فنون

الدكتور سلام جبار ( جدل فلسفي _ الكمال والمتعة )

( البحث عن اليقين في دوائر الوهم )

رحيم يوسف / بغداد

في كل سطح تصويري يبثه ،  يثير الفنان الدكتور سلام جبار جملة من الاسئلة التي تدفع باتجاه البحث عن اجابات لها ، وهو بهذا يجسد واحدة من اهم قصديات الفن ، على اعتبار  ان قيمة الفن تكمن في قدرته على اثارة الاسئلة لانها تحفز على الحوار وان كان حوارا صامتا ،  وتلك ليست الالية التي تميل الى عبث محض ، بل من اجل ايجاد مخرجات افتراضية لما هو مطروح للتلقي ، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن قدرة التلقي التي تستطيع التفاعل مع ما هو مطروح عبر استنباط الاجوبة الضمنية لان الفنان يضع الاجوبة في مخيلته عند البث ،  فهل يبحث جبار ومن معه عن متلق مختلف؟ ،  والجواب سيكون بنعم ولا في الوقت ذاته ، نعم لان المتلقي بالمجمل هو متخصص بالفن لاننا نعلم جميعا ضعف التلقي للفن لدى العموم كما نلاحظ في جميع العروض التي نشاهدها منذ سنوات ليست بالقليلة وتلك مشكلة بحاجة الى حلول قد تطول لانها حلول مشتركة بين الباث والمتلقي اضافة الى الدوائر الفنية المختلفة التي يبدو وان الامر لا يعنيها اطلاقا فلا تقوم بدورها ولا على سبيل ابداء  المحاولة  ، ولا لان الفنان يدرك تماما بان ما يبثه يثير شيئا ما ، حتى وان كان بسيطا من خلال ملمح او لون او تكوين على السطح التصويري ، ولنقل انها محاولة لاجل ايجاد حل وسط بين الاثنين وتحفيز قيم الجمال الكامنة واطلاقها باتجاه التفاعل مع العمل الفني .

لعل وضع الفنان عنوانا للسطح التصويري ( جدل فلسفي _ الكمال والمنفعة ) كان استعاريا ليس الا ، وذلك لانه يتحدث بلغة بصرية بحتة كما هو واضح للعيان ، والجدل لا يحدث الا من خلال الحوار اللغوي وهو يحاول ان يحول المفهوم الفلسفي اللغوي الى بصري وتلك مهمة تشتمل على الكثير من المشقة ، من هنا فان الاستعارة لم تكن اعتباطية بل تستند الى تراكم معرفي واسع مضاف الى قدرات ادائية كبيرة ، ولذلك فان الاستعارة تتضمن قصدية واضحة ، وهي التي تجعل المتلقي يبحث عن تلك القصدية او مجموعة القصديات التي بثها ، اثناء او بعد عملية التلقي ليتحول الى جزء لا يتجزأ من المشهد العام الخاضع للتاويل أولا وأخيرا ، فيوصف الحوار الذي لا طائل منه والذي لا يؤدي الى مخرجات بالجدل البيزنطي ،  ولذلك يبتعد الكثير عن هذا الحوار باعتباره تيها في دوائر من الوهم ومع انه لا ياتي من فراغ لكنه مضيعة للجهد والوقت ، لكننا حميعا نتشارك في العيش في دوائر قد تختلف في الفعل والسلوك غير انها واحدة في المحصلة النهائية على اعتبار ان الزمن دائري كما هو في بعض الفلسفات وخصوصا في الفلسفات الشرقية التي تقول بان الزمن يبتدئ من نقطة لينتهي اليها كما في البوذية والهندوسية ،  ولعل قلة قليلة من الفنانين هم من يشغلهم هذا المفهوم عبر اعمال تخوض فيه لتثير الجدل هي الاخرى لندور معهم في ذات الدوائر ، غير ان دوراننا معهم كمتلقين سيجععلنا نتيه في وهم افتراضي بحثا عن حقائق المعني اي عن القصديات المضمرة في النصوص البصرية من اجل تاويلها او الاستمتاع بها على اقل تقدير  .

لعل الناظر الى السطح التصويري الماثل امامنا / وهو كما العديد من السطوح التي بثت للتلقي مؤخرا / يتصور بان الفنان سلام  جبار يعمد الى جمع جملة من المدارس الفنية كمسار اسلوبي عام في اعماله ، غير ان الامر ليس كذلك اطلاقا ، ومع وجود البعض من المفردات ذات الاحالات التي جعلت صديقا  مقربا يميل الى ذلك حينما افاد لي في حديث خاص ، وربما كان اتخاذ الفنان التعبيرية الجديدة  كمسار اسلوبي هو ما اوحي له بذلك بكل تاكيد ، ولسنا بصدد الحديث عن التعبيرية الجديدة التي اجتاحت العالم في ثمانينيات القرن الماضي ،  انما للاشارة بكونها مثلت وعاء فنيا اغرى الدكتور سلام جبار للخوض ليحمله افكاره ورؤاه الفنية على الرغم من اخلاصه للواقعية ومناصرته لها ،  ولعل وجود الكثير من المقتربات بينها وبين الواقعية هو ما دفعه باتجاهها.

لماذا يعمد المشتغلون في الحقول الابداعية الى استثمار الدائرة ؟ والجواب ببساطة هو انهم يحاولون القبض على اللحظة الراهنة في وهم يبغون منه ايقاف دوران الزمن ، وهو وهم نتشارك فيه جميعا بالضد من الفناء القادم لا محالة ، فعلى الرغم من الثبات الذي يبدو عليه المشهد العام للسطح التصويري ، غير انه متحرك وتماثل حركته حركة الزمن السريعة التي تدور من حولنا وندور من حولها او من خلالها ، وهي حركة دوران واسعة تفضي الى دائرة الزمن المستمرة الى نهاية لايمكننا ادراكها وذلك لقصر وجودنا في الكون ، فهل حاول الفنان القبض على لحظة المشهد التي تمثل وجوده وايقافها ؟ وبرايي فان الجواب سيكون بنعم ، غير انها محاولة فاشلة تحمل الكثير من الياس ويمكننا ادراجها في خانة الوهم ، وهو في داخله يعيش الوهم لحظة الخلق غير انها لا يسعي لصناعة وتقديم الوهم كما نحن ، لكننا محكومون بقوى قدرية تتحكم بكل شيء . وعليه فلنتفق مسبقا على ما يسلم به الجميع بان لا مطلق في هذا الكون سوى الذات العليا وما عداه فهو نسبي ،  وعليه فان لا ثبات للحقيقة لنقر بان  الوهم والحقيقة متعادلان لا كضدين او سباق للاحقية في اي مجال تطبيقي ،  بل باعتبارهما يسيران معا في توافق افتراضي ، وفي الفن فان صناعة الوهم تعد محاولة للبحث عن الحقيقة ، وهي اذن حقيقة متخيلة من خلال الافتراض ، والفنان هنا لا يصنع او يقدم الوهم لمتلقيه ، بل يدعوه لاستيعاب الحقيقة عبر فهم دوائر الوهم ، لان وراء كل وهم ثمة حقيقة ثابتة  وحين نتيه في الوهم الذي نصنعة او يصنع لنا فاننا نبحث عن يقينية الحقيقة ،  وبمعنى ادق نصنع الوهم في سبيل الوصول لليقين ولا اظن ان ثمة خلافا في ذلك سوى في طريقة بحثنا عن الحقيقة باعتبارها من اساسيات جوهر وجودنا .

في مختلف صنوف النشاطات الانسانية ، الفكر والادب والفن  . . الخ يبحث يسعى الجميع بحثا عن الكمال الذي لا يمكن تحقيقه باي حال من الاحوال ولذلك سيبقى هذا قاصرا ومرتبطا بزمن وجوده وبمعنى ادق كنوع من الوهم الذي يدور الجميع فيه او من حوله كما اشرنا من قبل في سبيل ذلك مع ان  ذلك المسعى لا يمكن ان يتوقف ، وبالعودة الى عنوان السطح فان المتعة متحققة غير ان الكمال معلق وربما كانت قصدية الفنان تذهب باتجاه كمال المتعة وهي متحققة بكل تاكيد .

عند التدقيق البسيط في السطح التصويري نرى بان ما بثه كتشكيل صوري تجسيدي عام هو عبارة عن ثنائيات متقابلة ذات افكار مختلفة تمثل اجيالا مختلفة ، وهي في حالة جدل بلا مخارج واضحة وذلك بتضح من خلال النظرات المحايدة التي القاها بعظهم على البعض الآخر ، باستثناء المراة التي شكلت حضورها الاكبر وسط الجميع والتي رمزت الى الحكمة بكل تاكيد وهي ترفع يدها اعتراضا او من اجل فض الجدل غير المحدي الذي يدور بين الجميع ، ولم تقتصر تلك الثنائيات على الشخصيات التي احتلت السطح ، بل ذهبث باتجاه الخلفية التي بث فيها تمثالا لفيلسوف او مفكر نتخيله وفق هوانا ام مرجعياتنا لعدم وضوح الصورة،   وشاشة مع مذيع للاخبار ، لكن الواضح بان الجميع لا يلقون بالا لما هو في الخلفية وبالتالي فهم في قطيعة او انقطاع عما حولهم ، مما يجعلنا نفترض عقم الجدل الدائر فيما بينهم ، كما كان الانشاء الدائري الذي جسده جبار محاولة ناجحة لوضع المتلقي في قلب الدائرة عبر جعله مشاركاً من اجل فهم واستيعاب ما هو مبثوث امامه ، غير انه تعمد كسر ذلك الانشاء عبر استخدام نصف الدائرة الرئيسية التي تشكل محور السطح التصويري ، وكانه يؤكد وينفي وجود الكمال المتحقق من ( الجدل ) وهو ما يفضي الى جدل آخر بينه وبين المتلقي الذي وضعه في قلب المشهد غير انه مراقب خارجي مليء بالاسئلة في الوقت ذاته ، ومع انه كسر الانشاء الدائري ظاهريا غير ان الايحاء بقي ثابتا من خلال مجموعة الدوائر التي تظهر امامنا في المشهد العام ( قرص الخبز ، التفاحة ، الدائوة الملونة وسط المربع الابيض ) تلك الدوائر التي تمثل توازنات محسوبة تمثل ثباتا للدائرة الرئيسية وتمنعها من الانهيار . ومن المهم الاشارة الى القدرات اللونية الكبيرة التي ساهمت في خلق الايحاءات العامة التي تقصدها الفنان عبر هيمنة اللون الاسود وتدرجاته ، والتي كسرها عبر تمثال الفيلسوف المبثوث باللون الابيض ، مع الاشارة  الى بعض الضربات اللونية التي مثلت هي الاخري تنويعات التي كسرت هي الاخري هيمنة الاسود وخلقت دهشة باذخة.

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان