داود سلمان عجاج


“أعظم خيانة ترتكبها في الحياة، أن تخذل ذاتك الحقيقية لتصبح ما يريده الآخرون منك” مقولة تضعنا أمام جوهر السؤال الذي تسعى مجموعة”وشم على جبين الزمن” القصصية للإجابة عنه: كيف تُشكل الهوية بين قسر الواقع ونداء الذات؟.. حيث يقدم سطام عزاوي الشلال عالماً سردياً مكثفاً، تكون الذاكرة فيه بمثابة وشمٍ غائر في جسد الشخصيات المقيدة في الزمان والمكان معاً. ولعل ما يميز هذه المجموعة ليس مجرد استدعاء حكايات من الماضي الريفي العراقي، بل الغوص في أعماق كيفية تشكيل الذاكرة للهوية الفردية والجماعية، وكيف يتحول هذا التشكيل إلى ندبةٍ جميلةٍ أو جرحٍ غائر لا يبرى. ومن هنا، فإن المرور على هذه القصص يشبه إعادة تشغيل شريط الحياة بما يحمله من لمسات إنسانية ومعاناة وجودية، وكأن الأمس لا يزال حاضراً في وجدان اليوم.
الوشم جرحٌ لأنه يؤلم، والوشم جمالٌ لأنه يخلد. لذلك، بين الجرح والجمال، يمثل الوشم في المجموعة استعارة مركزية للذاكرة التي لا تُنسى.ففي قصة “إعصار في ليل شتوي”، يكون العاصف الليلي وشماً على جبين الزمن، يترك وراءه أثراً لا يمحى، مثلما تترك الذاكرة أثرها في النفس.
وبالمثل، فإن “الحذاء الممزق” في القصة يتحول من رمز للفقر إلى وشم محفور في جسد طفل فقير، لكنه في الوقت يتحول إلى علامة على التضامن الإنساني. وعلى هذا النحو، في قصة “التابوت”، يصبح موت الشاب عبدالله الذي نام في حضن التراب وشماً على قلب أمه وعلى جبين المجتمع بأسره، يُذكر دائماً بأثمان الحرب وغدرانها. كأن الشلال يكتب بمداد الذاكرة على جبين الرحيل:لا جدوى من دغدغة أحلام الموتى، فالذكرى لا تزول، بل تلاحقنا كالوشم على ظاهر اليد.
أما المكان، فلا يقدمه الكاتب على أنه خلفية جامدة، بل كفاعل حي يسهم في صياغة هويات الشخصيات. فالقرى بأزقتها الموحلة وبيوتها الطينية وسماءها الممطرة تُشكّل وعي الشخصيات وتحدد علاقاتها. إذن، المكان ليس إطاراً محايداً بل هو وشمٌ آخر محفور في الذات. ففي “الشتاء”، يتبدى لنا كيف يصوغ الفقر والبرد هوية الأطفال الذين يلعبون بالخرق البالية، وكيف يصوغ المكان هوية البائع الجوال الذي يصرخ “حلوى، عطر، مسك، عنبر”. وهكذا، يصبح التل الذي يحمل ذكريات الدراسة ومذياع الصديق الراحل بمثابة وشمٍ آخر،يعبث في الأعماق ويضغط على الجرح، يذكره وهو يصدح في فترة الاستراحة”يا طيور الطايرة” وسعدون جابر.
وكذلك الحال مع الزمن، إذ تعيد المجموعة تشكيل الهوية عبر المقارنة بين ماضٍ “فقير لكنه جميل” وحاضر “منظم لكنه باهت”. وعليه يتضح أن الذاكرة تعيد إنتاج الهوية عبر استحضار الماضي كملاذٍ من قسوة الحاضر. وهنا تتجلى بوضوح مقولة الفيلسوف”بولريكور”:
“إننا لا نتذكر الماضي كما وقع، بل كما نحكيه لأنفسنا، وهكذا نصنع هويتنا من سرديات الذاكرة”
من جانب آخر، تزخر المجموعة بشخصيات تعيش على هامش الحياة،لكنها تتحول إلى رموز لهوية مهددة بالضياع. “البائع الشبح” الذي ينكر اسمه وينكر معرفته بأهله، هو مثال على الهوية الممزقة بين الانتماء والغربة. بينما “الغجر” في القصة التي تحمل اسمهم، الذين يعيشون على هامش المجتمع، لكنهم يحملون في عشقهم وغرامهم دراماً إنسانياً شديد العمق. أما المرأة في “حين أثقلها البؤس”، فتمثل هوية التضحية والصمود، حيث تتحمل أعباء تربية الأيتام رغم فقرها المدقع، لتغدو رمزاً للأمومة الكونية التي تتخطى روابط الدم. أفليست هذه الشخصيات دليلاً على أن الهامش نفسه قادر على أن يكتب مركز الهوية؟
ومن ثم، لا تقل لغة الشلال عن مضمون المجموعة عمقاً وجمالاً. فالنصوص تكتب بلغة شعرية تستحضر الذاكرة من خلال تفاصيل حسية نابضة: رائحة الطين المبلل، صوت المطر على السطوح، دخان المواقد البدائية، ألوان أزهار شقائق النعمان. كل هذه التفاصيل ليست مجرد زينة، بل وشومٌ صغيرة تحفرها اللغة في جسد النص. وفي “أنغام المامر”، تصبح الربابة لغة أخرى للذاكرة، تعزف على أوتار الزمن نفسه. وهكذا، تصبح اللغة هنا ليست أداة سرد فحسب، بل هي جزء من تشكيل الهوية، بل هي الوشم الذي يخلده الكاتب على جبين النص.
وبناءً على ما تقدم، فإن “وشم على جبين الزمن”ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي تأملٌ وجودي في كيفية تشكل الهوية من خيوط الذاكرة والمكان والزمن. عبر قصصٍ تتراوح بين الحزن والأمل، الفقد والصمود، يصنع سطام الشلال عالماً تصبح فيه الذاكرة وشماً غائراً لا يزول، جرحاً وجمالاً معا.
غير أن هذا الوشم ليس مجرد علامةٍ على جسد الماضي، بل هو أثرٌ حي يتنفس في الحاضر ويضيء الطريق إلى المستقبل. كأن الهوية نفسها، بما تحمله من آلام وأحلام، قصيدةٌ منقوشة على صفحة الزمن، تتلى جيلا بعد جيل، كجمرٍ تحت الرماد لا ينطفئ بل يزداد توهجاً مع كل استدعاء.
وهكذا، يغدو الوشم في نصوص الشلال ليس مجرد نقش على جبين الذاكرة، بل نداءً شعرياً يتردد في ممرات الزمن، وإعلاناً عن أن الإنسان لا يزول ما دامت ذاكرته قادرة على أن تحكيه.
ومن هنا، فإن الحقيقة التي تومض في قلب هذه النصوص هي ما قيل “أعظم خيانة ترتكبها في الحياة، أن تخذل ذاتك الحقيقية لتصبح ما يريده الآخرون منك”، إذ أن كل وشم يخطه الشلال إنما هو مقاومة ضد هذا الخذلان، وصوتٌ يتحدى الصمت كي يعلن أن الهوية تُصنع لا تُمنح، وتُكتب بالذاكرة لا بالمحو.










