فنون

الفنان التشكيلي الدكتور عبد الرازق عكاشة

معرض ( حكايات من باريس ) نظرة  للحياة الباريسية  بروح مشرقية

رحيم يوسف / بغداد

لعل ما يميز تجربة الفنان عبد الرازق عكاشة هو في تنوعها ابداعيا ، فهو يسعى الى استغلال كل ثانية من وقته في هذا السبيل ، فهو يواظب على تسجيل المتابعات للمتاحف والمعارض من اجل الفائدة العامة وكذلك استمراره في الكتابة والتنظير بالاضافة الى عمله على مشروعه الفني في الرسم والذي يعد من المشاريع المهمة لكونه يشكل تحديا لذاته قبل ان يكون تحديا للآخر باعتباره يعيش في مدينة النور ومهد المدارس الفنية الحديثة عالميا ،  ولا آتي بجديد اذا قلت بان تجربته الفنية الجمالية المتنوعة هي تجربة لافتة ومتفردة وكبيرة وتستحق الاحتفاء بها ، خصوصا وهو يستعد لعرض منجزه الأخير في قاعة بيكاسو بجمهورية مصر العربية بمعرض تحت عنوان (  حكايات من باريس ) ، والذي يقول عنه صديقه الفنان سامي يوسف :

_  رصد لشكل الحياة الباريسية التى يعيشها وهو هناك والتي تعطيه الهامات لا نهائية .

وهو هنا يجسد مشاهداته الباريسية بروحه المشرقية التي تستل وتدون الجمال مما يرى .

ثمة سؤال بديهي يطرح نفسه عند تناول تجربة فنان ما وهو عن المعطيات التي ساهمت في تاسيس واغناء تلك التجربة ، وعن درجة نجاح وتميز تلك التجربة من عدمه ؟ .

وللاجابة عن السؤال علينا ان نلقي نظرة على العوامل الاولية التي ساهمت بذلك ، ومنها الموهبة والدراسة والشغف والتحدي . . . . الخ ، وقبل الحديث عن العوامل المساهمة فيها لابد من ذكر مسالتين مهمتين كانتا هما الاساس فيما نكتب عنه واللتين شاركتا في بث روح التحدي بصاحب التجربة ، تتعلق الاولى بارث بلاده الحضاري العظيم وتتعلق الثانية بحاضرها الفني الكبير ، من هنا فان وعي الفنان سيضعه امام مسؤولية تاريخية كبيرة تجعله يجد في العمل والبحث والتقصي من اجل الوصول الى التميز الذي يدفعه باتجاه تاصيل تجربته الفنية ، وهي تجربة اشارت اليه بوضوح عبر منجزه الفني اللافت الذي سار فيه على مستويات متعددة ومعروفة تمثلت بمسارات فنية ساهم فيها بالتعريف بالفن ونشر الوعي الفني في حركته اليومية الدؤوبة من اجل ذلك كما هو معروف لدى الجميع ، وعن ارثه الحضاري العظيم الذي ساهم في تحفيز تجربته ،  تكتب الاستاذ البروفيسور شرارة صالحي عن  عكاشة قولا بالغ الدقة في تشخيص اعماله فتفيد بالقول : 

_ تشكل أعمال عكاشة جسرا نابضا بين التراث والحداثة ، فهي تستقي من عمق جذور مصر القديمة ، وفي الوقت ذاته تتحاور مع أرقى أشكال التعبير الفني المعاصر .

وهذا الراي يؤكد بما لا يقبل الشك بان عكاشة بقي متصلا ومتواصلا مع جذوره الحضارية العظيمة . تعاضدا مع الواقع الفني الكبير لبلاده وهما اللذان ساهما بالتاثيرات الاولية عليه اثناء تشكل شخصيته الفنية الفذة ، ونجد انه من المهم جدا  ان نلقي نظرة بسيطة على سيرته الذاتية من اجل التعريف والتوضيح  للمكانة الكبيرة التي حصل عليها قبل محاولتنا في القاء الضوء على تجربته الفنية التشكيلية .

الدكتور عبد الرزاق عكاشة هو فنان تشكيلي عالمي لكنه مصري قبل كل شيء  ، وهو كاتب وروائي ، صدر له ثمانية عشر كتابا في النقد والرواية ،  كما انه اقام وشارك في اكثر من مائة معرض تشكيلي حول العالم ، وحاضر وشارك في طاولات الحوار الدولي في الفنون والاداب لأكثر من احدى وعشرين دولة ، كما شارك وترأس العديد من لجان التحكيم حول العالم في  اليابان والبرازيل والمكسيك والأرجنتين ، ودول اوربية وأفريقية  واسيوية ، وقد كرم عبر حصوله على اكثر من ثلاثين جائزة دولية حول العالم في المعارض والمشاركات والبيناليات ، كما عمل مستشارا للفنون في اليونسكو من العام  1996 وحتى العام 1998 ، ويعد اصغر مستشار للفنون والثقافة في تلك المرحلة ، كما انضم الي مجلس ادارة صالون الخريف الفرنسي للفنون والاداب المؤسس في العام 1903 ، وهو. العضو الوحيد الذي انضم للمجلس في تاريخه من خارج فرنسا وإسبانيا وإيطاليا منذ العام  2009 ، بالاضافة لمشاركته مع العديد من الفنانين والمهتمين الاخرين في تاسيس اول جمعية وجاليري مصري وعربي عربي في العام 1993 في باريس ، وكذلك يضم سجله عضويته ومشاركته في اكثر من اربعين جمعية للثقافة والفنون والاداب والأنسيات في العالم. واخيرا وليس آخرا قام بتأسس متحف دارنا في القاهرة بجمهورية مصر العربية .

على الرغم من كون التجربة ذات تاثيرات اوربية صرفة كما يبدو عليها من النظرة الاولى ، غير ان الروح المحلية هي التي تميزها بالتدقيق البسيط ،   ومن هنا تكتسب اهميتها الكبيرة ، على اعتبار ان التجربة اكتسبت ملامح التجارب الاوربية شكليا غير ان الفنان تمكن منحها روحيته المحلية وذلك لانه مدرك تماما لاليات العمل وفق رؤاه الفنية والفكرية التي اكتسبها طوال فترة عمله عليها ،  وهكذا يمكننا النظر باتجاهها .

على الرغم من كون التعبيرية كمسار فني تمثل اغراء كبيرا للفنان كونها تتيح له القدرة على بث مشاعره وانفعالاته ، لكنها تمثل منزلقا خطيرا اذا لم يتم التعامل معها بمنتهى الجدية والحذر وبامكان الجميع ملاحظة ذلك في اعداد لا تحصى من التجارب التي يمكن ادراجها تحت هذا المسار ، غير ان وعي الفنان هو الحاسم في عدم  السير بذلك الاتجاه ومن السقوط في ذلك المنزلق وبالتالي النجاة من فخ التسطيح والتكرار وانا شخصيا اميل باتجاه التعبيرية منذ ظهورها وحتى وقتنا الحالي باعتبارها الاكثر قدرة في التعبير عن المشاعر الداخلية واحتجاجها الواضح على اي واقع معاش يحط من كرامة الانسان ويضعه في تيه واسع ومستديم .

تضج سطوح عكاشة بالمشخصات التعبيرية التي تسير باتجاهات مختلفة لتبدو وكانها تعيش في عزلة تامة فيما بينها وتلك محنة وجودية كبيرة في الحياة الانسانية ليس في اوربا فحسب بل في جميع بلدان العالم ولاسباب شتى لا تعنينا في هذا السياق ، غير ان ما يعنينا هو ان التشكلات الانسانية التي يجسدها تعبيريا تعكس نظرته لعالم يحيا فيه لكنه محصن منه كليا غير انه يبث من خلاله رؤاه الفنية التي تعكس جملة من الانفعالات النفسية التي تنطلق اثناء عملية التجسيد ،  وهو هنا لا ينقل المشاهد بروحية الفوتوغراف بل انطلاقا من فهم عميق لما يجري ليعيد ترتيب تلك المشاهد بلذة العارف المتمكن ، وهو هنا يجسد سطوحه بثنائيات واضحة المشخصات وظلالها ، الحركة والسكون  وكذلك ثنائية لونية واضحة مع مساحات تضج بالموسيقى ، ففي اللون يمكننا ملاحظته بوضوح ، هو سيادة طاغية للاصفر بدلالاته المعروفة على تلك السطوح لكنه يميل الى تغيير تلك الدلالات توافقا مع انفعالاته النفسية اثناء عملية الاشنغال واعني لحظة التجسيد الصوري ، وذلك بالخطوط والكتل السوداء ، وفي المشخصات تلك الظلال التي لا تتوافق مع حركتها ، وكذلك في الموسيقي التي تملأ تلك المساحات اللونية الشفافة على السطوح .فنحن جميعا تسكننا الموسيقى سواء على شكل جملة او نغمة او ايقاع ، وهي تشكل هاجسا خفيا يساهم في تنظيم حياتنا سواء وعينا ذلك ام لم نعه ، غير ان الفنان يعد اكثر الناس المؤهلين لفهم واكتشاف ذلك ومن ثم التعبير عنه عبر آليات اشتغال عمله ، من هنا اري بان الموسيقي تشكل عماد اعمال عكاشة عبر تشكلاته اللونية التي تتميز بالعمق والشفافية ، فهي تارة هادئة منسابة بشفافية كبيرة تضفي هدوءها على السطوح واخرى انفعالية عبر حركة الفرشاة التي تكون تكتلات لونية تتماهى مع  لحظة الانفعال التي يمر بها الفنان اثناء عملية الخلق ، وبحسب الامريكي جاكسون بولوك فان : 

_ الفن ليس مجرد ألوان على قماش ، بل هو انعكاس لعالمنا الداخلي بكل تعقيداته وفوضاه .

وهو راي دقيق جدا ، غير ان المهم في هذا الامر هو كيفبة عكس ذلك على السطح التصويري من اجل خلق تواصل يفضي الى حوار افتراضي مع المتلقي لكي تتحقق اهم مخرجات البث ، مع ان هذا الحوار الافتراضي هو حوار صامت يؤدي الي خلق المتعة الجمالية الخالصة بالدرجة الاساس ، من هنا فاننا نستطيع ملاحظة قدرة الفنان التي تؤدي الى ذلك وتتجلى تلك القدرة في فهمه للتعالق بين الشعر والرسم ، فيعمد الى تحويل اليومي والمالوف الى المدهش والمختلف وان كانت الصورة واحدة في المجالين غير انها متخيلة في الشعر عنه في الرسم لكن المقاصد واحدة كما هو معلوم ، فيسعى الفنان الى محاولة خلق التنظيم من الفوضى واعني فوضاه الداخلية بحسب بولوك ، وهو التنظيم الذي يتجلى اوليا في اهتمامه الكبير في هندسة سطوحه التصويرية ، من خلال تنظيم بنائي شديد الصرامة فلا جزء من السطح مهما كان صغيرا متروكا دون اشتغال ما ، لكن الطابع العام لتلك السطوح هو اشتغاله على ثنائية الالوان والحركة والسكون والمساحة والموسيقى والمشخصات والظلال كما اشرنا من قبل ، واخيرا لا احسب بانني تمكنت من الاحاطة بكامل تجربته الفنية ، بل هي محاولة للاقتراب من عالمه الفني اللافت .

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان