ثقافية

قراءة لديوان الشاعرة التونسية ريم القمري "النساء انتظار" أحزان الفراشة الزرقاء

واسيني الاعرج

 

من هنا ينفتح ديوان (النساء انتظار) على الوقت الذي هو مقتل جميع الكائنات وحياتها أيضا، وينتهي العاشق المعذب في محطة انتظار باردة. وكأن دورة الزمن الأولى في هذا الديوان اكتملت لتبدأ أخرى، لا أحد يعرف تفاصيلها. ليس الحرق، في احتراق الفراشة، هو المهم ولكن الرحلة الشاقة والمخيفة نحو النار. في قلب كل شاعر شيء من خوف بروموثيوس  الذي خلق الإنسان ونفخ فيه من روح الاله الأكبر وسرق الشعلة ومنحها بسخاء للإنسان. لحظة الاقتراب والدوران حول الشعلة هي الابهى والأكثر شدا للانتباه وللشعر. وكأنه كُتِب على الفراشة العيش في الظلمة أو الموت حرقا. نراها تدور وتدور. تبتعد وتقترب. تحسب المسافات ولكنها في لحظة غير مرئية تختلط الأرقام ونسمع فجأة حرقة الرفرفة الأخيرة لتتحول الفراشة بعدها الى رماد. هي تعرف جيدا أن النور الذي تريد أن تسكنه لا يحدث بدون احتراق ولكنها تفعل. تفعل بعمق. ربما كانت كل امرأة في الجوهر فراشة. ولهذا مآلها النور ثم الحرق في ظل علاقات مرتبكة وغير حقيقية تكسر منذ اللحظة الأولى كل حياة. وكل شاعر ايضا فراشة عندما يجمع فجأة ادواته المسالمة وموسيقاه ولغته ويلقي ينفسه في أتون القصيدة.  

هذا العنفوان غمرني وأنا اقرأ ديوان: النساء انتظار، للشاعرة التونسية المميزة ريم قمري. إلى اللحظة لم ألتق بالشاعرة إلا من شعرها ولغتها وألقها الطفولي الجميل. الصدفة لاقتنا على مساحات الأسئلة والمراسلة. والصدفة نفسها جعلتني أكتب هذه الكلمات استجابة لشاعرة أصبحت بسرعة صديقة وكأني أعرفها منذ زمن بعيد. لا أعرف السبب بالضبط وليس مهما أن أعرفه، فقد لمست بسرعة في شعر ريم ما يشغلني جوهريا في فعل الكتابة: الهشاشة والابتعاد عن اليقينيات الصارمة. الهشاشة التي تسكن كل مشروعها الشعري الذي بدأت ملامحه تتضح. اتساءل احيانا وبصدق لامتناه كيف لإنسان جميل مثل ريم قمري، وربما مرتاح حياتيا، أن يحمل في جسده الصغير والهش كل هذا الكم من القلق والأحزان والخيبات والانكسارات؟ أهي الحياة التي لا ينفذ من حرائقها أحد، أم هو الشعر بوصفه خزانا للحظات لم تكتمل أبدا ولن تكتمل أيضا إلا بموت الشعر؟. 

قرأت الكثير من قصائد ريم، مبعثرة ولم أكوّن الا فكرة مجتزئة عنها. فكرة مرتبطة باللحظة التي تكتبها ريم وتنشرها هنا وهناك، وتتركنا في حيرة نبحث عن تلك اللمسة الآسرة والهاربة التي اسمها الشعر. لأول مرة أقرأ لها ديوانا كاملا مكنني في النهاية من تكوين فكرة عنها، والقبض على سلسلة من اللحظات هي المحرك الأساسي لشعر ريم في هذا الديوان على الأقل. إذ ترتسم فيه بوضوح كبير ملامح تجربة حية تبحث عن مسالكها في دهاليز الشعر وأدغاله، وترتسم حياة في حركيتها، بانكسارها وشططها وخوفها من آت لا أحد يدرك ملامحه. حيث لا قوة إلا قوة الكتابة للوقوف وجها لوجه مع زمن يتلون فيه البشر والمحيط بسرعة. إن الدهشة هي أخت الشعر، وهي التي تنجز معناه وكينونته القوية. دهشة الحياة. دهشة الحب. دهشة الخيبة. دهشة اللغة أيضا. كلما دخلنا عالم ريم قمري الشعري احتجنا إلى أن نتسلح بسلسلة من الوسائل الحامية: الكثير من الحب للناس، لمن نحب، للعاشق حتى ولو انفصل عنا كالضوء الهارب ولم يمنحنا حتى فرصة فهم ما حصلو يحصل، أن نتسلح بالطفولة لأنها الرهان الوحيد لمقاومة غطرسة اليقين. أي التسلح بالهشاشة إذ بواسطتها تصبح الأشياء مستساغة على الأقل. كان دون كيخوتي  يصرخ أن العالم غير عادل لأنه سرق منه حبيبته دولثنايا  ولكنه في الوقت نفسه كان يربي اليقين بأن تصبح قريبة أكثر من قلبه حتى وهي في عمق تراجيديا الحياة التي لم يكن هو سيدها لأنها كانت تحدث في حواف تتجاوز قلبه الطيب وخياراته الحياتية. بالضبط هو ما تقوله قصائد ريم قمري التي تتلون بموضوعات الحب، ليس الحب المسطح ولكن الحب الذي كثيرا ما يتحول إلى شعلة ملتهبة محكومة بحرقة الخيبة والغيرة والفقدان. حتى أني عندما انتهيت من قراءة هذا النص الطويل المكون من محطات كثيرة في شكل قصائد متواترة من حيث موضوعاتها وحساسيتها الفنية، شعرت بأن شيئا ينقصني. شيء يهرب من بين أناملي أنا كقارئ. بسرعة عرفته من ظله كما جسدته اللغة. سلطان الخيبة والفقدان. وربما حمل اسما ثالثا يشبه في أنفاسه وسره، الكتابة. 

في انتظار الوقت أحصي الأسماء،

أختار منها الاكثر غربة.

أبحث عنك.

 اقربك… أبعدك.

ثم أرسمك نقاطا…

ألملم هذه الحرقة وتلك، 

وارقص  بلا ألوان…

لست أفعل سوى قتل الوقت.

الزمن هو لعبة النسيان الحزينة. من يجمّل الحزن غير العاشق؟ من يمنحه من عمره بعض هبله قبل أن يتوحد به غير الشاعر؟ الحزن مع الشاعرة ريم قمري يتحول إلى كائن حي يتنفس ويعيش معنا ويسري في الدم كالخلايا التي لا حياة بدونها. تدخل الشاعرة معه في محاورة العاشقة التي تريد أن تمنحه من حياتها ودفئها وعشقها، بعض خفايا أسرارها، بل تقدم جسدها قربانا لحالة عشقية قاتلة تنتهي بالموت كما في العبادات الهندية القديمة حيث يفنى الجسد في حرقة الموت والتلاشي. لا شكل للحزن ولكنه يحتل كل شيء فينا. هو كائن حي، لأنه يتحرك بقوة فينا بقوة ويقودنا بسخاء نحو مهالك يقوم بتسطيرها والتخطيط لها بلا ضجيج.

أحترف الحزن في الحضور و الغياب.

كائن حي يشبه كل مرايا الروح…

أرتديه قميصا،

يلتصق بجلدي.

يأكلني و لا أدركه.

أرشّ عليه عطري اليومي.

أجمّله قليلا بالمساحيق.

التجاعيد الخفيفة اخفيها،

و ارسم طيف ابتسامة.

ثم نمضي سويّا.

تنهض المرأة في الديوان كطوطم مقدس تدافع عما تبقى من نور وحياة. تريد أن تخرج من جلدها، من سجنها الذي ألبسوه لها بالقوة، قوة القانون والدين والمظالم الذي عبرت القرون لتضعها في كل لحظة في زاوية الموت. لا رهان لها إلا رؤية الحياة بعين أخرى. أن تستمتع بنور الشمس، بهزات الجسد الذي تسرقه الوحدة والخوف والإهمال واللغة أحيانا التي بقيت هي السلاح الأوحد الذي يحتضن الخيبة. هي امرأة عادية لا تشبه إلا نفسها ولكنها استثناء في مقاومتها. تريد أن تقطع المسافات التي تفصلها عن الشمس بكبريائها وأنوثتها المقدسة المبللة بعرق الرغبة. ثم إذا كان لابد أن تحترق فليكن ذلك. ماذا تفعل الفراشة سوى أن تركض نحو النور بشهية الموت؟ لا سلاح لها لمقاومة سلطان الشر والخوف إلا هشاشتها وعنفوانها. الحياة كما تصنعها الشاعرة من رماد الفراشة المحترقة ليست ملموسا، ولكنها لغة قلقة وحية، تنشأ فيها كل المستحيلات. تبحث عن وجود آخر يجعلها تنفجر من الداخل ليكون التعبير أقوى وأجمل وعاديا أيضا. مَنْ غير الشاعر يستطيع أن يعرّف العادي وأن يخترقه أيضا؟ مثل ليلة جميلة وعادية تجعل منها اللغة والشعر أفقا لحياة أخرى حتى ولو كانت افتراضية فقط. 

… وأحبك كل يوم أكثر، 

رجلا من حنين  وقُبل منثورة.

أراك في داخلي حلما، 

وأطوف بك البلاد.

فجأة، أتوقف عن كوني امرأة افتراضية.

امرأة من ورق وبعض خيال.

أتعرى، أمارس جنون الحب.

أنا هنا  لنفسي فقط…لي ولك ولنا… 

جسدان يرقصان في ليل حميم.

على الرغم من أن الكثير من المقاطع الشعرية عند ريم قمري تميل أحيانا نحو النثرية بحثا عن لغة تعبيرية جديدة مما ينقص من ألق القصيدة ووجدانيتها وقوتها الداخلية، إلا أن الشاعرة تستدرك بلمعة أو بصورة منفلتة، تعيد الأمور إلى نصابها والشعر إلى خصوصيته. ما زلت على يقين بأن الخزان اللغوي السري هو الأساس عند الشاعرة وتستطيع استثماره مستقبلا في شكل شعري، أو قصصي أو حتى روائي. السردية ليست عدوة الشعر في المطلق، جميلة شريطة أن تضمن نفسا ملحميا وهو أمر غير متوفر ولا يمكن أن نطالب به الشاعرة وهي تعتمد منذ البدء خيارات القصيدة الإنسانية. القصيدة الخاطفة التي تنهض على خصوصية المحمول اللغوي الداخلي المثقل بالمعاني القلقة. فهي قصائد قريبة جدا إلى فن الهايكو المرتبط باللحظة العابرة التي تشحنها اللغة في سجلاتها غير الثابتة. هذه المراوحة لها جمالياتها أيضا لأنها تخرجنا من اللحظة الشعرية السردية نحو شعرية توصل القصيدة من خلالها قلق الشرط الحياتي، وربما عصر محاط بالخوف والخيبات. نحن في النهاية كبشر غير منفصلين عما يحيط بنا بقوة كبيرة لا فكاك لحياتنا منه مهما كان التصاقنا بالحرية كبيرا ومصيريا. فغربة الشاعر ليست في النهاية إلا الناتج الطبيعي لهذا القلق الوجودي الذي يتجاوز خياراته الفردية وإرادته الخاصة. 

الانتظار هو واحدة من التيمات المتكررة في هذا الديوان الذي ينغلق عليها مثل فوكس الكاميرا. الانتظار في محطة الحياة التي لا تستقر على حالة واحدة. كأن كل الأشياء التي انكسرت لا يعاد تجبيرها ولكن الرياح العاصفة في القصيدة قد تنشئ غيرها. قد تأتي بتفاصيل تجهلها الحكاية. 

وانزوى في المحطة،

 ربما يفاجئني قطارك هذا المساء.

قد يهمك أيضاً