من هنا ندرك أن هذا الفتى السومري، متشابه ومتوائم الى حد الثبات مع ناصريته التي أدهشت (أجاثا كريستي).
ومن هنا ندرك أيضا انه يعود بقصائده الى سحنته الأولى، أبجدية الأهوار والقصب والطين، إنها تراتيل قداس وحده يعلم صدى نواقيسها، وما تعني حين تعلن عن ولادة الشعر والفنون الأخرى في مدينة فطمت أو فطم أبناؤها ” أبوذيات ” الحزن السومري ومعنى الحب، وخطيئة اللون والحرف.
ليقول الشاعر ” جاسم العلي ” في تقديم الشاعر والاعلامي عدنان الفضلي في الأمسية التي أقامتها جمعية الثقافة للجميع إحتفاء به يوم 13 اذار 2019 ” خطاكم الورد في هذا المساء الشاعري وهو يحتضن بغداد الجميلة ، ليجيء الفتى السومري من ذي قار بكل معناه وقصائده ، حاملا بريده الى بغداد ، البريد الذي لطالما امتدت جذوره على الضفاف الخافيات بحلمه وقد دونه شعرا ” ، وقرأ العلي بعضا من محطات الفضلي وهي تعج بالتكريم والشهادات التقديرية من جهات وروابط ثقافية ، سواء من داخل العراق أو خارجه .
ليتحدث بعد ذلك الشاعر عدنان الفضلي قائلا ” لم أفكر يوما ان أكون شاعرا ، بالرغم من ولادتي في مدينة تعج بالشعراء منذ كلكامش الى ساعتنا الراهنة ، مدينة تنجب الشعراء والجنون والملائكة والشياطين ، ولكن الصدفة هي التي أدخلتني الى هذا الملكوت وقد تلبسني الى اللحظة .
وأضاف الفضلي : ولدت في بيت متواضع ، أبي وأمي كلاهما ليس لهما أي اقتراب من منطقة الثقافة ، أتحدث هنا عن فلاح وربة بيت ، منهما تعلمت الطيبة والمحبة والانتماء للأرض حد الجنون ، وفي بيتنا دخل الفكر الماركسي وجريدة ” طريق الشعب ” ، من خلال أخي الكبير الذي كان شيوعيا ،وأتذكر في الصف السادس طلب منا معلم العربية كتابة ” انشاء ” عن عيد العمال ، فكتبت شيئا مختلفا عما يكتبه التلاميذ آنذاك ، لأنني أعرف ما يعني ” عيد العمال ” فكتب المعلم وكان اسمه ” عبد المطلب ” وهو من النجف : يا فتى انك تكتب سحرا حلالا .
وفي ذات الاعوام تلك دخلت فضاءات المسرح حين اختارني معلم مادة الزراعة وأعطاني نصا حفظت كل الشخصيات ولم أكتف بالدور الذي أنيط لي ، وحققنا الجائزة الأولى على العراق .
وأشار الفضلي الى أول نص نشر له في جريدة ” العراق ” عام 1994 ، وكان قبل ذلك قد مزق الكثير كما أشار في حديثه .
وتحدث عدنان عن رحلته الى بغداد بسبب مقال مثير أزعج جهات معينة ، نشره في موقع سومريين مما حدا بهذه الجهات أصدار أمر بالقاء القبض عليه ، وفي بغداد دخل عالم السلطة الرابعة كمدير تحرير ، ولم يدخلها كمحرر أو أي تدرج اعلامي .
وتحدث كذلك عن مشاغل الصحافة والشعر وهموم الحياة ، في العراق أو مدن الغربة التي حملت بعض سفره الاعلامي .
يقول الفتى السومري:
” لي …. ممكنات العشق والخبل
ودوني … هذيانات الذين تراخوا عند مدخل الإشتهاء
بكفي .. قبضت على غيمة وردية
سحبتها الى حقل اشتهائي .. فأمطرنا معا ”
المداخلات
قدم الناقد اسماعيل ابراهيم عبد، ورقة نقدية بعنوان ” البوستر الشعري .. عدنان الفضلي محاولة في التأسيس ” جاء فيها : عن المقطوعات الشعرية لقصائد ( بريد الفتى السومري ) يمكننا تجريب الفعل الأفقي لما نسميه البوستر الشعري وما يدعو اليه من جماليات مفتوحة .
ليلته الأخيرة مؤجلة
عشقه الأول
قص الوشاة أجنحته “
فالصورة الشعرية لديه تبلغ دلالاتها ولا تفقد صوفيتها ، هي حالة خصام بين الوقت والخوف ، فالبوستر يتجلى في قوة التوصيل ووضوحه ومتعة قراءته وفرط واقعية مكنوناته ( الارتباك ، والليل ، والعشق ، والأجنحة ) لكأن الشاعر يوحي بليلة اعدام فرد مغامر او مناضل ، هذا كله يتشكل بتخيل منقول من وقائع الحدث الى صورة عنه ، لذا فقد أصبح التحول بديلا عن الازاحة ، والتناص بديلا عن التعدد الدلالي ، والواقع المتخيل بديلا عن الواقع الحقيقي ” .
وخاطب الدكتور محمد حسين آل ياسين الشاعرعدنان الفضلي قائلا : أطعمتنا جمالا ورقة وصداحا ، وأقول وأنا لست بناقد إن الفتى السومري ذا دلالة تتجاوز كونه ابن الناصرية ، وتتجاوز الفضاءات السومرية ، وفي عدنان ما هو أعمق من سومريته ، وأحس في روحه وفي طبعه في انتمائه للعراق ، وللحياة عموما ، عدنان يضج تمثيلا باجداده السومريين ، بحبه لهم بكل تمفصلاته .
وأضاف آل ياسين : عدنان يهوى الشعر ولا يحترفه ، لذلك حررشعره من السقوط في خطأ المحترفين ، لذا منح شعره منطلق عفويا ، جميلا اخاذا ، يحمل الانفعال الرائع ،والقاءه المتميز واتقانه لصحة العبارة .
جبل عدنان من حب ونبل وطيبة ونقاء ، جمع كل ذلك ، وصار عدنان يمشي على قدميه .
وقرأ الناقد دراسته النقدية يوسف عبود جويعد الموسومة ” سومر والناصرية في … بريد الفتى السومري” قائلا:
(الحضارة السومرية من الحضارات القديمة المعروفة في جنوب بلاد الرافدين ، وقد عرف تاريخها من الألواح الطينية المدونة بالخط المسماري. وظهر اسم سومر في بداية الألفية الثالثة ق.م. في فترة ظهور الحيثيين لكن بداية السومريين كانت في الألفية السادسة ق.م. حيث استقر شعب العبيديين بجنوب العراق وشيدوا المدن السومرية الرئيسية كأور ونيبور ولارسا ولجاش وكولاب وكيش وإيزين وإريدو واداب (مدينة). واختلط العبيديون بأهل الشام والجزيرة العربية عن طريق الهجرة أو شن غارات عليهم وكانت خاصة بهم وابتكروا الكتابة على الرقم الطينية وهي مخطوطات ألواح الطين (انظر مسمارية). وظلت الكتابة السومرية 2000 عام، لغة الاتصال بين دول الشرق الأوسط في وقتها.) .
وفي مجموعة القصائد الشعرية النثرية (بريد الفتى السومري) للشاعر عدنان الفضلي، نكون مع الشاعر السومري، الذي يرتبط بهذه الحضارة، كون موطنه ومسقط رأسه هي محافظة ذي القار ( الناصرية)، التي ظهرت فيها هذه الحضارة العريقة, والتي رفدت العالم بشتى أنواع العلوم, حيث يقدم لنا في هذه المجموعة نصوصه الشعرية النثرية عبر بريده المتصل بجذورها، قلباً، وكياناً، ووجداناً، وروحاً، فتكون منبع هذه النصوص عميقة وغائرة في القدم, وهي اتصال يمتد ليرتبط بواقع الحياة، ليؤكد لنا من خلالها أنه قادم من هناك، لكنه ظل متعلقاً بمدينته، وناسها,وطبائعها,وحياتها, وتقاليدها, وطقوسها, وافراحها, وأحزانها,وهذا ما أكده الإهداء الذي سوف نمر به مستهل أول, وهو العتبة النصية الموازية التي تمنحنا الخطوة الأولى للدخول للرؤية الشعرية ومعرفة السياق الفني الذي اتخذه الشاعر لتكوين وتشكيل رؤاه.
( الى المدينة السومرية العتيقة (الناصرية)
التي علمتني مالم أعلم.
والى الشرفاء الذين أنجبتهم وفي مقدمتهم عقيل الناصري وسهيل عبدالله واحمد علوان فارة. )
ثم وفي خطوة ثانية, نجد المقدمة الشعرية التي دونها الشاعر تحت عنوان (الناصرة التي في العلا)، وهي طواف معمق في هذه المدينة من أجل تثبيت وترسيخ تلك الرؤية التي ارادها الشاعر أن تكون الصفة الغالبة لنصوصه النثرية الشعرية، والتي تمنحنا فرصة جديدة للدخول في عالم هذا الفتى السومري.
وأضاف جويعد : هكذا نكتشف، ومن خلال رسم الملامح الشخصية لهذا الفتى السومري الذي يتسلل لكل نص من تلك النصوص, وهو يدخل الماضي العتيق ليستحضر تلك الحضارة ماثلة للعيان, ثم يغطيها بطبائعه وسلوكه المتصل بتلك المدينة، من أجل أن تكون تلك النصوص متجذرة ومنبعثة من تلك الفضاءات المنيرة, أي أنها تحمل عمقاً تاريخياً كبيراً، وهذا العمق متصل مرتبط بواقع الحياة العصرية, ليقدم النصوص عبر تلك التركيبة الشعرية الحسية الواعية.
في قصيدة (شتاء معتّق ومطر مختمر) نجد هذه الرؤيا واضحة,وهي سياق فني متبع في تلك النصوص من أجل ترسيخها وتثبيتها, فتكون بذلك تلك النصوص مغايرة وتحمل صفات وسمات وسلوك وحياة هذا الفتى القادم من بلاد سومر.
سأمشط أرض السواد
بوابل من حروف سومرية
وأمنح الذين ينحتون جمالهم
بعض أقمار تتراشق بالغيوم
أحثهم..
أن يفتحوا النوافذ الزهرية
لاستقبال المطر المختمر
المعبأ بقوارير من ثلج
كي أستمر..
وهكذا فإن هذا الحب، وهذا الهاجس المجنون, الذي اجتاح روح ووجدان الشاعر حباً لمدينته الناصرية التي تعد مهدا لكل الحضارات, هو ذاته هاجسه الشعري الذي ولج نصوصه الشعرية, مؤكداً فيها هذا الحب بكل مايحمل هذا الشعر من جنون, إنه الجنون السومري الذي ينصهل ويتفاعل ليقدم لنا تكوينا وتشكيلا شعريا ينحى هذا المنحى الجميل .
وتحدث كذلك الناقد بشير حاجم وأحمد غرب ، عن الأبعاد الفكرية والصور ذات الدلالات البليغة في قصائد عدنان الفضلي، بوصفها تأخذ الجانب المفضي الى سومر بكل أبعاده التاريخية ، والتي أصبحت غذاءه الأول .
وعلى هامش جلسة الاحتفاء كتب الناقد علي حسن الفواز:
” تفرد الشاعر بصياغة قصائده التي تركت بصمة رائعة لدى المتلقي وعبر فيها عن الذات، هذه الذات تخوض لعبة استدعاء في التحريض والرفض والجذب والتمرد وانسنة اللغة، مثلما تحمل هاجس الرؤيا بوصفها كشفا ومجسا للتطهير، لما يحمله الشاعر من ميراث لوجوده ولجسده ولفقداناته، اذ تتحول القصيدة الى مجال رؤيوي لكتابة ماتراه الذات، تلك المسكونة بحسيتها المفرطة، وفتنتها، اذ ينسلّ معها الشاعر باتجاه تحويل فعل الشعري اللساني، الى احساس عال بالوجود والمعنى والتجلي.
لقد نشأ قرب نهر الفرات والزقورة وهذا الارث التاريخي شكل تكوينه الاول للقصيدة متأثرا بالتراكم التاريخي لمدينة سومر التي شكلت حروفه الاولى لبناء قصائده وقد صقل موهبته الشعرية والادبية عبر قراءاته الكثيرة والمتنوعة وقد هاجر الشاعر لفترة ليست بالقليلة واستوطن في عمان هناك، حتى استطاع ان يقيم علاقات جميلة انعكست بشكل ايجابي على نتاجه الادبي والشعري فاستطاع ان يعمل في الصحافة وان تكون له مراكز مرموقة في ادارة عدد من الصحف علاوة على نشره مقالات في صحف عربية اخرى ” .
وكان مسك الختام تقديم الشاعرة غرام الربيعي الى المحتفى به الفضلي لوحة تشكيلية من أعمالها .
وقدم كذلك الدكتور عبد جاسم الساعدي رئيس جمعية الثقافة للجميع شهادة تقديرية للشاعر عدنان الفضلي .