ثقافية

التناوب السردي وتناظر الرؤى في رواية (العروج الى شيراز)

 نعيمة مجيد

عند القراءة في رواية ( العروج الى شيراز) للروائي عباس لطيف تتداخل ثلاث شخصيات روائية للمبنى السردي الروائي وهم { الاول الغائر في عمق التأريخ المسرود عنه والساردان الاخران وهما اللذان عاصرا الحرب الطاحنة بين البلدين في الزمن الحالي أي في العقد الثمانيني من القرن العشرين والشخصيات الثانوية في الرواية ,

فتستهل رواية (العروج الى شيراز) بدخولها المباشر الى المخطوطة من خلال استغوار شخصية ( شمس الدين حافظ )المستل من العصر القديم  لمدينة شيراز والتي توالى على حكمها السلطان المستبد والحاكم الضعيف و القوي المتجبر والمحتل وطاحونة الحروب المتلاحقة عليها عبر القرون الماضية لنكتشف من خلال القراءة فهذه الرواية ونستعلم منها ان الميتا سرد كان حاضرا وبقوة في طرح الساردين الفاعلين بدلا من المؤلف (عباس لطيف ) الذي أجاد في ايهام المتلقي بأنهما الساردان الحقيقيان لهذا العمل الروائي , فنجد اننا ماضون في قراءة مخطوطة   ( ترجمان الاسرار) التي دونت من قبل الكاتب السارد الاول (ميرقرباني  ) الايراني الجنسية و الحاضر في الزمن الحالي( كان ابي يصغي اليِ كثيرا ويضحك بقوة وهو يخاطب امي : أخيرا انجبنا فيلسوفا لايحب النساء والخمر والصيد مثلي ,ولكن انا أحبك ,وابننا مير يعشق الكلام والتفلسف ,وانت تجيدين الخياطة وتعشقين الصلاة ويبدو ان بيوت شيراز تحمل في طياتها التناقض وكما يقول ابنك الفيلسوف ان البيت الذي يحمل التناقض في طياته هو بيت ناجح )ص40 هنا نجد ان السارد الضمير المتكلم (ميرقرباني ) ,يستعرض  تأريخ مدينة شيراز الايرانية من خلال المخطوطة قديما وحاليا ومدونا اسرار التأريخ الغابر الذي حل بهذه المدينة , مستنطقا بطل المخطوطة ومستخدما الضمير الغائب في سرده للحديث عن أسرة البطل (شمس الدين حافظ) في (ترجمان الاسرار) وقد دونها باللغة العربية لكي يتجنب وقوعها بيد السلطة العسكرية في مواقع القتال ,انه كان ينوي طبعها ..

 (شمس الدين) ..ابني ..مابك أراك مسهدا؟ , نظر اليها ..انت تعرفين ياأمي انني أعشق السحر والفجر والليل..امي لاأحب ان اراك حزينة…) ص 9 وهو البطل العليم للمسرودة ,  ليغوص في عمق الزمن مسهبا في نشأتها عبر العصور المنصرمة واصفا بهاءها وجمال طبيعتها ومعرجا الى معالم المدينة متخذا منه السارد الثاني العليم والفيلسوف وبطلها المحوري في المخطوطة  وأناسها الذين انقرضوا عبرالزمن الماضي وتوالت عليها الحقب التأريخية  , وبأزمان متلاشية وفي عجلة مستمرة لتستنسخ التأريخ والاجيال المتسارعة للصراع والاقتتال الذي دار بلا هوادة فيه , فيبزغ من بين ركام العصور البطل والسارد الاول(مير قرباني)….يستنطق   الحدث التأريخي والزمن الحالي حيث الحرب الايرانية -العراقية وويلاتها والمتأججة في ساحات الاقتتال ,  ليظهر ساردا آخر بعدما يجد المخطوطة المفقودة في جبهات القتال , فيقرأ السارد الثاني وبضمير المتكلم ويكمل لنا ويروي الحرب في الجبهة العراقية المقابلة ألا وهي شخصية ….(جلال شاكر…) الجندي العراقي في ساحات الحرب { انا الجندي المكلف جلال شاكرأحد شهود وقرابين الحرب التي اندلعت واستمرت طوال سنوات من الجمر والوجع والخسارات }ص23 وهو الجندي العراقي عندما غادر الجيش الايراني بعد القتال  والانسحاب نحو الخلف ليتابع مسيرة السرد بصيغة الضميرالمتكلم  , مطلعا على تفاصيل المخطوطة المفقودة والمكتوبة باللغة العربية والايرانية المختبئة في حقيبة الجندي الايراني ,متحدثا لنا عن شغفه للمطالعة ,{ أنا أعشق القراءةوأكتب بعض القصص القصيرة …}ص24 وهنا نجد أنه يلتقي مع  السارد الاول بحبهما للقراءة والكتابة وهو الذي يتقن الكلام باللغة العربية وينوي طباعتها ,واصفا البطل المتعبد والزاهد رجل الدين( شمس الدين حافظ ) الذي عمل بالمخبز ويعلم الطلاب التقوى وينظم الشعر ويحب الجمال ويعشق النساء ويرفض الحاكم المتسلط  ليعيش متصوفا منعزلا بعد الغزو وانتشار الجيوش وما حل بمدينة شيراز بعد احتلالها من قبل الغزاة. وهنا نجد من خلال السارد الثاني طرح امنياته للعودة الى بغداد واللقاء بحبيبته ليلى وهو اسم رمز للعشق مستل من عمق التأريخ العربي لما يوحي الى الحبيبين( قيس وليلى ) ساردا لنا ويلات القتال في الجبهات الحربية ومعاناته لفراق أهله بعد ان سيق الى الحرب حال تخرجه من الكلية التي قضى فيها اربع سنوات بين الدراسة واللقاء مع الحبيبة ليلى رفيقة الدراسة , { أملي ان اعود الى بغداد وأحسم الحرب مع رياض شقيق ليلى وأتقدم الى خطبتها} ص126

ونلاحظ ان زمن الرواية يمتد مابين العقد الثمانيني للقرن العشرين وحتى بداية الالفية الثالثة  حيث سرد الاحداث من قبل السارد الاول وتأريخ اسرته ( أمه وابيه وحبيبته بهار التي يعني اسمها كل شيء جميل وحسن ) اي انه يعشق الجمال ومتظامنا معه ,وكيفية مواصلته للحياة رغم قساوة الحرب ,كذلك السارد الثاني يشاطر السارد الاول الاحزان والمآسي المتناوبة على كلا الطرفين في طاحونة الحرب الدائرة بين الطرفين … لكنه يواسي نفسه بالغور في عمق التأريخ ليقص علينا ما حل بمدينة شيرار , ولإحياء الحديث عن المسرود عنه (شمس الدين حافظ ) الزاهد والفلسوف والواعض ,  ليطلعنا بالاحداث التأريخية وظلم الجيوش الغازية ومايحل بهم من دمار .لكن السارد الثاني ( جلال شاكر) بعد انتهاء الحرب الطاحنة بين البلدين المتجاورين يحلق مسافرا الى مدينة شيراز ويطوي صفحة الزمن سريعا ,بلف ثلاثة عقود مظلمة مربها العراق ومادار بها من حروب دامية وانهيارات متوالية امام الغزاة وسحق الشعب العراقي بطاحونة النظام المستبد التي تلت الحرب ,و برحلة قصيرة مقتضبة دون ان يدخل في تفاصيلها وأحداثها الجسيمة التي حلت بالعراق والمنطقة بعد الاحتلال الامريكي ,ليصل الى الحلقة المفقودة للربط بين ابطال الرواية وجمع الشمل بين السارد الاول والثاني ,لايصال المخطوطة المفقودة الى كاتبها الحقيقي , لتكون حلقة دائرية ونقطة تلاقي بين جميع شخوص الرواية , راسما النهاية لاحداث الرواية التي باتت مبتورة بفقدان البطل اوالسارد الاول للمخطوطة  وعدم عودته الى اسرته بعد نهاية الحرب بين البلدين فيحل بدلا منه ابنه مكملا    مشواره وطبع المخطوطة التي كان يحلم ابوه بنشرها. وفي النهاية نجد انفسنا قد اطلعنا واستمتعنا بالعمل الروائي المكتمل والرصين في الاسلوب واللغة والدخول لتفسير الحياة وتضمينها العنصر الفلسفي والغور في مكامن وجودها وجوهرها لكي يعيش الانسان بسلام وحب مع الاخر .

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان