فنون

ميخا كيرشنر .. الفنان الإسرائيلي الكبير الذي خسره الفلسطينيون والعرب

سمير السعيدي

 

وإن غاب كل ما سبق عن السياسي العربي افتراضا، فلماذا لم نسمع عنه من قبل المختص والفنان العربي باعتباره المعني والمتابع لشؤون الثقافة والفن والصحافة، لنعرف أسوة بصحف العالم هذه الأيام بخصوصية الأستاذ البروفيسور والفنان والصحافي والمصوّر الإسرائيلي الراحل ميخا كيرشنر؟

نشاط كيرشنر الأخير أقامه في متحف إسرائيل هذا العام، عنونه بـ”معرض الشهادات المحليّة” جامعا وعارضا فيه كل صور الانتفاضة الفلسطينية مع نخبة من المصورين المحترفين ومن تلامذته الشباب، وكذلك صور القرى الفلسطينية والمناطق البدويّة غير المعترف بها إسرائيليا، يقول كيرشنر عن المعرض “إن الأهمية الأساس لهذا المعرض هي تقديم شهادات لفنانين فوتوغرافيين يشحنون الواقع المحلي الإسرائيلي الراكد بصعقات إبداعية تثير حالة من الجدال والألم والتساؤل والحزن والتطوير، لأن تلك الشهادات الفنية منبعثة من روح المكان المحلّي، وليس من مكان آخر، وهذا المعرض السنوي هو نوع من الإعلان الإنساني المختزن لكثير من العناصر التاريخية والقيمية المتراكمة عبر السنوات، بمعنى آخر هو خزّان حديث لتصفية التجربة الاجتماعية والإنسانية من شوائبها وأوهامها المختلفة”.

 

مصور من ميلانو

 

ولد كيرشنر في مدينة ميلانو الإيطالية عام 1947، وهاجرت أسرته بعد عام من ولادته إلى إسرائيل، درس الفنون البصريّة في كلية الفنون في نيويورك، ونال منها شهادة البكالوريوس، وفي عام 1963 كان أوّل معرض شخصي لأعماله في متحف تل أبيب.

أسس عام 1977 قسم التصوير الفوتوغرافي في معهد الفنون في ميدراشا، وفي ذات العام أقام مدير المعهد معرضا لصور كيرشنر، وصار ذلك القسم الذي أسسه كيرشنر في المعهد يصدر كتابا دوريا يوثق فيه أحداث وتواريخ الصور الفنيّة.

خلال أعوام قليلة أصبح كيرشنر واحداً من أبرز قادة فن التصوير في إسرائيل؛ الصورة ذات الدلالة السياسية والاجتماعية التي تستنفر جماليا كل حواس المتلقي، مهما كان مستوى إدراكه الفني والفكري والسياسي، وبمختلف التوجهات.

شمعون بيريز يظهر جالسا في استوديو كيرشنر لالتقاط صورة عادية لشخصية بارزة، وخلفه ستارة حمراء، لكن كيرشنر ينزل بتلك الستارة لتوحي بمساحة مفزعة من دماء الضحايا

عمل لعشرة أعوام تقريبا في صحيفة مونوتين كعضو في هيئة التحرير بالإضافة إلى كونه المصوّر الأبرز فيها، ومنذئذ ٍ عرف الوسط الإعلامي والفني الإسرائيلي على أن الصورة عند كيرشنر أبلغ من الكلمة، وأكثر تعبيرا عن طبيعة الأحداث، وغالبا ما كانت الحكومة الإسرائيلية توضع في موقف محرج أمام مواطنيها وأمام الرأي العام الدولي بسبب لقطات ميخا كيرشنر التصويرية.

 

انتقل بعدها إلى صحيفة هادشوت، بسبب رفض الصحيفة السابقة طباعة الصور التي توثق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فوافقت صحيفة هادشوت على رغبته وإصراره على إصدار ملحق أسبوعي عن صور وأحداث الانتفاضة  الفلسطينية.

 

العين والفكر

 

عام 1982 سببت بعض صوره التي تخص الواقع السياسي الإسرائيلي، احتجاجات عامة في الشوارع، وصارت الحكومة من بعدها تفرض رقابة ما على معارضه ولكن بأسلوب غير مباشر عبر فرض رقابة على مصوراته من قبل إدارة هذا المعرض أو ذاك، ونال عام 1984 جائزة متحف إسرائيل للتصوير الضوئي. كما عمل في صحيفة معاريف مواصلا نشر تجربته الفنية الفريدة، بالإضافة إلى عمله رئيسا لقسم التصوير الفوتوغرافي في المركز الأكاديمي ويز هيفا، وأستاذا في مدرسة سام شبيغل للسينما والتلفزيون، عام 1997 نشر مصوّراته في كتاب بعنوان “الإسرائيليون وأمّتي”، فيه رصد نادر لكل المتناقضات في المحيط الاجتماعي والسياسي والثقافي في إسرائيل.

كيرشنر الذي وجد في الكاميرا فرصة للتعبير عن موقفه من الحياة والمجتمع والسياسة والدين في إسرائيل وفي العالم، سعى بشكل جاد ومختلف إلى فضح المتناقضات في العمق الإسرائيلي، الفكري والديني والسياسي، بالأبيض والأسود، وبالألوان أحيانا، لاستفزاز إنسانية المتفرج، وتقويض المفاهيم الغيبية المتحجرة، داخل جمهور اليمين أو اليسار الإسرائيلي وسواهما.

 

إعادة صياغة المفاهيم

صدى صورتين لكيرشنر وصل إلى كافة أنحاء العالم، إنها لوحتاه عن الأم الفلسطينية عائشة الكردي من مخيم خان يونس عام 1988 وهي تحتضن طفلتها المتفحمة، ملفوفة بشال يهودي، وصورة الطفلة هدى مسعود من مخيم جباليا قرب غزة عام 1989 بعين مطفأة برصاصة  إسرائيلي

خلق كيرشنر تقاليد فنية مؤثرة تسعى إلى إعادة صياغة مفاهيم إنسانية وجمالية جديدة في المجتمع، بعد أن رسّخ لغة خاصة به وبتلامذته من الإسرائيليين والعرب لمفهوم الكاميرا وعين المصوّر، العين التي يجب أن يسبقها وعي فكري وإنساني يشترط الالتزام بموقف واضح من المجتمع ومن عالم السياسة والدين قبل التقاط الصورة، كي لا يتساوى الفنان مع المتفرّج، وكي لا تمر الأحداث بلا توثيق فني، ليضع أمام الأجيال اللاحقة مهمة الفرز واتخاذ المواقف، وهنا تصبح الصورة لوحة تؤرخ مرحلة ما في لحظة ما، وليست لقطة عابرة في حدث عابر لمتفرجين بالملايين.

 

التقط كيرشنر العديد من الصور لشخصيات سياسية إسرائيلية وشخصيات دينية وصحافية وغيرها، ونشرها في الصحف وعرضها في معارضه وطبعها في كتب وملاحق أسبوعية، وكانت كل صورة منها ترافقها حالة من الاحتجاج والنقاش والجدل، تصبّ في المحصلة لصالح المفاهيم الجديدة التي أشاعها كيرشنر في المجتمع عموما، فيبدو شمعون بيريز جالسا في استوديو كيرشنر لالتقاط صورة عادية لشخصية بارزة، وخلفه ستارة حمراء، كما في كل أستوديو للتصوير، لكن كيرشنر ينزل بتلك الستارة من أعلى الجدار إلى ما تحت الكرسي الذي يجلس عليه بيريز، ويشغل بها غالبية مساحة الاستوديو، مواجهة لعين المتلقي بلونها الدموي المتموّج، لتوحي بتلك المساحة الهائلة المفزعة من

 

دماء الضحايا

 

وفي لقطة أخرى للحاخام حنان يورات، رأسه صغير في منتصف أسفل الصورة، بعينين مغمضتين وفضاء اللقطة مليء بسحب هلامية متناثرة، وكأنها أوهام عابرة بعيدة عن الأرض وعن الواقع. ولقطة أخرى للصحافي المعروف موتي كيرنشباوم في الطبيعة، وكأنها صورة عادية لرجل يغنّي أو يتحدّث في رحلة عائلية، لكن كيرشنر الفنان جعل النار وهالة ضخمة من الغازات الكيميائية القاتلة تنبعث من لسان هذا الصحافي.

ويبدو يوسي ساريد، زعيم الحركة اليسارية في إسرائيل، وهو جالس بمواجهة الكاميرا، مغمض العينين، بالأبيض والأسود، وزجاج نظارته اليسرى منكسر ومتشظّ بفعل طلقة ما، أو حجارة ما، وثمة نقاط دم على كتفه الأيسر كذلك.

ثمة لقطة للبرلماني العربي الفلسطيني أحمد الطيبي مربوطا من يده بحبال من قنّب مع يد الإسرائيلي هانوش داوم، ولقطة أخرى لموشي دايان يبدو فيها مختلا عبر إشارة تبدو عفوية لخلل في صدغه أو رأسه، والكثير الكثير من الصور، لعائلة دايان ودودو توباز وأبا أبيان وتامي بن عامي وغيرهم.

صوره المنشورة في هادشوت التي تخص الواقع السياسي الإسرائيلي لطالما تسببت باحتجاجات في الشوارع، فصارت الحكومة تفرض رقابة ما على معارضه.

وصل صدى صورة كيرشنر عن الأم الفلسطينية عائشة الكردي من مخيم خان يونس عام 1988 وهي تحتضن طفلتها المتفحمة، ملفوفة بشال يهودي، وصورة الطفلة هدى مسعود من مخيم جباليا قرب غزة عام 1989 بعين مطفأة برصاصة إسرائيلي، قيل إنها مطاطية، وقيل إنها خاطئة، إلى كل بقاع العالم، وسلّط الضوء على انتهاكات جيش الاحتلال للشعب الفلسطيني متجاوزا ً كل المحرمات الإنسانية والدولية، وصارتا أيقونتين فنيتين خالدتين في ضمير المجتمعات الحيّة عبر العصور، رافقت الصورتين حملة من الخلافات والنقاشات الحادة داخل إسرائيل وخارجها منذ تلك اللحظة، وقد أثارها من جديد هذه الأيام في كافة صحف العالم رحيل الفنان كيرشنر.

 

ليست فوتوغرافا وليست صورا

 

كيرشنر لم يغيّر مفهوم الصورة وحسب، إنما نقلها من موقعها المهمل المركون في الهامش إلى دلالات تتصدّر المشهد اليومي في الحياة الصحافية والسياسية والثقافية في إسرائيل، وشحنها بطاقة استفزازية تحث الرائي على اتخاذ موقف من كل ما يحيط به من أحداث، في المجتمع وفي السياسة والحرب والعنف والسلم والصحافة والدين.

تمكّن من تخليد تلك اللقطات بأسلوب فني خال من المبالغة والزخرفة والتصنّع، فقال عنه بعد رحيله صديقه رئيس قسم التصوير الحالي في ويز هيفا “كيرشنر الذي عايشته عشرين عاما لم يكن مسؤولا أو أستاذا أكاديميا في كل الكليات والمعاهد التي عمل فيها، إنما كان يؤسس لهيئة فنيّة حميمة، من دون تسلسل هرمي أو وظيفي، ما يعنيه فيها على حساب أيّ شيء آخر هو الجانب الإنساني والاجتماعي في فن اللقطة، وبقي كيرشنر متفائلا بمنجزه هذا حتى الأسابيع الأخيرة من حياته، ولا أظن أن هنالك شخصا ما من بعده يمكنه أن يشغل الفراغ الذي تركه”.

ميخا كيرشنر رأى في التصوير الفوتوغرافي أحد الأدوات الهامة الأكثر دقة في اتخاذ المواقف في اللحظات التي تبدو عابرة، وقد فعل بعض زملائه وتلامذته ذلك بشكل مذهل، كما يقول كيرشنر نفسه. لكن “الذي لا أستطيع فهمه هو كيف لا يفعل المرء أي شيء إزاء ما يحدث من حولنا؟ كيف لا يتخذ موقفا ما من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والأمنية والحربية؟”، تلك هي الأسئلة التي وجهها كيرشنر للإسرائيليين، وهي في الحقيقة موجهة لكل البشر وفي كل بقاع الأرض، وفي مقدمتهم العرب، العرب الذين أهملوا رحيل ميخا كيرشنر بهذا الشكل.

قد يهمك أيضاً