عادل المعموري
كم كنتُ أتمنى أن لا أشاهد كلباً في قريتي، رؤيتي له تثير في نفسي الحنق والغضب ممزوجين بخوف داخلي، خوف ينمو في صدري كل يوم، وكل عام، حتى كبر معي ،كل الناس تتأقلم مع الكلاب وتألفها إلاّ انا،حتى قررتُ ان لا أعود إلى قريتي ورؤية عائلتي لشدة خوفي من أن أتعرّض لعضة كلب متهور ،لا يمكن أن أنسى ذلك الكلب الذي جاءني مهرولا، دالقاً لسانه الأحمر وهو يتراقص بين أسنانه، وناباه يلمعان كنصلي سيف بتار ، لم أستطع الجري مع الأولاد ، فقد تعثرت بحجر،اعترضَ قدمي الصغيرة ، سقوطي على وجهي كان كافيا لتقريب المسافة بيني وبينه، وقفَ فوق رأسي وهو يلهث ثم استجمع قوته وشرعَ يغرز أنيابه في ذراعي وجانب خاصرتي ،كان يدور حولي يبحث عن مكان رخو في أعضائي لينهشه ،وأنا أجاهد كالغريق للتخلص من براثنه وأصرخ ،فيما كان الأولاد يلوذون وراء بناية مسجد القرية يتضاحكون، الآن أنا في ريعان شبابي وفي كامل قوتي ورجولتي ولكني لا أقوى على الوقوف بوجه كلب حتى لوكان بعيدا عني ،محاولاتي ذهبت عبثا وأنا أطمئن نفسي أن لا خوف من كلاب القرية ، أحيانا عندما أمر بجانب البيوت لأعرّج على بيتي، أرى كلبا قريبا مني ، يهرب مني قبل ان اهرب منه، كلانا يهرب من صاحبه في الاتجاه المعاكس ،تلك حالة نفسية لم أستطع تجاوزها رغم دراستي في الكلية وقراءتي لمناهج علم النفس، أقضي خمسة أيام عند خالتي في المدينة أدرس صباحا وأبيتُ عندها مساء ،السبت والجمعة أعود فيها لبيتنا أقضيهما بين أبوي واخواني الصغار . ذات صباح أمسكني أبي من ياقة دشداشتي وهوينهرني غاضبا :_من يطاردك حتى جئتني تلهث …قل لي من يطاردك ؟ _لا أحد يا أبي ..
_إذاً.. جئتَ مفزوعاً من رؤية كلب ..أليس كذلك ؟…اطرقت برأسي خجلا ،حدجني بنظرة يشوبها الأسى وتمتم :
_كلاب القرية تعرفك فلا داعي للخوف منها، إنها تنبح على الغريب فقط ..هل تعي ذلك ؟
_أنت رجل ،بامكانك أن تنحني لتلتقط حجارة من الأرض، فيهرب الكلب من مواجهتك .أو تحمل عصا أفضل .
_يا أبي ..لقد جرّبتُ كل هذه الأشياء ..الكلاب لا تهرب مني ،لا أدري لماذا تهاجمني أنا بالذات؟!
ربّت على كتفي ،دفع الباب ليدخل وهو يتمتم :
_ُيخيّل إليك ذلك ..وهم في وهم ..قالها واغلق الباب بشدة ..لم أشأ أن أدخل خشية أن تؤنبني أمي ..تركت المكان واتجهت نحو النهر ،جاست عيناي المكان ،جميل ..لا كلاب في هذا المكان ،جلستُ على الكتف الترابي أنظرإلى الماء وهو يجري، قاطعا قريتنا لنصفين، ليغيب في نهاية التل الكبير في جانبها الشرقي ،فجأة شعرتُ بظل لكائن ضخم يغمرني من الخلف ـالتفتُ وجدته أمامي تعكزت على مرفقي كي أنهض ،أمسكني من كتفي بتؤدة وجلس قريبا مني ،قال لي وهو ينظر إلى صفحة الماء التي ينعكس فيها شعاع شمس الظهيرة ،:
_كيف حال المدينة ياولد .؟كان صوته خشنا كخوار الثور ،تخرجُ الكلمات من بين أسنانه السوداء كدوّي المدفع، استرسل قائلا :
_أنا أعرفك منذ زمان بعيد، أنت ابن الحاج كَطوف أليس كذلك؟
_………….!
_أنا لستُ مجنونا كما يشاع عني ،ولكني أحب حياة البساطة ،ليس لي أحد،لم أتزوج رغم كبر سني،لا.. لا.. أنا لستُ كبيرا كما تتصور،تلك اللحية والشعر الكث وملامحي القاسية وأنفي الكبيرليس دليلا على كبر سني، ولكني لم أتعدَ الأربعين ،أنا لا ألتقي هنا كثيرا أسوح في أرض المعبود في كل مكان ،لي مكان خلف ذلك التل أنام فيه لوحدي ،أدار رأسه الضخم نحوي وصعّد من نبرة صوته :
_أنا لا أخاف الكلاب كما تخافها أنت ..لا تستغرب كل الناس تعرف أنك تخاف رؤية الكلاب ،ربما حتى أهل المدينة ..ولا أستبعد ان قضيتك معروفة لدى الصحافة ..قالها وقهقه يصوت عال، حتى ظننتُ ان النخلة القريبة مني ستسقط في النهرلشدة اهتزازها من قوة صوته ..وضع عصاه على كتفه وونهض قائما، أشار الي بسبابته اليمنى قائلا :
_دواؤك عندي أنا ..أنا من سيجعل الكلاب تهرب منك ولا تقرب إليك أبدا ..قالها وانسحب وهو يرمي بثقل جسده على جهة واحدة لعطب في ساقه اليمنى ،ربما عوق قديم ،أو جراء حرب من حروبنا المستديمة ،تلك الليلة لم أستطع النوم ،أفكر بكلمات هذا المجنون الذي اسمه (مرهون ) نعم مرهون ينادونه مرهونا ولكن اسمه صابر ،لا أدري لماذا يرفض أن يسميه أحد (صابر )،يقول :إنّ دوائي عندة ،هذا المجنون أيستطيع أن يفك اسار الخوف أوالرهبة عني؟ وخيرة الاطباء والمعالجين النفسيين وحتى شيوخ الطريقة والروحانيين عجزوا عن ابعاد تلك العلة عني.
،خطفتْ أمامي عبارة (خذ الحكمة من أفواه المجانين )ربما نعم، وربما لا ..لابد من وجود حل ،سأذهب إليه صباح السبت وسأبحثُ عنه حتى أجده ،ولكن كيف سأبحث عنه والكلاب تحوم في أرجاء القرية ؟هل أصطحب معي أحد افراد قريتي وأذهب ؟لا.. لا أريد أن يطلع أحد على ماسيكون.. ربما هو سرلا يريد ان يطلع عليه غيري ، أحد اخواني الصغار ، نعم وجدتها ..سأصطحب معي مولود ،هذا مولود أخي الصغير عمره احدى عشرة سنة ،عند الصباح ايقظته واخذته معي دون أن تعلم أسرتي بالامر ،بعد ساعتين من البحث في أرجاء القريةوزواياها ،وأنا ألوذ خلف أخي مولود خوفا من بطش الكلاب الضارية ..استطعت أن أجده قادما من أحد البيوت المتاخمة لقريتنا ،وقفنا ننتظره ونحن ننظر إليه قادماً يحرث الارض بقدميه فيتطاير الغبار من حوله وبغمر وجهه ..عندما اقترب منا ابتسم دالقاً لسانه من بين أسنانه المسوّسة وقال :
_ها ..أكنت تبحث عني ؟
_أي والله.
_تعال معي.. حدج اخي بنظرة تفحص وانسحب يسحل بقدميه الحافيتين ،أجلسني على دكة ترابية قرب مغارته ورمق اخي مولود بنظرة مريبة وقال :
_المسألة ياولد بسيطة ..يجب أن تؤمن بما أقوله لك ..إإتني بناب كلب ميّت
_ماذا ؟
_لا تستغرب ..علاجك الوحيد ان ترى كلبا ميتا وتنتزع نابه من فمه،ابحث عن كلب ميت وانتزع نابه باي آلة حديدية.
_وماذا أفعل بالناب ؟نهض من جلسته ومخط ثم مسح مخاطه بردن ثوبه واردف :
_تلك معلومة مجربة ولن تخطئ أبدا ..أينما وجدت كلبا ميتّا ،حتى لوكان هيكلا عظميا لكلب ..المهم في الأمر ان تنتزع نابه وتحتفظ به وأدخل بين الكلاب الضارية ،ستخافك فور اقترابها منك ،..قال ذلك ودخل الى مغارة التل وتمتم :
_انتهت المقابلة ..اذهبا بحفظ الله ،..أردتُ أن أساله ،أشار إلي بعصاه وقال :
_قُضي الأمر ياولد ..عدت الى البيت وأنا أفكر بمادار بيني وبين ذلك المجنون ،هل من المعقول أن يكون صائبا في وصفته تلك ؟ أم يضحك علي وبسخر من معرفتي وعلميتي ودراستي..سأجرب ولن أخسر شيئا ،لا بد أن أتحلّى بالشجاعة ولو لمرة واحدة في حياتي ،عليّ التخلص من هذا الكابوس بأي ثمن كان..قبل مغيب الشمس جاءني المجنون ليطرق باب بيتنا ..المصادفة وحدها التي جعلتني أفتحُ الباب ..سحبني من ذراعي وقادني ممسكا بي بقبضته القوية ،سرت معه منقادا له وقلبي يضطرب خوفا وهلعا ،قطعنامسافة ليست بالقصيرة ، ثم توقف هنيهة وقال لي :
_وجدتُ كلبا ميتاً في هذه الحفرة ..أتراها.. تلك القريبة من الشجيرات اليابسة ..سحبني من يدي واقترب من الكلب الممدد في الحفرة ،جثةكلب متيبسة ،تهرّأ لحمها ولم يبق سوى الهيكل العظمي ورأسه المسلوخ وفمه المفتوح ،نظر إلي متحمسا قائلا :
_اقتربْ ياولد ..تعال إ لى هنا ..لا تخف ..أنظر اليه.. إنه ميت وفمه مفتوح ..تعال وانتزع الناب من فمه ..لاحظَ انني بداتُ ارتجف ،أحس أني أنوي الهروب ..أمسكني بكلتا يديه وصاح بي :
_هيا انتزع الناب من فمه ..كن شجاعا ولا تخف منه ..هيا مد يدك ؟
_أرجوك.. أرجوك، أعفني من تلك المهمة ؟، هتف بي :
_انتزع نابه واقهره.. إنه مهزوم ..لايملك قوة إزاء قوتك ورجولتك ..هيا ياولد ..قام على الفور بمسك يدي وأدخلها في فم الكلب وأنا أكاد أفقد وعيي ..انتزعتُ الناب من فمه ..نظرَ إلي ضاحكا وأخرجَ من حببة خرقة من جلد حيوان وقال لي :
_ضع الناب في بطن الجلدة ..وضعتُه في وسط الجلدة وطويتها على الناب بقوة :
_تعال معي ..سأتركك وسط الكلاب وستعرف صدق قولي ..هيا أسرع ..لمّا تباطأتُ حدجني بنظرة غاضبة وصرف على أسنانه المنخورة، سحبني من ذراعي بقوة ..وراح يركض وهو يجذبني إليه كلما حاولت الإفلات من قبضته ..فجأة وجدتُ نفسي وسط ثلاثة كلاب ..رأيتُ المجنون ينسحب عني بعيدا ينظر الي ضاحكا ..الكلاب أخذتْ تقترب مني وتنبح بصوت عال .. أصبحتْ قريبة مني بخطوتين ،أغمضتُ عيني واستسلمت،لا سبيل الى المقاومة ،هاهي تفتح أشداقها ،ستمزقني أرباً..ضغطت بقبضتي المرتجفة على الناب فجأة توقفتْ الكلاب عن النباح، أغلقت أفواهها واستكانت ملتزمة بالصمت ، ونظر ت إلي بانكسار ،لوت أعناقها ..ثم انسحبت وراء أعواد القصب الكثيفة،وقفتُ والدهشة تعقد لساني.. لأول مرة أشعر أني قوي وأنني أحتفظ بتوازني، سرتْ رعشة باردة في مفاصلي، أنعشت فؤادي ، وسكن روعي، تبعتُ الكلاب وأنا أكاد أن أبكي ، رأيتها تهرب مني لتدخل في أجمة القصب الكثيف ،تراجعتُ القهقري وعيناي تبحثان عن المجنون ،لم أجد له أثرا ،عدتُ وحيدا والفرح يعصف بصدري ،الهواء العليل المنبعث من المروج الخضراء يدغدغ مسامات جسدي المتعرّق،لم أعد أخاف من شيء ، أنا سعيد ، أنا حر، كم تمنيتُ أن أصرخ بأعلى صوتي .
..طوال مسافة الطريق نحو البيت .. أسير بقامتي مزهوا، منتصبا بشموخ ..أول مرة أشعر أني أنتمي لهذه القرية الجميلة، كل شيء رأيته جميلا في قريتي التي كرهتها عند أوّل عضّة كانت في ذراعي الغض .