فنون

الشاعر المغترب فاضل السلطاني : هناك أسئلة لا يستطيع المرء أن يصل إلى إجابة حاسمة لها

حاوره / عدنان الفضلي 

 

* بدءا، كيف ترى المشهد الشعري العراقي الراهن؟

ـ   كان يمكن أن يكون حال الشعر، وثقافتنا عموماً، أفضل بكثير لو كنا نملك بلداً طبيعياً كباقي البشر. لقد احترقت أجيال كاملة في الحروب والقمع والمذابح الرهيبة منذ الخمسينيات في أقل تقدير، وحصل قطع ثقافي نتيجة ذلك، بدل الاستمرارية الضرورية لخلق تراكم إبداعي في الحقول المعرفية والأدبية، هو ضروري لخلق مشهد ثقافي نوعي (ونستثني هنا العبقريات التي تولد بالضد من كل شرط، وهي حالات فردية خاصة، ونادرة في كل زمان ومكان). ومع ذلك، العراق ولود شعري، قبل أن يكون أي شيء آخر، ولا نعرف لماذا، ربما بسبب تلك الكوارث ذاتها. وأريد هنا أن أكرر ما قلته سابقا وهو إنني لا أعرف على وجه الدقة، حال الشعر. من يستطيع أن يعرف ذلك في بلد مثل العراق؟ قد نستطيع أن نتحدث عن حال الشعر في بلدان كثيرة غير مصابة بمرض الشعر، أو حتى عن حال الرواية في العراق، وهي حالة قابلة للتشخيص على يد أي ناقد أو متابع. لكن لايمكن الحديث إطلاقاً عن جسم مريض مصاب كله بمرض أبدي هو الشعر. لانستطيع أن نقول إن الشعر يتقدم أو يتراجع، وإن قامة فلان أعلى من قامة فلان. إن العراق قدِر يغلي بالشعر، ولانعرف متى تنطلق منه الحمم. قد يكون الآن في حالة سكون، وقد يكون قد تعب بعض الشيء من الحرب والقمع. لكنها فترة عابرة، لحظة استثنائية في زمنه الفوار دائماً ، وأنا متأكد، من الإشارات المبثوثة في هذا النص أو ذاك، إن الأدب العظيم، الذي قد يرتفع إلى مستوى التراجيديا العراقية، هو في مرحلة مخاض، وسيولد يوماً ما.. ربما غداً، وربما بعد سنوات طويلة، بعدما يختمر كل شيء، رؤيا وأداة، لكنه سيولد بالتأكيد.

* الغربة الطويلة خارج الوطن.. ماذا أضافت لك، وماذا سرقت منك؟

ـ هناك أسئلة لايستطيع المرء أن يصل إلى إجابة حاسمة لها، ربما حتى اليوم الأخير من حياته، ومنها هذا السؤال. لا أعرف حقاً ماذا أضافت لي الغربة الطويلة خارج الوطن، لا على المستوى الشعري ولا الشخصي. ربما حررتني من أوهام كثيرة، وشذبت شيئاً من آراء وتصورات سابقة، وعرفتني على بلدان وشعوب مختلفة الثقافات مما أثر بالتأكيد على طريقة النظر إلى الحياة والأدب والثقافة، والتعامل مع الآخر، وربما أصبح صوت الشعر أكثر خفوتا. ولا أعرف إذا كان هذا يشكل إضافة، فقد يحقق الإنسان كل ذلك وهو في الوطن، بشرط أن يكون هذا الوطن طبيعياً. ولم يكن وطننا للأسف طبيعياً، وربما مايزال كذلك.

الغربة الإجبارية مختلفة تماماً عن الغربة الاختيارية، لانها تفتقد إلى عنصر الحرية، وهو الأساس في أي مسعى لتحقيق شيء ما، وبالتالي الفقدان، أو السرقة كما سميتها أنت في سؤالك، سيكون كبيراً جداً. ستسرق هذه الغربة الوطن والأهل والأصدقاء، وتقطع تطورك الطبيعي، أي إنها تسرق أرضيتك الصلدة التي يمكن أن تنطلق منها، أو يسقط رأسك عليها إذا سقطت، وتتركك في العراء، حيث ارتفاعك أو سقوطك محكومان بعوامل جديدة عليك، يصنعها آخرون غريبون تماما، وأنت مجرد ضيف طارئ عليهم. إنها ليست أرضيتك مهما وقفت عليها سنينا، كما إن التاريخ ليس تاريخك، مهما عرفته نظرياً. إنه لايمكن أن يدخل في نسيج روحك، ويتسرب إلى شرايينك مهما حاولت. الأوان قد فات لتغير جلدك. إن أرضيتك وتاريخك هناك، في وطن غائم يحتل ذاكرتك، ويغزو مسامات دمك بالرغم منك. أنا أسخر من اولئك الذين يدعون أنهم أصبحوا، على سبيل المثال، بريطانيين لمجرد أنهم حصلوا على مجرد أوراق رسمية لاتعني شيئاً على الإطلاق، وليست دليلاً على تماهي الحبر مع الدم.

ستكون بطلاً حقاً، خاصة في سنوات الغربة الأولى، أن تحافظ على توازنك في أرض وفضاء لاتعرفهما إطلاقاً. يحتاج المنفي إلى وقت هو بالتأكيد أضعاف الوقت الذي يحتاجه في الوطن كي يحقق شيئاً من ذاته، أو، بعبارة أصح، أن يجد ذاته، سواء أغادر الوطن صغيراً أم كبيرا. صحيح إن المنفي لم يعد يتعرض للتهديد الذي يمس وجوده الخاص، ولكن أسس وماهية وجوده في المنفى ككاتب، كما يقول الناقد الألماني داريوس شايغان، هي التي تتعرض للتهديد.

وربما يختزل النضال في المنفى إلى نضال من أجل البقاء فقط. ونذكر هنا بتجربة الكتاب الألمان الذين انتحروا في المنفى جوعاً أو يأسا مثل كلاوس مان، وارنست توللر، وستيفا تسفايغ، وكورت كورت توخولسكي، وفالتر بنيامن وغيرهم.   

* هل تتفق مع المفارقة التي يكرسها البعض من الأدباء العراقيين: أدب الداخل/ أدب الخارج؟

ـ إنه تقسيم مفتعل يصدر أما عن نية سيئة أو ضيق أفق كبير لايغتفر لأن نتائجه خطرة جداً على عموم الثقافة العراقية. لايوجد أدب عراقي في الداخل، وآخر في الخارج. إنه أدب واحد، وعلينا أن نقرأه باعتباره أدباً واحداً. هناك كتاب عراقيون يكتبون في المنفى، وينتجون في المنفى، ولكن لايوجد أدب منفى، لأنه لايمكن لأحد أن ينفي الأدب. إنه أدب عراقي واحد، مهما اختلفت ملامحه وسماته، إلى هذا الحد أو ذاك بحكم عوامل مختلفة، ومنها المكان، وطبيعة التجربة، والأدوات الفنية، والرؤية الحياتية والأدبية، التي لابد أن تترك تأثيراتها الكبيرة على النتاج الفني والأدبي، سواء أكان ذلك في الوطن أو المهجر.

لقد عرف مصطلح “أدب الداخل/ أدب المنفى” في ألمانيا بعد هجرة أدباء ألمان كثيرين في المرحلة النازية، ومنهم، كما هو معروف، كتاب من خيرة أدباء ألمانيا: بريشت، توماس مان،  كلاوس مان، ستيفان تسفايغ، وجوزيف روث وغيرهم الكثير. واستخدم المصطلح بشكل مدرسي لغرض الدراسة النقدية، وليس لرفع سور صيني بين الداخل والخارج. صحيح، إن هناك سوء فهم، وسوء فهم كبير، حصل فيما يخص هؤلاء الكتاب. ولكن وجود حركة نقدية، تغرب الواقع الثقافي، وتسعى لتصحيح ما يعوج من مصطلحات ومفاهيم، على عكسنا تماماً، ساعد على إزالة سوء الفهم هذا، وساعد على تثبيت قاعدة ذهبية، وأستعير مرة أخرى كلام شايغان، وهي إن مجمل الأدب في المنفى هو جزء من الأدب الألماني، وهو انعكاس للوضع السياسي والثقافي وهمومه في الداخل والخارج، وصرخة ضد البؤس الداخلي والخارجي. 

إن الأصوات التي ماتزال متمسكة بمقولة الداخل/ الخارج، تلحق ضرراً كبيراً بالأدب العراقي، وتحكم بالإعدام على نصف هذا الأدب في الأقل خلال أكثر من جيلين.

* ماذا تقول عن قصيدة النثر اليوم، كيف تقرأ ملامحها العامة؟ 

ـ عندي مشكلة مع قصيدة النثر، وهي إنني، ببساطة، أبحث عنها كثيراً وقلما أجدها. لقد قال تي. أس. اليوت مرة ما معناه إن قصيدة النثر بحاجة إلى شاعر عظيم. وربما يفسر هذا قلة شعراء قصيدة النثر الحقيقيين. قد يحتاج الشعراء الآخرون إلى “عكازات”، وهي ليست نقيصة، كالتفعيلة أو الوزن عموماً، والموسيقى تأخذ بأياديهم حين يتوقفون . لكن شاعر قصيدة النثر عار تماما أمام نصه. لا أحد يستطيع دفعه لولوج عالم القصيدة المليء بالألغام غير المنظورة سوى نفسه. ولكن للأسف كثيراً ما تقتل هذا الألغام قسما كبيرا من شعراء قصيدة النثر الذين يتصورون أنفسهم قد دخلوا أرضاً منبسطة خضراء، فيفقدون حذرهم. كل هذا التدفق غير المنضبط، وهذا السفح للعواطف، والعبارة التي تقود إلى أخرى، واستسهال المفردة، واللعب المجاني الذي لايخلق الغموض الشعري الحقيقي الذي يفرضه المعنى، قاد إلى فوضى هائلة نسميها” قصيدة النثر” التي أصبحت مطية لناقصي الموهبة التي تحدث عنها اليوت. والضحية الاولى: شعراء قصيدة النثر الحقيقيون.

*الانترنيت.. هل خلق فرصة حقيقية للأدب المهمش برأيك. وماذا تقول عن اقتحام البعض للساحة الشعرية من خلاله؟

ـ ميزة الانترنيت الكبرى إنه تجاوز للسلطة، سياسياً وثقافياً. لم يعد العالم، وخاصة عالمنا العربي، كما كان قبل الانترنيت، وكذلك الفضائيات. لم يعد العالم ملك السلطات، تظهر منه ما تشاء، وتحجب منه ما تشاء. لقد أصبح ملك الجميع، وخاصة المهمشون، والمغضوب عليهم، والملعونون، والمطرودون من حظائر السلطة السياسية والثقافية والاجتماعية، كما حضر عبر الانترنيت النص الذي طالما طرده الرقيب. وبالطبع، لابد أن ” يقتحمه” البعض، ويستغلونه،  ولايستطيع كائن من كان أن يفعل شيئاً إزاء ذلك. إنه وسيلة تعبير متاحة للجميع، وستبقى كذلك، ولا أجد حاجة للتوجس، أو التخوف على الساحة الشعرية أو غير الشعرية منها، إذا كانت هذه الساحة متماسكة، بمعنى إن هناك مرجعية ثقافية ونقدية. ومشكلتنا الأساسية تكمن في غياب هذه المرجعية، سواء تعلق الأمر بما تنشره المطابع من غث كثير، يطرد غالباً النص الحقيقي، أو ما ينشر في الصحف والمجلات والانترنيت.

* ماذا تبقى من شعر الرواد في ظل هذا الكم الهائل من النصوص؟ 

ـ بقيت قصائد كثيرة لايمكن أن يحجبها الزمن ولا هذا الكم الهائل من النصوص. مايزال السياب، في أفضل قصائده حاضراً معنا، حضوراً قوياً قادراً  على حجب كثير من الشعراء العرب الأحياء. ومازلنا نحتاج الرجوع إليه، وكذلك الحال مع بعض قصائد نازك الملائكة، والبياتي. كان اكتافيو باث يقول أنه سيكون سعيداً لو بقيت منه خمس قصائد بعد خمسين سنة. وأعتقد أن السياب بشكل خاص قد نجح في اختبار الزمن الصعب. وفي اعتقادي ستبقى قصائد مثل “النهر والموت” و”إنشودة المطر” و”غريب على الخليج” و”الأسلحة والأطفال” طويلاً لسبب بسيط: إنها شعر. في كل زمان ومكان، منذ فجر البشرية وحتى الآن، هناك دائما ” كم هائل من النصوص”. لكن مع الزمن لن يبقى سوى الشعر. لكن هذا الكلام المطلق لايعني، بأي حال من الأحوال، الاستسلام والركون إلى غربلة الزمن، وإعفاءنا من الغربلة النقدية. ولاشك أن نقادنا العرب مقصرون كثيراً في ذلك، وربما كان بعضهم متواطئاً لاعتبارات شخصية، غير مدرك للضرر البالغ الذي يتركه هذا الكم الهائل من النصوص على الشعر نفسه، والذوق الشعري العام، والقراء، وبالتالي على الأجيال اللاحقة. إنك لاتجد إطلاقاً كل هذه الفوضى الشعرية العارمة في أي بلد غربي لسبب تحدثنا عنه سابقاً، وهو وجود مرجعية شعرية وثقافية ونقدية، وتقاليد نشر راسخة لاتتحكم إلا للمعايير الأدبية، وليس كما هو سائد عندنا للأسف. هذه الفوضى الشعرية هي ظاهرة عربية بامتياز!.

قد يهمك أيضاً