفحات تاريخ العراق المعاصر، ففي عام 1960 تقدم عدد من رواده الراغبين بقيام الحزب الى وزارة الداخلية بطلب وقعت عليه الهيئة المؤسسة ترجو فيه الموافقة على إجازته، الا ان وزير الداخلية يومها رفض الطلب حسب صلاحياته، عندها رفعت الهيئة المؤسسة دعواها امام القضاء طالبة نقض ذلك القرار الاداري، فلما عرضت القضية على محكمة التمييز اجتمعت الهيئة العامة برئاسة رئيس محكمة التمييز واصدرت قرارها العادل بنقض قرار الرفض والزمت وزير الداخلية باجازة الحزب. لايمكن لاي انسان غير سوي ان يلتزم بالنزاهة وامامه كل مغريات الحياة المادية والمعنوية، ولكن الانسان السوي المستقيم يمكنه الوقوف ضد كل تلك المغريات اذا اتسم بالصدق مع الذات المرتكز على الشجاعة ايضا، فالبعد عن كل تلك الدوافع المادية يقتضي من أي فرد التحلي بالشجاعة في رفض الدنيا مهما كانت بواعثها ودوافعها، وذلك النوع من الشجاعة يقتضيه اطار من الضبط والانضباط ايضا، والا تحولت بالتالي الى حماقة وانفعال آني وفوضى، والزعيم عبد الكريم قاسم عرف في كل ادواره العسكرية بأنه كان شجاعا ومنضبطا، ومن هنا جاء تعلقه بالنزاهة والامانة ومكافحة المغريات الحياتية بمختلف انواعها.
سر عدم زواجه
عادة ماينحاز قادة البلدان ورؤساؤها الى استغلال مناصبهم ووجاهتها وتحقيق مآربهم المشروعة، أولها إنشاء كيان أسري بغية تكوين عائلة كباقي الناس، بل أن أغلبهم يطمع الى تحقيق رغباته والتي غالبا ماتكون غير مشروعة، فتمتد يده الى المال العام والخاص على حد سواء، يؤيده في هذا معيته المستفيدون بدورهم من تسيده وتسلطه وإمساكه زمام أمور البلد. إلا أن الحال هذه لم تكن تنطبق على زعيمنا عبد الكريم قاسم، فعلى الرغم من توافر كل مواصفات الرجولة والكياسة والشخصية المحترمة، والتي تعد من المؤهلات والمغريات التي تجذب النساء الى الاقتران بها، فضلا عن المركز المرموق في الدولة كرئيس وزراء ووزير دفاع وقائد عام للقوات المسلحة، لم يكن في بال الزعيم غير العراق والعراقيين ومصلحتهما فقط، وكانت أولويات اهتماماته كيفية النهوض بهما. وعلى هذا فقد وضع خصوصيات حياته ومصلحته الخاصة على الرفوف العليا، من دون إيلائها أي اهتمام ناكرا ذاته، مؤثرا مصير العراقيين على الأنا والأنانية. ومن جملة الخصوصيات التي لم يلتفت اليها الزعيم هي مسألة زواجه..!
وقد تحدث عن هذا الجانب د. هادي عليوي في إحدى مؤرخاته عن الزعيم قائلا:
كثر الحديث عن موقع المرأة في حياة الزعيم عبدالكريم قاسم، ودارت تساؤلات عن أسباب عدم زواجه، وبهذا الصدد يقول المقدم جاسم كاظم العزاوي مرافق الزعيم عبدالكريم قاسم بعد الثورة: لا توجد في حياة عبدالكريم قاسم جوانب اخلاقية سيئة بتاتا، وانه قبل الثورة كانت له صديقة واحدة، ولم يلتق بها بعد الثورة قط. ويروي صحفي كان جارا لعبد الكريم قاسم وعائلته قبل الثورة ان ام عبد الكريم قاسم كانت تقول حين تسالها النسوة عن عدم زواج عبد الكريم واسباب التأخر، فكان جوابها ان عبدالكريم لا يريد ان تحل واحدة مكاني.. الا انها قالت مرة، بعد ان تقدم بابنها العمر، انه سيتزوج بعد ان ينهي شغلة معينة ولم تكن رحمها الله ان تعرف ما هي الشغلة!..يبدو ان عبدالكريم قاسم بعد ان انجز الشغلة (الثورة) عاد يفكر في الزواج حيث يقول محمد صديق شنشل (وزير الارشاد في حكومة الثورة): (ان زيارات عبدالكريم قاسم لمدارس البنات، كذلك زيارة المدارس له، في مقره بوزارة الدفاع، كانت بسبب الفتاة التي خطبها قبل الثورة ورفضته، وهي معلمة في احدى مدارس البنات، وعند زيارته للمدرسة التي توجد فيها المعلمة، رأى خاتم الزواج في يدها).. مما رواه مجايلوه انه عندما كان معلما في قضاء الشامية، خلال العام الدراسي 1931 ـ 1932 طلب الاقتران من فتاة من عائلة فاضلة كانت ايضا معلمة في مدرسة الشامية للبنات، لكن الفتاة كانت ترغب ان يكون فارس احلامها بوظيفة اعلى من معلم لذلك لم توافق على الزواج من المعلم عبدالكريم قاسم، والمعروف أن الكثير من الفتيات كن، في تلك الفترة يرغبن ان يكون فارس احلامهن ضابطا في الجيش. ومن الروايات أيضا يذكر الزعيم الركن خليل سعيد عبدالرحمن احد اصدقاء الزعيم.. وقائد فرقة عسكرية في عهده: (ان عبدالكريم قاسم خطب قبل دخوله كلية الاركان العسكرية ”اي عام 1939“ فتاة من اهل بغداد، لكن عائلتها رفضت لأسباب ربما كانت عشائرية محضة، لكن بعد قبوله في كلية الاركان وما اعقبها من تسلمه مسؤوليات عسكرية صرفته عن التفكير بالزواج)..
ويذكر الزعيم الركن خليل سعيد: ان الزعيم عبدالكريم قاسم عزف عن الزواج بعد الثورة، فعندما سألته مرة عن الموضوع أجابني قائلا: ان لي اربعة ملايين اخت عراقية، فكيف تريدني ان أتزوج؟!.. واذا كان الزعيم قد فشل في حياته الخاصة مع المرأة فانه قد نجح في حياته العامة معها فقد حقق انجازات تقدمية واضحة للمرأة في عهده ابرزها:
1. السماح للمرأة العراقية في تشكيل تنظيماتها النسوية العلنية فتشكل الاتحاد العام لنساء العراق، وافتتح مؤتمرهن كذلك افتتح المؤتمر العالمي للمرأة الذي عقد في بغداد.
2. كما فسح المجال واسعا للمرأة للتعيين في الوظائف العامة المختلفة.
3. عين (نزيهة الدليمي) وزيرة للبلديات في الذكرى الاولى لثورة 14 تموز وهي ليست اول وزيرة في العراق فحسب بل في كل منطقة الشرق الاوسط قاطبة، وهي اول مشاركة للمرأة العراقية في ادارة الدولة العراقية.
4. اصدر قانون الاحوال الشخصية عام 1959، الذي ساوى فيه المرأة بالرجل قانونا في الحقوق والواجبات كما نظم هذا القانون بشكل عادل وتقدمي لاول مرة، الاحوال الشخصية من حيث الزواج والطلاق والنفقة والامومة والحضانة والرعاية وغير ذلك ولا يعترف هذا القانون بالزواج ما لم يكن زواجا مسجلا بشكل رسمي في المحاكم المدنية الرسمية، وبذلك اوقف حالات فوضى الزواج في العراق، ويعتبر اول قانون تقدمي يـساير العصر، لا في العراق فحسب بل في المنطقة، وقد اصطفت ضد هذا القانون وبشكل هستيري الاقطاع والقوى المحافظة والرجعية لالغائه، لكنه ما زال ســاري المفعول حتى يومنا هذا.
شاهد حي يتحدث عن إصابة الزعيم
في مساء يوم الأربعاء المصادف السابع من تشرين الأول 1959 وعند الساعة الثامنة والنصف توقفت إذاعة بغداد عن بث برامجها المعتادة لتذيع خبراً هاماً من قبل الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي يعلن فيه عن محاولة فاشلة استهدفت الزعيم عبد الكريم قاسم وطمأن فيه الشعب العراقي بأنه بصحة جيدة لا تدعو للقلق ودعاه الى الهدوء والسكينة ومنع التظاهر والتجمعات وأخيراً طلب من القوات المسلحة القيام بمهامها في تنفيذ القرارات وضبط الأمن. عن هذه الحادثة أرخ الإعلامي (فؤاد الطائي) وقائعها بلقائه الممرضة التي أشرفت على علاج الزعيم فترة رقوده في مستشفى السلام فيقول:
كانت مصادرنا لتقفي الأخبار ومتابعة الحدث في ذلك الزمن محصورة على جهاز الراديو والقناة الرسمية للتفزيون بالنسبة لسكان بغداد وكذلك ما كانت تنشره الصحف المحلية التي كنا ننتظرها نحن الشباب بلهفة وحماس في ضحى كل يوم قرب المكتبات. كان يتكرر اسم مستشفى السلام الواقعة في شارع النضال قرب ساحة الأندلس كثيراً حيث يتعالج فيها الزعيم المصاب بطلقات نارية في أطرافه حتى أصبحت هذه المستشفى بمرور الوقت وكأنها البديل المؤقت لوزارة الدفاع حيث يتولى الزعيم مهام عمله لما يتم من قرارات واجتماعات مع المسؤولين ومشاورات وزيارات وهو في سريره خاصة وأن إ قامته هناك كانت قد امتدت لأكثر من شهر. صور الزعيم في الصحف تنشر تباعاً مع مستقبليه وهو يحيّي الجماهير من شرفة المستشفى، كذلك وهو يتوسط مرافقيه والعاملين في خدمته من الأطباء والممرضات المبتسمات للكاميرا بانبهار حتى كنا نحس على ملامحهن ذلك الفرح الخاص لرعايتهن لمريض غير عادي وشخصية هامة مثل عبد الكريم قاسم ! وتشاء الصدفة بعد 56 عاماً من ذلك الحدث أن التقي -والحديث للإعلامي فؤاد الطائي- بإحدى الممرضتين في منزلها وقد شارفت الثمانين من العمر لكنها مازالت تحتفظ بتلك الملامح المشرقة متحدية أمراض الشيخوخة التي أبطأت خطواتها بالاستعانة بعكازة لا تفارقها، تقول الممرضة لوريس كريم نصري، وهي من مواليد 1935:
ـ كنت حينها أعمل في مستشفى السلام، وقد انتهت ساعاتي في الخفارة وكان مساء الأربعاء السابع من تشرين الأول 1959 وتوجهت عبر رواق الطابق العلوي للخروج وإذا بي أصبح وجهاً لوجه مع مجموعة مسرعة يتقدمهم الزعيم والدماء تظهر على بزته العسكرية، وفي نفس الوقت أغلقت كل منافذ المستشفى وأشير الي بالعودة والمرافقة للمشاركة في إسعاف الحالة، وعندما تم ذلك أمرني وزير الصحة آنذاك د .عبد اللطيف الشواف الذي حضر مسرعاً بالبقاء مع زميلتي رئيسة الممرضات (غزالة توفيق) وهي مسيحية أيضاً، البقاء حتى الصباح، ومنع أي ممرض أو ممرضة بالقيام بخدمته ودخول غرفته عدانا، واستمر هذا الحال حتى خروجه من المستشفى! وبسؤالها عن تفاصيل أكثر قالت لوريس:
ـ كان قد حضر على وجه السرعة الى المستشفى الأطباء المعنيون إضافة كما ذكرت الى وزير الصحة والدكتور والأستاذ الجراح خالد القصاب والدكتور هادي السباك مدير المستشفى وكذلك مدير الأمور الطبية، فتشكلت لجنة من مجموعهم لفحصه وتقييم الحالة ، وحولوه مباشرة الى غرفة العمليات بعد أن تولى مرافقوه فقط من العسكريين تغيير ملابسه بملابس المستشفى، وكان هؤلاء قد خصصت لهم غرف خاصة مجاورة لغرفة الزعيم طيلة تلك الفترة، وكنا أنا وزميلتي نقوم بخدمته وتقديم الدواء والطعام تحت مراقبتهم وتوجيهاتهم على مدار الساعة، إضافة الى عملهم في الحماية وإدارة الزيارات الخاصة. وتكمل لوريس:
ـ كانت حالته تستوجب التخدير العام وهي الأكثر عملية بالنسبة للجراح والمريض معاً، وبعد نقله من غرفة العمليات بدأت مهمتنا أنا وغزالة، فكنا نتولى معاً أو بالتناوب تعديل الفرش والرعاية المطلوبة، وكانت خفارتي معه في النهار غالبا لأربع ساعات تقريبا وأذهب لأستريح في البيت، في حين تكمل زميلتي خفارتها الليلية له ولبقية المرضى الذين يشاركوه المكان ويتسلى في التحدث اليهم والمرور على أسرتهم يوميا، وأصر الا أن يكون واحدا من نزلاء المستشفى بكل صدق وتواضع.
قلت لها -الحديث لفؤاد الطائي-: عرف عن الزعيم تعوده تناول طعامه من يد شقيقاته محمولاً في (سفرطاس) في مقره بوزارة الدفاع، هل طلب الشيء نفسه خلال إقامته في المستشفى؟ فردت لوريس:
ـ ذكرت لك بأنه يميل الى التعامل معه كمواطن وواحد من بقية المواطنين من المرضى، والتفرد بأكل خاص يسبب له إحراجا، ولم يحصل مرة أن طلب أو اشتهى أكلة معينة أو طلباً خاصاً يميزه عن الآخرين. وكان مجاملاً ولبقاً ومتحفظاً في كلامه، وأتذكر في البداية أنه سألنا أنا وزميلتي عن حالتنا الوظيفية وبابتسامة عن طائفتنا بالضبط ،وأعتقد أنه كان قد عرف قبل ذلك، وقد أحسسنا بمدى احترامه وحبه للطوائف غير المسلمة، وقد فوجئنا ذات يوم بحضور راهبات بملابسهن المعروفة لزيارته، وعرفنا أنهن جاراته في السكن ،وقد جلبن معهن تمثالاً للسيدة العذراء وعددا من الأيقونات، للبركة وهدية لسلامته، وقد سره ذلك وطلب من مرافقيه أن تنقل الى بيته. وتقول لوريس:
ـ لقد شاهدت بنفسي حب الناس له وسمعت أصوات الدعاء والإعجاب، وتكرر مشهد نحر الذبائح أمام المستشفى، وذات مرة جلبوا جملاً ونحروه ليوزعوا اللحوم الى الفقراء، وأتذكر أنه توجه الى الشرفة وهو ببيجامته وعليها الروب وبنعله فاقترحنا أن يلبس حذاءه عند خروجه الى الشرفة فأطاع دون تعليق. وعند زيارة شقيقاته له لم يكن يرغب ببقائهن طويلا خشية التأثير على باقي المرضى، او تجاوز قوانين المستشفى، وأتذكر أن إحدى شقيقاته في أول زيارة له كانت غاضبة ومنفعلة لما حصل وذكرت أمامه بأنها ستتولى قيادة تظاهرات وتحرك الشارع احتجاجاً على تلك الجريمة، فانفعل بدوره ورفض بشدة هذا التوجه، بل طلب من مرافقيه ومقربيه مراقبة شقيقته كي لا تتدخل وأن لا يسمح لها بالخروج من البيت! وبشأن مكافأة الزعيم لها قالت:
ـ كان قد اكتفى بإعطائنا باجات فيها شعار الجمهورية، قدمها لنا بنفسه، ومن مرافقيه ساعات يد هدية تحمل صورته عليها. وبكلمة أخيرة قبل وداعها قالت لوريس:
– كان الإعلام المعادي خارج الحدود قد أشاع بهدف الإساءة لحكم عبد الكريم قاسم ولشخص الزعيم بالذات، بأنه قد طلب ممرضات روسيات، وانهن قد استقدمن من موسكو لتولي رعايته، وبالطبع كنت أنا وزميلتي المقصودتين وكلانا من أبناء الوطن، وترتب على ذلك لاحقاً عندما حدث انقلاب شباط عام 1963 واستشهاد الزعيم فقد استدعيت من قبل الحرس القومي وبحضور منذر الونداوي للتحقيق معي، وشاءت الصدفة أن أحد الجالسين جنبه كانت له معرفة شخصية بالدكتور كمال السامرائي الذي كنت اعمل معه فأنقذني حينها، لكن المراقبة والمضايقة استمرت رغم أني وزميلتي غزالة ليست لدينا أية علاقة بالسياسة، وكنا نؤدي واجبنا الإنساني ووفق متطلبات المهنة وحسب، بدليل أن شاء القدر فيما بعد أن يطلب مني حضور عملية جراحية لرئيس الجمهورية عبد السلام عارف، وقد تعللت لمدير المستشفى بأنني في إجازة لكنه أصر على حضوري على أن أتمتع بالإجازة بعد إجراء العملية، فأية مصادفة تلك، وشتان بين هذا وذاك!








