حوارات وتحقيقات

دور الغرب في إسقاط الزعيم عبد الكريم قاسم

سلام علي

 

نُشر الكثير عن دور وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي آي أي) في التخطيط لانقلاب 8 شباط 1963 الفاشي في العراق، والدعم الذي قدمته لحزب البعث وأقطابه آنذاك، لتمكينهم من الوثوب الى السلطة وتحقيق أحد الاهداف الرئيسة للانقلاب: القضاء على الحزب الشيوعي والتصفية الجسدية للآلاف من قادته وكوادره ومؤيديه. ولكن دور بريطانيا في التخطيط للتخلص من نظام عبد الكريم قاسم ودعم انقلابيي 8 شباط وحكومتهم لم ينل اهتماماً كافياً من قبل الباحثين وبقي مبهماً بالمقارنة مع الدور الامريكي. ومن اجل تسليط الضوء على هذا الدور نستعرض بايجاز ما جاء بهذا الشأن في كتاب للباحث البريطاني مارك كرتس تناول انتهاكات خفية لحقوق الانسان مارستها بريطانيا في بلدان مختلفة حول العالم. تمت الإطاحة بالنظام الملكي المدعوم من بريطانيا في ثورة 14 تموز 1958 واقيمت جمهورية برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم. وتعرضت السفارة البريطانية في بغداد، التي كانت تعرف بأنها القوة الفعلية وراء العرش، الى النهب وقتل أحد البريطانيين. ووصف مسؤولون في السفارة الثورة في تقاريرهم الى لندن بأنها “ثورة شعبية” تقوم على “مشاعر مكبوتة من الكره والاحباط، تتغذى على تطلعات قومية لم تلبّ، وعداء لحكومة اوتوقراطية، وسخط من الهيمنة الغربية، واشمئزاز من فقر متفشٍّ”. وكان النظام الملكي الذي دعمته بريطانيا من بين الانظمة الأدنى شعبية في الشرق الاوسط،

 

 فقد أشار تقرير لوزارة الخارجية البريطانية، على سبيل المثال، الى ان “الثروة والسلطة بقيتا متركزتين في أيدي حفنة من ملاك الارض وشيوخ العشائر الاغنياء الذين كانوا يحيطون بالبلاط”.وقبل ثلاثة أشهر من ثورة 14 تموز 1958، كتب السير مايكل رايت، السفير البريطاني في بغداد، الى وزير الخارجية سلوين لويد قائلا ان “الوضع الدستوري في العراق يشبه الى حد بعيد ما كانت عليه المملكة المتحدة عند صعود جورج الثالث الى العرش”. فالسلطة السياسية تتمركز في البلاط، ويمكن للملك أن يعيّن ويعزل رؤساء الوزراء كما يشاء، بينما “لا يمكن للمعارضة ان تنظم اجتماعات عامة او تعبر عن معارضتها للنظام في الصحافة”. كما لفت رايت الى ان “كفاءة جهاز الأمن العراقي تزايدت مادياً في السنة الاخيرة، ويعود الفضل في ذلك الى حد كبير الى المساعدة البريطانية بالتدريب والمعدات”. ووصف الوضع القائم آنذاك بأنه “قمع سياسي كامل”.ثم عبّر السفير البريطاني عن معارضته للديمقراطية بقوله ان “إرخاءً كاملاً للقيود الحالية على حرية التعبير بالاقتران مع انتخابات حرة كلياً” من شأنه ان “ينتج فوضى وربما ثورة”. وأوصى فقط بالسماح بتشكيل احزاب سياسية. وبضربة واحدة، أطاحت ثورة 14 تموز الوطنية والشعبية بنظام موالٍ لبريطانيا كان يمثل دعامة رئيسية لسياستها في الشرق الاوسط. الأسوأ من ذلك، ان مخططي السياسة البريطانية أقروا بأن عبد الكريم قاسم كان يحظى “بشعبية كبيرة جداً”. وبرغم ان بريطانيا تعاملت مع قاسم بتسامح في الفترة الأولى من عهد النظام الجديد، الاّ انه سرعان ما انضم الى صنف القادة من امثال سوكارنو في اندونيسيا، وتشيدي جاغان في غويانا البريطانية، وجمال عبد الناصر في مصر، الذين اعتبروا أعداء لمصالح بريطانيا في العالم الثالث.لم تكن بريطانيا مهتمة بالطابع الاستبدادي لحكم قاسم وقمع اجهزته الامنية، وهذه العوامل لم تحدد موقفها منه. فالتهديدات التي كان يشكلها قاسم لخصها بوضوح احد الاعضاء البريطانيين في “شركة نفط العراق”، التي كانت تسيطر على النفط العراقي، في تقرير الى وزارة الخارجية البريطانية قبل بضعة أشهر فحسب من الاطاحة بالنظام في 8 شباط 1963. وجاء في التقرير ان عبد الكريم قاسم “يرغب في اعطاء العراق ما يعتبره استقلالاً سياسياً وكرامة ووحدة، وتعاوناً أخوياً مع بقية العرب، وحياداً بين الكتل المتنفذة في العالم. وهو يرغب في زيادة وتوزيع الثروة الوطنية، انطلاقاً من مبدأ وطني واشتراكي من جهة، وانطلاقاً من مجرد تعاطف مع الفقراء، من جهة اخرى. كما يريد، بالاستناد الى الرفاه الاقتصادي والعدالة، ان يبني مجتمعاً جديداً وديمقراطية جديدة. وهو يريد ان يستخدم هذا العراق القوي، الديمقراطي، كأداة لتحرير بقية العرب والاسيويين ـ الافريقيين والارتقاء بأوضاعهم والمساعدة بتدمير “الامبريالية”، وهو ما يعني به بشكل أساسي النفوذ البريطاني في البلدان النامية”.كانت سياسة عبد الكريم قاسم بشأن النفط موضوع كمّ كبير من المراسلات في ملفات الخارجية البريطانية التي رفعت عنها السرية وسبباً رئيساً وراء رغبة مخططي السياسة البريطانية في التخلص منه. وتكمن خلفية الأمر في ان قاسم أعلن في 1961 ان حكومته تريد الحصول على اكثر من 50 في المئة من الارباح المتأتية من صادرات النفط، وشكى ايضاً أن الشركات كانت تثبّت سعراً يخدم مصالحها بالذات. وفي قانون صدر في كانون الأول 1961، سعى الى حرمان “شركة نفط العراق” (آي بي سي) من حوالي 99,5 في المئة من امتيازها. وشملت الاراضي التي تم انتزاعها حقولاً نفطية ثمينة ذات احتياطي مثبت. كما نشرت في تشرين الأول 1962 مسودة قانون لانشاء “شركة نفط وطنية عراقية” جديدة، لكن القانون لم يكن قد اصبح نافذاً عندما وقع الانقلاب الذي أطاح بقاسم في 8 شباط 1963.ومن القضايا الاخرى التي كانت مصدر قلق كبير لبريطانيا، مطالبة العراق بضم الكويت. وفي 1961، ارسلت بريطانيا قوات الى الكويت لحمايتها، كما يفترض، من هجوم عراقي وشيك. لكن الملفات التي رفعت عنها السرية، تكشف ان بريطانيا لفقت التهديد العراقي كي تبرر تدخلاً بريطانياً من اجل تأمين اعتماد زعماء الكويت، الدولة الغنية بالنفط، على “الحماية” البريطانية. سقط نظام عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963 وجرى إعدامه في انقلاب قاده عبد السلام عارف واصبح احمد حسن البكر، من حزب البعث، رئيساً للوزراء. وبذلك وصل البعث الى السلطة للمرة الأولى. وكان الانقلاب حصيلة دعم وتنظيم كبير من قبل وكالة الاستخبارت المركزية الامريكية (سي آي أي)، وكان العقل المخطط له هو ويليام ليكلاند، الذي كان بمنصب ملحق في السفارة الامريكية في بغداد. وكانت الولايات المتحدة تآمرت بنشاط في وقت سابق لقتل عبد الكريم قاسم، وبعثت لجنة متخصصة في الـ”سي أي أي” ذات مرة بمنديل مطرز، مسموم، الى قاسم، لكن اما ان المحاولة فشلت او ان المنديل لم يصل الى الهدف المقصود. وحسب الكاتب سعيد ابو ريش، فان الولايات المتحدة أصرت قبل الانقلاب على تنفيذ خطة تفصيلية لإزالة الحزب الشيوعي العراقي كقوة في الحياة السياسية بالعراق، ما يعني التصفية الجسدية لأعضائه. ولذا زودت وكالة “سي آي أي” قادة انقلاب شباط بلائحة اسماء لهذه الحملة، وجرى ملاحقة حوالي 5 آلاف منهم وقتلهم. وكان بين الضحايا قادة عسكريون كبار اضافة الى محامين واساتذة جامعات ومعلمين واطباء. وكان من ضمنهم نساء حوامل ورجال مسنون، وتعرض كثيرون منهم الى التعذيب امام اولادهم. وجرت عمليات التصفيات الجسدية عبر استهداف الافراد، وباستخدام فرق مطاردة تداهم بيوتهم وتعرف هويات الضحايا المستهدفين وتنفذ احكام اعدام فورية. وقام روبرت كومر، العضو في مجلس الأمن القومي، بابلاغ الرئيس الامريكي جون كنيدي، فور وقوع الانقلاب في 8 شباط، بأن “الانقلاب مكسب لجانبنا”.كان صدام حينها مساهماً عن قرب بالانقلاب. فقد استفاد كلاجئ عراقي في القاهرة، هو وآخرون من مخططي الانقلاب، منذ 1961 من اتصالات مع وكالة “سي آي أي” رتبها القسم العراقي في الاستخبارات المصرية. وخلال الانقلاب، أسرع صدام بالعودة من القاهرة وساهم شخصياً بتعذيب اليساريين خلال المجازر. كانت بريطانيا ايضاً ترغب منذ وقت بعيد بسقوط عبد الكريم قاسم، وتؤكد الملفات السرية البريطانية ذلك في الأشهر التي سبقت الاطاحة به. هل تورطت بريطانيا بدور مباشر اكثر في الانقلاب؟ تتضمن الملفات التي رفعت عنها السرية اشارات الى استعداد بريطاني للمشاركة في إطاحة قاسم، ولم ترفع السرية بعد عن العديد من الملفات التي تعود الى تلك الفترة. ويبدو بالفعل ان بريطانيا ربما كان لديها علم مسبق بالانقلاب، لكن لا توجد أدلة مباشرة على أن بريطانيا كانت على صلة بمخططي الانقلاب، بخلاف الحال بالنسبة الى الولايات المتحدة.ولكن توجد بعض الاشارات الملفتة للانتباه. قبل خمسة أشهر من الاتقلاب، تشير ملاحظة لمسؤول في وزارة الخارجية البريطانية الى وجهة نظر السفير البريطاني في بغداد بأنه “كلما كان سقوط قاسم في وقت أقرب كلما كان ذلك أفضل، وانه ينبغي ألّا نكون انتقائيين اكثر مما يجب للمساعدة باتجاه هذه الغاية”. كما نقل عن السفير، السير روجر ألن، تأييده لـ”سياسة مبادرة ضد قاسم”. واشارت احدى المذكرات من السفير قبل خمسة اسابيع من الانقلاب الى مؤامرة انقلابية ضد قاسم وانه “تلقينا تأكيداً بأن الخطة جرى الاعداد لها بتفصيل وان أسماء كل اولئك الذين سيحتلون مناصب رئيسية قد تم اختيارها”. لكن هذه المذكرة لا تلمّح الى ان عبد السلام عارف، الذي تولى في النهاية قيادة الانقلاب، سيكون زعيمه. كما يلفت السفير الى أهمية أن “لا يبدو (موظفوه في السفارة ببغداد) على علم او على صلة بالتخطيط للانقلاب، وقد أكدت مؤخراً مرة اخرى على الموظفين، بما فيهم الملحق الجوي الجديد، انه يجب ان نتصرف دائماً بأقصى درجة من الحذر”.وقبل أحد عشر يوماً من الانقلاب، تم ابلاغ السفير البريطاني من قبل القائم بالاعمال الامريكي في بغداد بأنه “حان الوقت للشروع ببناء رصيد ثقة لدى خصوم قاسم، بانتظار اليوم الذي يحدث فيه تغيير بالحكم هنا”. واستنتج السفير أنه “للمرة الأولى منذ وجودي هنا، لدي إحساس بأن النهاية يمكن أن تأتي في المستقبل المنظور”. وقد يبدو ذلك أشبه بإشعار، على الأقل، من جانب الولايات المتحدة التي كانت سفارتها تتواطأ بشكل وثيق مع المتآمرين. وبالفعل، بعد يوم واحد على الانقلاب، في 9 شباط 1963، بعث السفير روجر ألن برقية الى وزارة الخارجية البريطانية مفادها أن وزير الدفاع الجديد “كان من المتوقع ان يصبح قائد سلاح الجو في حال وقوع انقلاب”، وهو ما يشير الى نوع من المعرفة المسبقة.

 

قد يهمك أيضاً

استضافة وتصميم: شركة المرام للدعاية والإعلان