عباس باني المالكي
( النص هو محور الأدب الذي هو فعالية لغوية انحرفت عن موضوعات العادي والتقليدي، وتلبست بروح متمردة رفعتها عن سياقها الاصطلاحي إلى سياق جديد يخصها ويميزها)*.. اللغة عند الشاعر ليست لغة مشفرة من أجل طرح رؤاه ضمن السياق المرجعي للغة، بل نجد أن اللغة المستخدمة من قبل الشاعر لغة عميقة يبحث فيها عن حلمية اللغة من أجل إحداث الانزياح، لحدوث الصدمة المعرفية للمتلقي وبذلك استطاع في كثير من نصوصه أن يوجد له منفذا خاصا يؤدي به إلى خارج السياق الأدبي المرجعي ، وما جاء هذا إلا استجابة لمشاعره الدفينة في أعماقه ومن أجل خروج هذه المشاعر إلى الخارج على شكل هذه النصوص وبذلك تكون نصوصه ، هي إعادة صياغة المسميات ليس حسب سياقها وحركتها في الحياة بقدر ما يسعى الشاعر إلى إعادة توازنها ، وحسب ما يراه فيها من حركة دفينة، أي أنه لا يراقب الأشياء حسب حركتها الطبيعية بقدر ما يعيد صياغة حركتها وفق مستوى البنية الذهنية، لكي ترتقي إلى مستويات طاقة التخيل الرؤيوية لديه .هذا ما نجده في مجموعة الشاعر قاسم محمد مجيد ( حياة قاحلة ) حيث يعطيها الرمز الذي تحدده رؤاه في الخطاب الشعري ، وبذلك اصبحت النصوص تمتلكه و تملكه إلى حد الانتماء إلى معرفة ذاته، كما اصبح النص لديه رحلة إلى داخل نفسه ومحاكاة إلى الحياة، لذلك نستطيع أن نقول إن اللغة بقدر ما هي تعبير عن الذات بالكلمات بقدر ما هي تعبير عن هاجسك، حين تدركه في لحظة الصمت والهدوء لتغرقك في عالم يمتد بخيالك إلى مساحات واسعة ،وحسب الرموز التي تعطي سياق الدالة وفق مدلولها المعنوي ، أي أن الشعر هو الانغماس بالذات من أجل أن تري العالم حولك وفق طاقة هاجس خيالك ، الذي يحرك معناه ما تمتلك من جزالة اللغة وبلاغتها الحية ، هذا ما نجده في هذه المجموعة …
ص11 نص (انه صندوق فارغ)
(لا يملك أجرة السفر / لا مأوى في مدن الضياء /أو قطار عابر يقله…. /لمحطة أخرى /ولا.. أهل بانتظاره /خيل إليه /العالم اقفل أبوابه.. بوجهه /وان الزمن /بقي له قصير /ويمضي سريعا /هكذا وببساطة!! /صار مثل… صندوق فارغ /وضع في العربة /الخلفية /لقطار ).
حينما لا تحقق الحياة التي لا تعطي الإنسان بعده الدلالي لإنسانيته ، يسبب إليه الضياع في الإدراك الوجودي الحي في الحياة ،ويتحول كل شيء حوله إلى هامش لا يرتقي إلى مستويات حضوره الذاتي، ويجعله يتدرج ضمن سلوكيته بفقده الأمن الذاتي ، ما يجعله يعيش حياة مبهمة لا يجد فيها ما يحقق أمانيه ، و ما يجعله غير قادر على التغير من أجل والوصول إلى ما يحلم به ، لأنه لم يعد يمتلك أجرة السفر أو القدرة على التغيير ليجد الحياة التي يبحث عنها ضمن قيمته كإنسان ، لأنه فقد الأساس الإنساني في المجتمع( الأهل ) لهذا يتحول إلى هوامش (لا يملك أجرة السفر / لا مأوى في مدن الضياء /أو قطار عابر يقله…. /الى محطة أخرى /ولا.. أهل بانتظاره ) ، أي يصبح منتفي القيمة فلا شيء يوصله إلى وجوده الفاعل بالحياة ، لكنه يحاول أن لا يصبح هامشا لا قرار له في ايجاد من يوصله إلى ما يبحث عنه .والشاعر بنى دلالاته الإدراكية على إحساس اللحظات غير المنتمية إلى الوعي ، لكي يتجنب الانغلاق بالتيه الذي يلغي وجودية الإنسان ، وهو وبقدر أشر هذه الأزمة وبين تحكمات الظروف المحيطة التي تؤدي إلى كل هذا التهميش، وقد استطاع أن يبني الترابط المعنوي في رؤيته الموحدة ، لكي يؤشر كل هذا من خلال الاستعارة الدلالية في مجتمع غير مرتبط بمعناه ، و يكون الانتماء فيه غير صميمي وفوقي لأنه لا يملك الحضور القيمي ، وهذا ما يجعل حياته تتهمش ضمن هذا المجتمع ، فيبقى متوحدا مع ذاته . والشاعر استطاع أن يعطي الأبعاد في سيكولوجية الفرد ، حين يكون كل شيء حوله قاصرا عن معناه الذي يوصله إلى الامتلاء من الفراغ الذي يحيط به، وقد أقفل كل شيء أبوابه بوجه، فكيف يجد نفسه ضمن هذا المجتمع؟ وهذا ما زاد توحده وضياعه إلى حد يتحول إلى صندوق في اخر قطار الحياة ، و أن أي تغيير لا يمر به انه تغير فوقي وغير حقيقي ، (خيل إليه /العالم اقفل أبوابه.. بوجهه /وان الزمن /بقي له قصير /ويمضي سريعا /هكذا وببساطة!! /صار مثل… صندوق فارغ /وضع في العربة /الخلفية /لقطار ) والشاعر بنى المدلول قبل أن يؤشر الدلالة لكي يبقى التناظر الدلالي متوهجا بعمق أزمة الإنسان المتوحد مع ضياعه ، أي ظل يصعد التوهج الدلالي لكي يعطي لغته الرؤية البصرية، التي تشير إلى حجم الازمة الإنسانية ضمن مخاض الوجع وتيه الإنسان الفرد ضمن سلوكيات المجتمع الفوقي والقصير بالرؤيا …
ص28 نص (تذكرة )
(ليت حزنه /مثل الضباب /بل هو /سفَن /تصطف على ساحل البحر/تذكرهم /بالبيوت القديمة /وصوت المزاليج /لبيوت الإحزان /ثمة ليل في رأسي /لم يعد فيه وقُت للسلم /رأسي!! /كدفتي باب تنغلق على الظلمة /مُنذ متى؟ /حين كُنت….. تذكرةً /تذكرةً /مقضومة بيد مفتش القطار )
.
يستمر الشاعر بطرح رؤاه ضمن محددات الدلالة ، لكي يوصل المعنى بهدفية بيان حجم الفاجعة في أزمة الإنسان الذي يعيش في مجتمع غير واضح بأهدافه وضبابيته في الانتماء ، فبعد أن طرح ما يؤشره في ظاهرية الإنسان وأزمته المتوحدة مع ذاته ، يحاول في هذا النص أن يبين حجم تأثير ما يعيشه من الداخل ، حيث يتحول كل شيء إلى مؤشرات حزن وضبابية في الحياة التي يعيشها الفرد في حياته ، و يحاول أن يكشف تجربة الإنسان الذي يحاول أن يكشف المضمر والمسكوت داخله .الشاعر يبني نصه الشعري على أفقية لكي يرتقي بخطابه الشعري إلى شعرية الحدث ، أي أنه يكون النص الاندماجي بين ظاهرية المعنى وعمق دلالته التي تؤشر إلى الاحتفاظ بالمدلول كالهدف النهائي في الكشف ، لهذا يحاول أن يعيد الحاضر إلى الماضي ، لأن الحاضر لا يمثل إلا التيه كالسفن تصطف على ساحل البحر ، لكي يتم إنقاذ الحاضر من أزمته وإنقاذ الإنسان من حزنه ،لأنه لم يعد متصالحا مع ذاته بسبب كل هذا، ما يسبب الصراع داخل الرأس ، لأن لا يوجد انفراج فيما حوله من أجل إزالة أزمته (ليت حزنه /مثل الضباب /بل هو /سفَن /تصطف على ساحل البحر/تذكرهم /بالبيوت القديمة /وصوت المزاليج /لبيوت الإحزان /ثمة ليل في رأسي /لم يعد فيه وقُت للسلم /رأسي!! ) وحتى حين يحاول أن يحدث النقل أو التغير لا يستطيع أن يفعل هذا لأن هناك ، من يمنع كل هذا وهي التراكمات الموجودة في المجتمع الذي لا يريد أن يسعى لاحداث التغيير ، أي أن كل شيء مقضوم (كدفتي باب تنغلق على الظلمة /مُنذ متى؟ /حين كُنت….. تذكرةً /تذكرةً /مقضومة بيد مفتش القطار ) يبقى مجرد تذكرة لا توصله إلى غاياته التي ينشدها، لأن كل شيء فقد المعنى ,ولم يعد هناك من مبررات يسعي من خلالها إلى احداث التغيير، وأصبح كل شيء مسكوتا عنه ،ولا يبقى سوى الصراع داخل الرأس (ثمة ليل في رأسي) أي تحول كل شيء إلى سوداوي ، لأنه وصل إلى حالة اليأس باحداث التغيير في الحياة حوله .









